"ليس في الحياة حقيقة واحدة مطلقة ولا زيف مطلق لكنك تجتهدين في إيجاد قاعدة ترتكزين عليها تكون أقرب إلى الحقيقة قدر الإمكان وأبعد عن الزيف أطول مسافة، وأنا يا بنيتي استخرت قلبي ووضعني في تلك النقطة بين الحقيقة والزيف وضميري مرتاح تمامًا.. قد لا توافقينني يا ميساء لكن أن أحارب الطاغية بسيف خشبي خير لي من أن أستعير سيف طاغية آخر أحارب تحت رايته". كان ذلك آخر كلام قاله عمر لابنته ميساء يوم أن زارها وأمها في المخيم قبل أن يعود للأرض المحتلة ويكمل كفاحه العبثي من وجهة نظرها. كانت توافقه في أن لا حقيقة مطلقة لكنها كانت تراه أقرب إلى الزيف أو لنقل تأدبًا أقرب إلى الغفلة أو قلة البصيرة، وكانت ترى المتحمسين له وحلفاءهم من النياندرتال غارقين في الزيف لا قريبين منه.
كانت تستطيع فهم دوافع المقاومين الأرضيين السائرين على خطى أبيها (وإن كانت تستنكرها)، وكانت تتفهم دوافع النياندرتال الذين يبيعون التقنيات والمعلومات لحكومات أرضية (ومن ضمنها مصر)، فعبيد المال هنا وهناك لكنها لم تفهم قط هؤلاء الثائرين النياندرتال الذين يكرهون قومهم ويساعدون في قتلهم بحجة أنهم يدافعون عن البشر "المساكين" ويرفضون الهجرة من كوكبهم الأم إلى كوكب الأرض.
كانت قد انتهت للتو من مواجهة واحد منهم، النياندرتال الذين يساعدون المقاومين المصريين ضد حكومتهم. كان الرجل قويا، وكان ظهوره أمامها مفاجئاً لكنها استطاعت أن تتغلب على عنصر المفاجأة وتشله بصاعق كهربائي معها أسقطه أرضا بعد أن ضربها في البداية وتسبب في كدمة قوية في وجهها.
دقت الباب ففتحه حبيب الذي كان يتوقع زميله لكنه فوجئ بميساء تركله بقوة في صدره فتسقطه للخلف، حاولت زوجته الأديتية أن تطلق سلاحها على ميساء لكن ضياء استغل الموقف وأسقط نفسه أرضًا محاولا التملص من الكرسي المقيد عليه. ارتبكت المرأة لحظة وهو ما جعل ميساء تقفز عليها وتسقط السلاح من يدها ثم تشتبك معها في عراك بالأيدي انتهى عندما استطاع ضياء الإمساك بالسلاح الواقع جواره وإطلاق النار على المرأة.
أصيب حبيب بالصدمة ونسي وجود ضياء وميساء وقفز نحو زوجته ملتاعًا وهو يحاول أن يسعفها. وضع يده على صدرها محاولًا أن يمنع اندفاع الدم من مكان الإصابة لكن المشكلة كانت أنها تحاول التقاط أنفاسها بصعوبة وهي تحاول أن تقول كلمة من بين أنفاسها الضائعة دون جدوى.
أخذ يقبل وجهها ويضغط على جرحها ويعتذر وهو يبكي، وهي تحاول التنفس ووجهها يزداد زرقة وأوردة رقبتها تزداد انتفاخًا حتى همدت مرة واحدة. حين فرغ كانت ميساء قد فكت قيود ضياء الذي نظر إليها في امتنان وقال "يبدو أنني مخطئ في تقدير مهاراتك القتالية والقيادية يا سيادة الملازم".
جلس حبيب على الأرض مستسلمًا لا يتكلم بعد أن يأس من امرأته وأيقن أنها ماتت ، أمسكه ضياء من ذراعه وأوقفه على قدميه ووضع سلاحه على رأسه وهو يطلب منه مرافقتهم. تقدم حبيب خطوتين لكنه استدار فجأة وأمسك ضياء من حنجرته وقبل أن يعتصرها بيديه ضربته ميساء على رأسه بعنف فسقط على الأرض مغشيًا عليه، ثم قالت لضياء "يبدو أنك ستعتاد على قيامي بإنقاذ حياتك".
حمله ضياء على كتفه وبدأ بنزول السلم ببطء وميساء معه شاهرة سلاحها المسدس المعتاد الكاتم للصوت، فقد كانت تكره ذلك السلاح الأديتي الذى يرتديه الواحد كقبضة معدنية. كانا يهبطان بحذر خوفًا من ظهور شركاء لحبيب. كان سلم العمارة رخاميًا فسيحًا وفي كل طابق كانت توجد أربعة أبواب لشقق سكنية, كانت تنظر لكل باب وكأن قذيفة ستخرج منه. مرت الدقائق التي هبطا فيها السلالم كالدهر, لكنها مرت بسلام بعدها خرجا من باب البناية ومشيا أقل من عشرة أمتار نحو المركبة في موكب لافت للنظر يزيد من احتمالية كشفهما.
فكرت ميساء أن تقلل المخاطرة فطلبت من ضياء البقاء في مدخل البناية على أن تذهب هي لإحضار المركبة. وضعت المسدس في حزامها ومشت في اتجاه المركبة متصنعة عدم الاكتراث كانت الشمس تميل للمغيب، وقد أنارت بعض المحال أضواءها. مشت بمحاذاة المبنى ودخلت أول شارع جانبي بعد ناصية يحتلها مطعم للمأكولات الأديتية وقد كُتبت تحت اسمه جملة؛ "مكوناتنا نجلبها يوميًا من كوكب أديتيا". كان فرعًا لمطعم آخر كبير في المهندسين مشهور بأنه مكان للقاءات الأولى بين الشباب الأرضيين والفتيات الأديتيات.
قبل أن تصل إلى المركبة وقفت طائرة دقيقة في مواجهتها على مدخل الشارع الجانبي. تسمرت أمامها بهدوء والطائرة تتفحص وجهها وعينيها ثم رن صوت أنثوي قائلًا: "تم التحقق من الهوية هناك مخالفة واحدة"، ثم خرج سهم صغير من المركبة وطار لجزء من الثانية قبل أن ينغرز في عنقها.
تألمت حين شكها السهم لكنها ظلت واقفة والسهم يفرغ مادة ما في رقبتها ثم وقع على الأرض، وقال الصوت الأنثوي: "تم حقن الأمصال الوقائية عليك سداد غرامة التكاسل عن التطعيم خلال يومين وإلا ستعاقبين بالجزاء رقم ١١ ب". تنفست الصعداء حين انصرفت الطائرة وعدت الأمتار الباقية نحو المركبة وطارت بها نحو مدخل البناية وأخذت ضياء وحمولته واتجها عائدين نحو المقر.
كانت تقود المركبة وتحسس رقبتها من جرعة المصل التي تلقتها والتي تسبب احمرارًا وألمًا يدوم بضع ساعات. أحست أنها على وشك أن تفرغ ما في جوفها فطلبت من ضياء استلام القيادة خشية أن يحدث طارئ وهي منشغلة بمعدتها المقلوبة. حسب السلطات الأديتية، هناك نوعان من الأمصال؛ نوع يعطى للبشر ونوع يعطى للنياندرتال وذلك للتخفيف من حدة الأمراض التي قد تنتقل بين الصنفين، وتُكرر الجرعة كل عامين إجباريًا وتكون أحيانًا -وليس دائمًا- مصحوبة بألم أو حكة وقيء ونادرًا حمى.
نرشح لك: ربيع الشتات.. الشباب العربي بين الحلم الضائع والبحث عن فرصة
طلبت المقر رد عليها سمير ودون أن تشعر تبادلت معه في البداية حديثًا مشحونًا بالعاطفة ما جعل ضياء يزفر في نفاد صبر ويقول: "بلغيه بتمام المهمة والقتيلة التي تركناها واغلقي قبل أن يُرصَد الاتصال". نظرت نحوه شذرًا وهي تذكره أنها أنقذت حياته للتو وتحذره ألا ينسى أنها رئيسته. "الرئيس لا يذكر مرؤسيه بسلطاته بل يتصرف كقائد ويتحمل مسؤولياته" قال متبرما لكنها تجاهلته وعادت لمكالمة سمير واطمأنت منه أن الاثنين الآخرين قد تم إحضارهما ولم يتبق غير واحد فقط.
كانت المركبة تسير ببطء في شوارع جانبية من السيدة زينب للدرب الأحمر ثم تعبر شارع الأزهر للجمالية فالدراسة ثم تعبر الشوارع الأكبر بسرعة عالية لكي لا تكتشف. كان الليل قد حل عندما وصل للمقر الثاني والمعد لاحتجاز الثلاثة المقبوض عليهم انتظارًا للرابع قبل أن يعطي إياد أوامره بطريقة وكيفية تسليمهم.
كان حبيب قد أفاق حين دخلت غرفته لتحقق معه وتأخذ منه اعترافًا مفصلًا بما فعل ذرًّا للرماد في وجوه المعارضين الذين سيتهمون الحكومة التي سلمتهم للنياندرتال بالخيانة والظلم. كان مقر الاحتجاز تحت الأرض في مكان بيوت مهجورة في الدويقة في سفح جبل المقطم.
ضغطت زرًا في الجدار فانبعثت إضاءة مركزة بالأساس على وجهه وبدأت بالحديث بشكل رسمي وهي تقول له: إن ذلك التحقيق مسجل والغرض منه توثيق اعترافه. كان ينظر إليها ووجهه جامد وثمة دمعة متجمدة في ركن عينه تفكر في النزول. سألته عن اسمه وعمره ومن أين لم يجبها فقالت: "سأتلو بياناتك وإن كان فيها شيء مختلف عليك الاعتراض".
تلت إجابة أسئلتها ولم يحرك ساكنًا بالإيجاب أو بالرفض ثم سألته: "أنت متهم بقتل فتيات أديتيات بعد تعليقهن على أعمدة وتعذيبهن لساعات بالاشتراك مع آخرين فما قولك"؟ لم يرد عليها فسألته بحدة مرة ثانية وقالت: إن صمته يعني موافقته فنوع التحقيق هذا لا يعطي المتهم الحق في الصمت بل إن الصمت يفسر أنه إقرار.
"لقد قتلتم الحياة في عيني". قال والدمعة المتجمدة تتغلب عليه وتسيل على خده فقالت: "لا تخرج عن نطاق السؤال". فقال لها "لقد كانت حبيبتي, كانت هي إجابة السؤال وبعد قتلها لم يعد هناك مغزى من أي سؤال أو جواب".
قال وهو ينظر بعيدًا عن الضوء محاولًا تمالك دموعه: "كانت هي من علمني أن أسامح نفسي كنت محطمًا يقتلني الإحساس بالذنب حاولت أن أكفر عن ذنبي بالانضمام إلى المقاومة مع عمر الزيبق. تعرفت عليها حاربنا جنبًا إلى جنب وكان إحساسي بالذنب يمنع اقترابي منها حتى احتوتني في ليلة جعلتني أَخُر باكيًا على صدرها ولم تسألني عن السبب، قالت إنها تحبني مهما كان السبب الذي يجعلني أعيش بين الناس كالغريب، وقالت إنها لا تبالي حين أكون على صدرها وعيناي هائمتان في الفراغ تفكران في شيء تجهله. اعترفت لها بكل شيء وطلبت منها المغفرة، فقالت إنها لا تملك صك مغفرة لكن من يجب أن يغفر لي هو أنا.. هل تصدقين هذا! كانت تقول إن مرور سنوات من إحساسي بالذنب تجاه هؤلاء المسكينات يكفي وأننا لا نقاتل دفاعًا عن الأرضيين فقط بل عن الأديتيين الفقراء الذين يساقون بحجج كاذبة لهجرة ديارهم والعيش في أرض مغتصبة تكرههم ويكرههم أهلها".
اختلجت أجفان ميساء لكنها تماسكت وسألته كأنها لم تسمعه: "كلامك يحمل اعترافًا ضمنيًا بالجريمة". نظر إليها متجهمًا وصمت لوهلة ثم قال: "أنا لا أعترف بهذا التحقيق ولا بحكومتك أصلا؛ أنت مجرد مرتزقة تعمل لصالح حكومة أسوأ من النياندرتال الغزاة".
فقدت صبرها حين نعتها بالمرتزقة فصفعته بقوة وهي تسبه وتطلب منه الإجابة على قدر السؤال والكف عن التفلسف والتنظير. كانت تريد الدفاع عن نفسها وتقول إنها ليست مرتزقة وإنها ضابط مجند برتبة ملازم في جيش بلدها، وإنها لو ماتت وهي تقاتل فستموت وهي متيقنة من صحة ما تفعله، وإنها إن ضحت بنفسها ستكون شهيدة يطلق اسمها على ميدان أو مدرسة في القاهرة بعد طرد الغزاة، وتدرس قصتها للتلاميذ وتحكي الجدات عنها لأحفادهن حكاية قبل النوم؛ عن ميساء التي هزمت الأشرار وطردتهم من بلادها وأعادت لمصر لقب مقبرة الغزاة. كانت تريد أن تدافع عن نفسها لكنها تعلمت أن ذلك من المحرمات في الاستجواب وأنها ينبغي أن تظل متحكمة في المتهم وألا تعطيه فرصة لاستفزازها وجعلها في وضع من يبرر أفعاله.
** "المستوطنة الأخيرة" هي الجزء الثاني من رواية "نياندرتال" للكاتب الدكتور سراج منير، والتي ستصدر 2 أكتوبر المقبل.
للتواصل مع الكاتب من "هنا" أو من خلال التعليقات
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب