علی ما يبدو أن الله هجر هذا القلب منذ سنين ورحل.
في الوحدة أنت تعيش حياة عادية، عادية جدًا، تعيش حياة رتيبة مملة، تستيقظ، تعمل، تأكل، تشرب، تتغوط، تتبول، تدخن بشراهة، تدخن دون ملل، وتأكل دون شبع إلی أن يصل بك الأمر حد التخمة ولا تهتم، يخبرك الطبيب أن قلبك يعاني وأن رئتيك استهلكهما التبغ والرماد، فتشعل لفافة أخری بدل التي هرستها بقدميك للتو وتسأله متی سأموت!
تعيش في الوحدة حياة غريبة غير آدمية، عبثية بحتة تحكم الأمور، تستيقظ في يوم متأخرًا عن العمل فتقرر عدم الذهاب، تشعر بنوبة حزن وكآبة قد تجعلك تعجز عن رفع قدميك عن الأرض والحركة قيد أنملة، فتتكوم علی نفسك بركن قصيّ في منزلك وتبكي، تبكي دون سبب، أحيانا لاشتياقك للبكاء ولجفاف مجری عيونك بسبب عدم البكاء في الخارج وانشغالك بالعمل وممارسة الجنس وأكل الوجبات السريعة، تتذكر أسباب وحدتك، وتنام. كل شيء في الوحدة قاسي وموحش، لا شيء جديد، فجأة تستيقظ في يوم ما تجد نفسك قد ضعت في الوحدة، ضعت من الوحدة، من الخذلان من أقرب الناس لك، من قسوة العالم بالخارج. إنها أزمتي الأبدية، أعيش ولا أحيا، أغفو ولا أنام، الحياة تتحول لمعزوفة مملة قميئة.
الاكتئاب، اليأس، العجز، العزلة، التنمر، وشعور الغربة وسط الناس، كلها أشياء قد تقتل. فجأة وجدت أن الحياة ضاعت مني وأنا في العشرينات، لا أفكر في الغد، أعيش اليوم وأتمنی نهايته ثم أجدني أستيقظ في اليوم التالي لأعيش اليوم السابق، وتستمر الأيام والشهور والسنين في أكل جسدك، ويستمر الاكتئاب ووحشته في نهش ما بداخلك دون تغيير.
أذكر بداية الحياة
في مرة سخر أحد أساتذتي من اسمي. حينما سألني عن اسمي قلت في فخر "عبد اللطيف أحمد عبد اللطيف" فضحك، وضحك باقي الفصل وقال لي إن هذا الاسم لا يصلح لطالب في الابتدائية، وإنه يليق أكثر لموظف حكومي في الخامسة والأربعين بكرش متدلي ونظارة نظر مكعبة!
ضحك الجميع للدعابة الرديئة، ولكني لم أضحك، ولم أبكِ رغم رغبتي الجامحة في ذلك، وحينما عدت للبيت لاحظت أمي الحزن عليّ وسألتني عن السبب، فبكيت وأخبرتها أن كل زملائي يستهزئون من اسمي ومن شكل جسدي النحيف، ومن قولي، ومن كل شيء. العالم في الخارج قاسي يا أمي، فضمتني إلی صدرها وقالت لي إن اسمي هو أحب شيء لها، قالت:
فلتتذكر دومًا أن الله لطيف بعباده وأن اللُطف صفة ربانية لا يبلغها كل الناس، لعل هذا قد يعزيك دومًا في حياتك عن قسوة العالم في الخارج. أمي كانت تقول دومًا أن العالم في الخارج مليء بالأشرار وقساة القلوب فلتكن أنت الوجه الآخر له. كلنا نحاول أن لا نكون أشرار، لا تُحمل نفسك ما ليس بوسعها يا عزيزي. ولتعلم أن أقصی ما يمكنك فعله في هذا العالم هو ألا تكون بشعًا، وليكن في قلبك لُطف من الله ونصيب من اسمك دائمًا.
أمي الوحيدة في العالم التي كانت تتمكن من اقتلاع الحزن من قلبي دون معاناة، ولكنها رحلت، وانتزاع الأحباب من قلوبنا أصعب بكثير من دخول غيرهم، بعد الفقد دومًا يأتي الاكتئاب كوحش قبيح يود آكل قلبك، يتغذی عليه في المساء يأكله فينبت في الصباح مع طلوع الشمس بفعل غريزة البقاء والاستمرار هنا، لتُعذب كبرومثيوس الأسطورة الإغريقية الذي عوقب بسبب سرقة النار من أجل الناس بنسر يأتي لينهش كبده كل يوم.
حينما يموت الناس نبكي علی حالنا بعدهم، ولكن حينما يرحل أحدهم وهو علی قيد الحياة نعلم أن البكاء لن يفيد وأن جرح الفراق والشعور بالفقد سيظل يلازمنا طوال العمر..
أدركت أنني قد ضعت في الحياة وأنا في مقتبلها، لا أمل ولا جديد، الخوف وحده هو عدوي والرغبة في الخلاص منه مرهقة كمطاردة خيوط الدخان. ضياع لا ينتهي، فشل ذريع كل يوم. محاولات بلا جدوی لإيجاد شخص واحد يمكنني التحدث معه عن شيء بسيط يرعبني وعن أرقي في الليلة الماضية والألم الذي يضرب جدران صدري من نوبات الهلع التي تباغتني، لا أمل ولا جديد.
أنا محاط بالذكريات دومًا، التي أحبها والتي تعذبني، كل شيء أصنعه اليوم يعد ذكری غدًا، ذكری بعيدة تعلق بي.
بعد ترك المطعم ونفاذ النقود اضطررت للبحث عن عمل حتی استقر بي الحال للعمل بمصنع ملابس في فترة مسائية، ولمدة ستة أشهر كنت أشعر بأنه ليس مرحبًا بي هناك، ولكن العائد المادي كان مجزيًا لذلك بقيت، وفي يوم جاءني عامل أكبر مني نفوذًا وقال لي:
ستسافر غدًا للإسكندرية، هناك عميل لنا ستذهب له وتجلب منه دفعة من أموالنا، سيقابلك في محطة القطار في الثامنة والنصف مساءً، عليك أن تكون في المحطة وتنتظره.
لم أكن أعرف من سأقابل ولكنه قال إنه سيعرفني ويعطني المال وأعود، سألت من هو أو كيف سأعرفه ولكنه قال إنه سيعرفني، سألت عن إذن السفر من صاحب المصنع ولكنه قال إني مكلف بهذا الأمر وهو من يأمر وأنا أنفذ فقط. لم يترك لي مجال للاستفسار أو الهرب، قال لي السفر من محطة مصر والميعاد في الثامنة والنصف في محطة الإسكندرية.
وفي اليوم الثاني تغيبت عن الذهاب للمصنع وسافرت في القطار وتلك كانت تقريبًا المرة الأولى التي أستقل فيها القطار أو أسافر خارج القاهرة.
في القطار جلست بجوار النافذة، والغريب أنني منذ الصغر أحب الجلوس بجانب النافذة، في الصغر كنت أقرأ اللافتات التي علی جانبي الطريق، وحينما كبرت قليلًا صرت أكتفي بإسناد رأسي الثقيل من التعب علی النافذة، ومثلما كنت أفعل كنت أجد من هم في عمري يفعلون هذا أيضًا فأدركت أن للجميع رؤوس ثقيلة عليهم ولا يجدون سوی النوافذ لإنقاذهم من الميل.
كان الطريق طويلًا وظللت أنا متكئًا علی النافذة. في الطريق كانت بجانبي سيدة خمسينية مهندمة، وجدتها طلبت لي شايًا، لكذتني ثم قدمته لي بفطرة أمومة، رفضت بأدب ولكنها أصرت، فمددت يدي إلی الكوب وارتشفته في صمت، حاولت أن تحدثني ولكن رأسي كان غارقًا في التفكير. قالت لي إنها ذاهبة لزيارة ابنتها التي تعيش مع أبنائها الصغار وحيدة لأن زوجها مهندس بترول بإحدى الدول العربية، هززت رأسي في ملل حقيقي فأدركت المرأة حقيقة أمري وتركتني غارقًا في جحيم عقلي وصمتت.
غفوت ولا أعرف كيف، كنا تقريبًا في منتصف الطريق حسب قول المحصل الذي أتی قبل أن أغفو ليسأل عن التذكرة..
** رواية "امرأة عابرة ورجل وحيد" صادرة عن دار أكتب، للكاتب سيد عبد الحميد
وللتواصل مع الكاتب من "هنا" أو من خلال التعليقات
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب