صدرت حديثا رواية "البومة السوداء"، للكاتب الروائي خليل الجيزاوي، عن سلسلة إبداعات عربية عن دائرة الثقافة بالشارقة الإمارات العربية، وهي الرواية الثامنة في مشروع الجيزاوي الروائي.
وقَدَّمَ الدكتور عمر عبد العزيز الرواية بكلمة نقدية قائلا: "السردية الماثلة بعنوان البومة السوداء، للسارد الكاتب خليل الجيزاوي، تنتمي إلى عالم الرواية السير ذاتية، والتي سلَّم السارد العليم قيادها لسيرة جدته، واستتباعاً لعائلته، مُمازجًا بين السيرة والرواية البوليفونية متعددة الأصوات مُتابعاً رصد سيرة العائلة الريفية بتسلسل ناعم، وتكشُّفات نابشة لمعقول اللا معقول في عالم الوعي والوجود، المُوازيين لعالمي اللاشعور النفسي والغرائبية الوجودية، المُتَّصلتين بالثقافة التاريخية القادمة من العلاقة العضوية بالماورائيات، بشقيها الحميد وغير الحميد، في معادلة تلك المنظومة من السير المتداخلة، ينتصب الموت كما لو أنه مشروع حياة تنقطع لتؤذن بسفر نحو حياة موازية.. سفر نحو الغياب، لقد تجلَّت هذه الفكرة المركزية في معادلتي الموت والحياة منذ الموروثات الثقافية التاريخية الأقدم، واكتست طابعها الأميز في الثقافة الإسلامية التي تستقرئ الحضور في الغياب والعكس بالعكس.
في نص الرواية العديد من المحطات المهمة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: استحضار الأدوار المهمة للكائنات المختلفة، ومثالها الكلب "عنتر" الذي يُباشر دوره اليومي بوصفِهِ حَامي حِمَى دواجن المنزل من هجمات الثعالب المنتشرة في البراري القريبة، كما يستحضر المؤلف لمحات وامضة من الآداب التدوينية ذات الصلة بالآداب الماورائية، دونما تردد في توظيف نصوص دالة، والاستغوار فيها، وخاصة النصوص القرآنية والأدعية والأوراد الصوفية والطلمسات، مع إمعان في السرد الواقعي بالتوازي مع المتغيرات التي شملت الريف المصري بعد انعطافة يوليو لعام 1952، وما اتصل بها من قوانين جديد للملكية، وانعكاساتها المؤكدة على العلاقة بين الأرض والإنسان، يقرن السارد طمأنينة الماضي التاريخي في أرض الزراعة الممتدة على ضفاف النيل، إلى سيادة الاسترخاء في أحضان الأصول الموروثة من تواريخ الإسلام السُنِّي الأشعري المُتصوف؛ ولكن دون مباشرة في الخطاب، كما يرى في المُتغيرات التي تلت سقوط النظام الملكي ضرورة موضوعية نابعة من التحولات الجبرية في التاريخ الإنساني التي طالما وقف عندها علماء التاريخ الكبار، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: ابن خلدون وجوستاف لوبون وكارل ماركس، يقدم لنا الروائي خليل الجيزاوي سيرة ذاتية مُتناغمة مع نص روائي بوليفوني مُتعدد الأصوات، فيما يُعيدُ إلى الأذهان تلك المحطات السردية العربية المُعاصرة التي طالما اتصلت بالريف والمدينة، وفي المقدمة منها نصوص محمد عبد الحليم عبد الله الريفية، ونصوص نجيب محفوظ المدينية، ولا أزعم هنا أن ما سطَّره الجيزاوي إحياءٌ نمطيٌّ لتلك النصوص الباذخة، بل هو مزيد من الحفر الباحث عن مكنونات العلاقة بين الريف والمدينة، واتصالاً بذلك العلاقة بين الأنا الساردة والوسط المحيط".
ويكتب الدكتور تامر عبد العزيز أستاذ البلاغة والنقد الأدبي المساعد بكلية دار العلوم جامعة المنيا عن الرواية قائلا: "تتخذُ الرواية من أسطورة (البومة السوداء) بنية نصية، وبنية دلالية تلقي فيها تلك الأسطورة بظلالها على المحيط العائلي الذي تنهلُ منه الرواية مادتها الحكائية، في شكلٍ يُكرّسُ لسيرة جمعية لا ذاتية، من خلال الرغبة الذاتية في تحقيق وصية الجدة (عز/ شهرزاد التي تعودُ للحكي من جديد)، ولكن في نَصٍ مُعاصر لا تختلف عجائبه كثيرًا عن عجائب مخلوقات ألف ليلة وليلة، وعالم شهرزاد الحكائي، فنواة الحكي تجربة ذاتية في الأساس، باعتماد السرد على حكايات الجدة التي تتفرعُ عنها حكايات متصلة بتيمة أساسية، يُعيدُ السرد طرحها بشكل تراجيدي، تبلغُ فيه المأساة حد البكاء والنحيب إثر (فقد الأحبة) واحدًا بعد الآخر، فتعيدُ نسج حكاياتهم الخاصة، من خلال اتكاء السرد على الجداريات التي تتابعُ في السرد، وتُصبحُ صور المعلقات على الحائط صورًا نابضة بالحركة والحياة، تقومُ الذات السارد بتقسيم الجداريات إلى محطات عُمْرية مُتلاحقة، تُشكِّلُ كل جدارية منها (الصورة الملتصقة بالحائط) محطة عُمْرية تتصلُ بمواقفَ أبطالُها هم أصحاب هذه الجداريات، ومع تواتر تلك الجداريات وحكاياتاتها المُغْرِية في جانبيها الواقعي والفانتازي يداعبنا النص بطيف من حنين يؤزّ الفؤاد، حين تمسُّ وترًا يُعانقُ شغاف القلوب؛ إذ تُطلُّ علينا بين صفحاتها وجوهًا نألفها ونحبها، وتُحرّك فينا وجع الغياب والبعاد، مع فقد أصحاب هذه الجداريات، حتى يفقد المروي عليه في هذا السرد السارد الأصلي، وتُصبحُ لديه مَهمَّة سرد تلك الحكايات، وتنفيذ الوصية؛ ليصيرَ المروي عليه راويًا، بل روائيًا يقيم صلب هذه المادة الحكائية الأثيرة، ويُعيدُ إنتاجها في نصٍ يَكْسِرُ أفق توقع القارئ، حين تنأى رغبة البوح والكتابة عن تسجيل الاعترافات أو تجميل الحقيقة؛ لأن الذات هنا لا تسجل بطولة ذاتية، وإنما تتوارى مرة أخرى؛ لتعيدَ للماضي حقه الإنساني، وتُقَدَمُ بطولة جمعية في زمنٍ يحتاجُ إليها".
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب