مروة محمد
كلما تقدمنا في العمر، كلما نضجت أفكارنا، وشعرنا بمدى ضآلة هذه الحياة، وإحساسنا بالتشتت بسبب إهدارنا لفرص ثمينة في خلق حياة تمتلئ بالحب والسعادة. الحب والسعادة شعوران متلازمان للإنسان، يجب استغلال الفرصة عندما يعثر عليهما، ولا يفرط فيهما أيا كانت الأسباب.
لمست رواية "الديناصور" الصادرة عن دار دون، للكاتب عمرو حسين، قلبي، بل إنها ساعدتني في رؤية الحياة من منظور آخر، استرجعت من خلالها ذكرياتي مع جدتي، رسمت الرواية من خلال مضمونها صورة لجدي، الذي لم يمهلني القدر فرصة واحدة لرؤيته، والتعرف عليه عن قرب. فالرواية كلاسيكية ذات طابع خاص، أعادتني لزمن تمنيت أن أعيشه، وفي نفس الوقت جسدت ما نحيا فيه الآن فى عصر التكنولوجيا والسوشيال ميديا.
تمثل السوشيال ميديا سلاحا ذو حدين، وذلك لأن الهدف الأساسي لها التواصل بين البشر بالرغم من بعد المسافات بينهم. ولكن تبدل دورها في الآونة الأخيرة، فأصبحت تبعد المسافات بين البشر، واستسهل الإنسان الاطمئنان على أهله، وأحبابه فقط من خلال وسائل ومنصات التواصل الاجتماعي.
تتضمن رواية الديناصور العديد من الرسائل الإنسانية المختلفة، فهي رسالة حب من زمن آخر مختلف، ومن أهم هذه الرسائل، كيفية تواصل الأجيال على الرغم من اختلاف وسائل التواصل والفكر، فلكل زمن أسلوبه في تعبير الإنسان عنه.
جسدت الرواية أجمل وأسمى شعور في الحياة، وهو الحب الذي يخلق منا أشخاصا آخرين، ويعطي لحياتنا مذاقا مميزا، يساعدنا على تحمل ضغوطات ومتاعب الحياة. ولكن قد يكون هذا الحب عذابا إن لم نتخذ القرار والشجاعة الكافية في الاعتراف به لمن نحب، حتى لا تضيع منا فرصة ذهبية، بسبب خوفنا من الاعتراف به، فنشعر بالندم طوال حياتنا، لأن القدر قد أعطانا فرصة، وأضعناها فى غمضة عين.
أحببت شخصيات الرواية للغاية، تعاطفت مع شخصية "جدو مصطفى"، أحببت مشاعره، تعامله وحنية قلبه مع حفيدته "نادية". أعجبني تمسكه وحبه للكتابة عن ذكرياته، فالذكريات بمثابة عكاز يستند عليه الإنسان، كي يستطيع مواصلة الحياة، والتغلب على الوحدة.
السرد ممتع للغاية، فأسلوب الرواية أكثر من رائع، ووصف الأماكن والشوارع في المعادي بما تحتويه من طبيعة خلابة وأماكن عريقة وجذابة، خلق هالة من الوجدانية والمشاعر الإنسانية، وارتباط الذكريات بهذه الأماكن طوال أيام حياتنا، وحتى إن تقدم بنا العمر.
جددت الرواية بداخلي مشاعر التواصل مع من فقدناهم وافتقدناهم، التواصل مع من تفصلنا بينهم مسافات بعيدة، وتعريف الحب الذي تمتد جذوره لأجيال وأجيال، ولا تتوقف حدوده فقط عند الحبيب والحبيبة، بل قد تصل إلى حب الجد لأحفاده، وما أروع هذا الشعور عندما ينبع من قلب صادق.
ومن اقتباسات الرواية، التي لفتت انتباهي وأعدت قراءتها أكثر من مرة: "كلما أحببت بصدق توقف لساني عاجزا عن التعبير. كتمان الحب خطيئة كبرى. ومع تقدم العمر صرت أكثر تحررا من قيود حياة أوشك أن أودعها". وما أجمل استمرارية الشعور بالحب وإن فارقنا من أحببناهم، وهذا ما عبر عنه جدو مصطفى لحفيدته نادية عندما كتب له رسالة، ووصف فيها مشاعره تجاهها وحبه لها. فقد كتب لها في رسالته "يا حبيبتى إن الحب ليس بالكم، إنما العشق مقامات في القلب، وكل ما أردت أن أقوله لك، إن مقامك في قلبي كمقامها، مثل ما اخترت لك اسمها".
ومن ضمن رسائل رواية "الديناصور" عدم تكرار أخطاء الماضي، وعدم إهدار فرصنا في الحب والعشق، وعدم كتمان الحب، فقد يصادف الإنسان الحب مرة واحدة فقط في حياته. قد تشيخ ذاكرته، كلما تقدم في العمر، تتلاشى من ذاكرته شخوص وأسماء من عاش وتعايش معهم طوال عمره. وعلى النقيض تحفر ذاكرته أسماء آخرين، يظل الزمن عاجزا على محوهم، على الرغم من تلف هذه الذاكرة، وقيامها بحذف آخرين.
عنوان رواية الديناصور، قد يبدو غريبا للوهلة الأولى قبل البدء في قراءة الرواية، ولكن بعد التعمق وقراءة الصفحات الأولى للرواية، يتضح للقارئ مدى ارتباط العنوان بمضمون أحداث الرواية. فقد انقرضت الديناصورات، كما انقرضت مشاعر الحب الحقيقي، والتواصل الأسري، بل انقرض التواصل مع أحبائنا، وفقدنا أبسط المشاعر الإنسانية التي تميزنا عن سائر مخلوقات الأرض، وانقرضت هذه الأحاسيس.
استمتعت بقراءة هذه التحفة الفنية، التي جددت ذكرياتي، وخلقت حياة كدت أن أنساها، بل إنها أعادت لي شعور بالأمل في مواصلة هذه الحياة رغم شقائها. ممتنة لهذه الرواية، وممتنة أكثر لقلم "عمرو حسين" ولإبداعه الفني.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب