القائمة الرئيسية

الصفحات

"أريد أن أصلح قلبي".. قصة جديدة لـ نهلة كرم

 


"أريد أن أُصلح قلبي" قالت الفتاة وهي تضع قلبها على الطاولة أمام المرأة، توقفت المرأة عن إصلاح القلب الذي بيدها، ونظرت إلى قلب الفتاة "لم يعد بإماكاني إصلاحه، الكسر تلك المرة أكبر من المرات السابقة".


توسلت الفتاة إليها، لكن المرأة أصرت "قلت لكِ المرة الماضية أن تحذري لأن قلبك لم يعد يحتمل كسر أو إصلاح"، بكت الفتاة "تجنبت كثيرًا أن أعرضه لذلك، كنت أقول على كل كلامه كذب، المرة الوحيدة التي صدقته بها انكسر قلبي، أرجوكِ أفعلي أي شيء، أصلحتيه في كل المرات السابقة، بإمكانكِ أن تصلحيه تلك المرة أيضًا".." في المرات السابقة كانت الكسور أقل وسطحية، تلك المرة أفسد الكسر الجديد كل ما أصلحته".


بدأت الفتاة تنتحب "لا يمكنني أن أعيش بهذا الوجع، في الليل يجتمع كل من كسر قلبي، يتسامرون ويتباهى كل منهم وهو يشير إلى موضع الكسر الذي سببه "كسري أكبر من كسرك، بل كسري أكبر، دعنا نقيس الكسرين" بينما ينتظر هو حتى ينتهوا ليشير إلى كسره الأخير ويقول "أنا من أفسدت جميع الإصلاحات السابقة في كسوركم، فعادت الكسور أكثر عمقًا، بإمكان الماضي أن يتسلل عبرها كما شاء ليمنع الفتاة عن رؤية أي زمن غيره".


تذللت الفتاة للمرأة "لم أعد أحتمل تلك الأصوات التي لا أستطيع السيطرة عليها، إما أن تصلحيه وتسدي عليهم الطريق إليً، أو أقتل نفسي"، أشفقت المرأة عليها، نظرت إلى قلبها ثانية، وبدأت تفكر كيف يمكنها أن تُصلح هذا الكسر الكبير، فحتى لو جبرت الكسر، حتى لو ظلت تحتضنه أيامًا طويلة، ستظل هناك كسور خفية لن تتمكن المرأة من إصلاحها، سينبعث منها صوتًا خفيًا لن تستطيع الفتاة تحديد كلماته لكنها ستشعر بألم غير مفهوم.


فكرت المرأة بأن الفتاة قد تظن أنها بلا ضمير، ولم تصلح كسرها بشكل كافِ لتعود إليها وتدفع لها ثانية، لكنها قالت لنفسها إن الفتاة لو عادت لن تأخذ منها أي أموال، ستخبرها فقط أن الألم الذي تشعر به طبيعي لأن القلب لا يزال في مرحلة التعافي، وربما تقتنع الفتاة وتبدأ في النظر أمامها، فيعالج الزمن الكسور الأخرى دون حاجة إلى تدخل، لكن الأهم من كل ذلك ألا تسمح لأحد بأن يكسر قلبها مرة أخرى.


نظرت المرأة إلى الفتاة وقالت لها "أقسمي بأني إذا أصلحته تلك المرة لن تدعي أحدًا يكسره ثانية، أقسمي ألا تصدقي الأكاذيب، أقسمي ألا تعتبي متجري ثانية.. أقسمي.."، أقسمت الفتاة بكل شيء، تنفست المرأة بارتياح وطلبت منها أن تختار من المتجر ما تضعه مكان قلبها حتى يتم إصلاحه.


توقفت الفتاة عن البكاء وابتسمت بعد أن تأكدت أن المرأة قبلت بإصلاح قلبها، التفتت إلى بدائل القلوب الموضوعة على إحدى الطاولات، اقتربت لتمسك إحدى الزهور، كانت قد اختارت من قبل زهرة لتحل محل قلبها عدة أيام، كانت تجربتها معها جيدة، ما أن خرجت من المتجر حتى جذبت رائحة الزهرة الرجال إليها، كانوا يبتسمون إليها ويلقون بكلمات الحب، كان لديها حرية اختيار تلقي ما تشاء، فلم يكن لديها قلب تخشى عليه، كل ما كان سيحدث أن تسقط أوراق الزهرة مع كل كلمة كاذبة.


كانت تتوقف حين يعجبها أحد أولئك الذين ألقى إليها بكلمة حب، تنظر في عينيه وتقرر أن تصدقه حتى لو شعرت أنه كاذب، كانت تستمع بابتسامته المتباهية لأنها صدقته قبل أن يخبرها أن ما قاله لم يكن سوى بصقة أساءت سمعها، تسقط إحدى الورقات من الوردة، فتعاود اللعب من جديد وهي تعتذر للزهرة" سامحيني، لا يمكنني أن أفعل ذلك حين يكون قلبي هنا، فأوراقك حتى لو تساقطت ستنبت من جديد حتى ولو بألوان أخرى، لكن ما ينكسر في القلب لا ينصلح تمامًا، لا يمكنني اللعب بقلبي لاختبار الفرق بين كلمات الحب الصادقة والبصق، لكن معكٍ يسهل ذلك".


ظلت الفتاة تلعب طوال أيام وهي تُجري اختبارات على أوراق الزهرة "كلمة حقيقية..بصقة..كلمة حقيقية..بصقة"، حتى لم يعد يتبقى من الزهرة سوى ورقتين، بدأت الفتاة تشعر بالتعب، فركضت إلى متجر المرأة، كان قلبها قد تم إصلاحه، وأصبح جاهزًا ليًوضع محل الزهرة التي ألقت بها المرأة في سلة المهملات، وهي تقول للفتاة "لا تفعلي بقلبك ما فعلتيه بالزهرة أبدًا"، هزت الفتاة رأسها بالإيجاب، لكن بعد فترة قصيرة عادت بكسر آخر.


في كل مرة كانت تعود إلى المتجر كانت تختار بديلاً مختلفًا، لتجرب كيف يكشف لها الصدق من البصق، ذات مرة اختارت ساعة كانت عقاربها تلدغ الزمن كلما تلقت بصقة حتى كاد الوقت أن ينتهي  داخل الفتاة، هذه المرة ركضت إلى المتجر أسرع من المرة التي كانت الزهرة بداخلها، قالت المرأة لها "أتظني أن الأمر لعبة لمجرد أنه ليس قلبًا حقيقيًا! انتبهي لأن مكان قلبك لا يحتمل كثرة التبديل أيضًا".


أرادت أن تخيفها أكثر فاستطردت "هناك احتمالية أن يتسع هذا المكان، حتى إذا ما حاولنا أن نضع القلب بداخله سقط منه، سنضطر إلى لصقه لكنه قد يقع منكِ دون أن تنتبهي وتفقدينه، هل تريدين أن تقضي ما بقى لكِ من حياة تبحثين عن قلبك؟".


فزعت الفتاة أقسمت أنها لن تلعب بأي شيء ثانية، لا بقلبها ولا ببدائله، وحافظت على قسمها مدة أطول تلك المرة، لكنها عادت بعد فترة بقلب منهك من تكرار الكسر، هذه المرة اختارت لها المرأة بديلاً بنفسها، كان عبارة عن جهاز تسجيل لا ينبعث منه سوى صوت واحد "لا تصدقي أيتها الحمقاء، فكل ما تسمعينه كذب"، كانت المرة الوحيدة التي عادت فيها الفتاة إلى المتجر بالبديل سليمًا، فتمكنت المرأة من عرضه ثانية لزبائنها.


لم تكن الفتاة اختارت بعد ما ستضعه هذه المرة، بحثت عن جهاز التسجيل فلم تجده معروضًا، قالت لها المرأة إن الزبون الذي أخذه لا يزال أمام قلبه يومين لإصلاحه، شعرت الفتاة باليأس والخوف، فهو البديل الوحيد الذي حماها من الألم الذي يعقب سوء تفسير البصقات، فلو كان ممكنًا لاختارته بديلاً دائمًا للقلب.


اقترحت عليها المرأة أن تأخذ بابًا حديديًا على شكل قلب "هذا الباب عازل لكل الأصوات، لا يمكن أن يتسرب من خلاله أي شيء"، شعرت الفتاة بالاطمئنان فهذا الباب حتمًا سيحميها من أي بصقات، لكنها حين نظرت إلى سعره علمت أنه لا يمكنها تحمله.


فهمت المرأة معنى نظرات الفتاة، قالت لها "هو أغلى بديل هنا لأنه يوفر حماية كاملة لأيام طويلة، بعضهم يستخدمونه لمدة بعد أن تُصلح قلوبهم، يظلوا يبدلون بين قلوبهم وبينه على فترات حتى يضمنوا ألا تصدأ قلوبهم من قلة الاستخدام، وفي نفس الوقت يضمنون أن قلوبهم ترتاح تمامًا من أخذ القرارات التي قد تكسرها ثانية".


حقدت الفتاة في تلك اللحظة على جميع الأغنياء الذين يإمكانهم كسر قلوب الآخرين والحفاظ على قلوبهم سليمة، فكرت أن الأخير الذي أفسد لها ما أصلحته من كسور حتمًا كان يمتلك هذا الباب الحديدي حينما بصق بوجهها بكل الأكاذيب التي لم يستطع قلبها تحمل اكتشاف حقيقتها، فأنشق في البداية إلى نصفين ثم إلى أربع أجزاء، قبل أن تتزايد الكسور ولم تعد تستطيع عدها.


قالت الفتاة أنها ستأخذ الزهرة، الشيء الذي تستطيع تحمل تكلفته، لكن المرأة أصبحت تعرف الفتاة وتفهم أن أوراق الزهرة لن تبقى في مكانها أكثر من يوم، قالت لها إنها ستمنحها الباب بنفس ثمن الزهرة، فهي تضمن أن الباب لن يتضرر، وستحاول أن تبدأ في إصلاح قلبها قبل باقي القلوب، حتى تنتهي منه في أسرع وقت، وتستعيد الباب بسرعة قبل أن يأتيها أي زبون ثري.عادت السعادة للفتاة ثانية، وظلت تشكرها، حتى طلبت منها المرأة أن ترحل وتتركها، لتباشر عملها وتعود إليها بعد يومين.


حين عادت الفتاة كان قلبها قد تم إصلاحه فعلاً، لكن المرأة هذه المرة جهزت بجواره ورقة، كانت قد كتبت قائمة بالأشياء التي على الفتاة أن تقسم ألا تفعلها، قبل أن تمنحها قلبها، أقسمت الفتاة أنها لن تفعل كل الأشياء الموجودة في القائمة أبدًا أبدًا، فمنحتها المرأة قلبها وهي تخبرها أنها لن تتمكن من إصلاح قلبها ثانية إذا ما عادت به، وأنها لن تُشفق عليها ثانية، لأنها كبيرة بما يكفي لتفهم أن القلوب ليست لعبة لنمنحها للآخرين بكل هذه السهولة.


هزت الفتاة رأسها بضيق، أدركت أنها لن تشعر بسعادة ولو لحظية مرة أخرى، فأي سعادة كاذبة بإمكانها أن تقضي على قلبها تمامًا دون أن تكون هناك فرصة لإصلاحه، قالت لنفسها عدم الشعور بالسعادة أفضل من الشعور بالألم.


ظلت تُردد هذه الجملة طوال طريق عودتها إلى البيت، وطوال الليل، وحين كانت تعد الفطور أو الغداء أو العشاء، وحين كانت تشعر بالوحدة وتطل من النافذة وتفكر فيمن يمكنه أن يسد الفراغ الذي يملأ أيامها "عدم الشعور بالسعادة أفضل من الشعور بالألم".


كانت تعيد هذه الجملة في كل مرة تشعر فيها بأنها على وشك أن تضعف، هذا الضعف الذي يفتح الباب أمام البصقات، حتى جاء هذا اليوم الذي سمعت فيه نقرات على الباب قبل أن تسمع صوته يناديها ويطلب منها أن تفتح الباب، "أمشي" قالت له بصوت حازم بعد أن تذكرت الكسر الذي صنعه وأفسد كل شيء بداخلها، قال لها إنه لا يحتمل العيش بدونها.


تذكرت أن هذه الجملة على رأس القائمة التي منحتها لها المرأة، وطلبت منها ألا تصدقها، فقالت بحزم ثانية "عُد من حيث أتيت"، سمعت صوت بكائه لكن البكاء كانت النقطة رقم "14" في القائمة، صرخت به هذه المرة "كاااااذب"، لكنه ظل يستعطفها وهو ينتحب، ويقول لها كل الأشياء التي كتبتها لها المرأة في القائمة وحذرتها منها، كانت تجلس خلف الباب في البداية وتمسك بالورقة وتخبره وراء كل جملة "كاذب"، حتى بدأت تتأكد أن ما يقوله هو نفسه ما في القائمة دون اختلاف واحد.


شعرت بأنها صارت أقوى، قامت لتترتب الحجرة وهي تعيد الكلمة بآلية "كاذب ..كاذب.. كاذب"، لكنها سمعت شيئًا غير مكتوب بالورقة، حاولت تجاهله وإكمال نفض الغبار، لكنه قال شيئًا آخر كانت متأكدة أنه غير موجود بالورقة، تركت ما بيدها وتوقفت عن ترديد "كاذب".


اقتربت من الباب، ووقفت خلفه مباشرة "أعلم أني كذبت عليكِ كثيرًا، كنت حمارًا ولم أقدر قيمة قلبك، ظننت أن الحب يعني فقدان الحرية، لكني الآن أفهم جيدًا أن الحرية لا معنى لها بدون حب، اكتشفت أن الحياة قصيرة جدًا، بالأمس مات أحد أصدقائي، كنت أراقب المعزيون، لم أجد من بينهم فتاة واحدة ممن أوجع قلوبهن، كان يظن أن بإمكانه الاحتفاظ بالقلوب طالما كسرها، لكن لا أحد منهن احتفظ بذكراه بداخله، نسينه تمامًا، حينها شعرت أنني لا أريد أن أموت وحيدًا، أعلم أنكِ قد تظنيني أنانيًا، عدت فقط حتى لا أموت وحيدًا، لكن فكري في الأمر، أنتِ أيضًا لا تريدين أن تموتي وحيدة، والأهم أنك لا تريدين أن تعيشي وحيدة، أراقب نافذتك منذ أيام وأراقب عدد المرات التي تنيرين فيها غرفتك بعد أن تطفئي أنوارها، لا تحتملي الوحدة مثلي".


كانت الفتاة تطلب منه أن يتوقف عن الكلام في البداية بصوت مرتفع، ثم صارت كلمة "توقف" خافتة جدًا، حتى لم تعد تسمع سوى صوته فقط، قال لها "افتحي الباب"، شعرت برجفة في جسدها، وضعت يدها على قلبها، وقالت له "أمشي" بصوت مختنق بالبكاء.


قال وهو يبكي "لن أجبركِ على شيء، أعلم أنكِ كرهتيني تمامًا، ولم يعد بداخلكِ مشاعر تجاهي، لكن لي طلب أخير، إذا مت كوني من بين المُعزيين، سأشعر بك، لم يحبني غيركِ، وحتى لو مت في عمر صغير سأكون سعيدًا لأن هناك من كان يحبني على الأقل ولو ذات مرة".


سمعت كلماته من بين بكائه، ثم سمعت صوت أقدامه تبتعد، لم تحتمل ذلك، فتحت الباب بسرعة لتودعه مرة أخيرة، التفت إليها فتمكنت من رؤية عينيه، كان يبكي بطريقة لم ترها من قبل، هو أصلاً لم يبكِ أمامها من قبل.


شعرت أن هذه المرة مختلفة عن كل مرة، هو لا يكذب، لا يمكن أن تكون كل هذه الدموع كاذبة، كما أن لحظات الموت تكون مشاعرها حقيقية جدًا، لا يمكن لشخص أن يكذب في اللحظات التي يتحدث فيها عن الفقد، طلبت منه أن يقترب، قفزت بين أحضانه وأخبرته أنها لا تزال تحبه جدًا، وأنها تمنت لو يعيشا سويًا للأبد، وأنها تسامحه على كل شيء وتفتح لها قلبها وبيتها.


تقدمته وهي تمسك يده وتسحبه معها نحو الداخل، لكن يده كانت ثقيلة، التفتت إليه لترى ما يمنعه عن الحركة، كانت على وجهة ابتسامة، وفي عينيه نظرة كانت تراها في كل مرة كان يكذب عليها، "لا يمكنني الدخول" فتح فمه ليقول ذلك، فتمكنت من رؤية البصقات التي ظنت أنها دموعه، كانت هناك الكثير من البصقات التي لا يمكن لقلب غير منكسر رؤيتها.


للتواصل مع الكاتبة من "هنا" أو من خلال التعليقات

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات