4
وأدخل إلى الشقة، فتهزني الذكرى.
البيت التاريخي.. وماما.. وحكايات ترسخ في كياني كالعظم.
ماما تعبر الطريق من المطبخ للسفرة وهي تحمل صينية بطاطس لا أخطئ رائحتها الساخنة الشهية. وتقول في إغراء، بصوت واضح قوي، دون أن تلتفت صوب الباب الذي أغلقه خلفي في ذهول:
- غيّر هدومك وأدرك الصينية قبل أن تبرد!
5
هي ماما.. هي ولا سبيل للشك.
ولكن ليست ماما التي عشت معها ستة وعشرين عامًا.
بل – ولا أدري كيف- هي ماما التي طالما شحذت خيالي وحُبي في صور شبابها الكثيرة التي كانت تحتفظ بها فوق الدولاب.
ماذا يحدث؟!
أسير في ذهول نحو السفرة لكنها تلتفت نحوي وهي تضحك وتقول في قوة وحنان:
- غيّر هدومك واغسل يديك أولًا.
وأحدق بها في ذهول.. من أين استعادت أمي هذه الملامح المترعة بماء الشباب؟! ما أجمل وجنتَيها المحمرتَين تحت ظِلال الرموش الطويلة لعينَين سوداوَين ترنوان إليّ في مرح يداعبني. وما أقوى جسدها وهي تقف في قوة مستقيمة الظهر بارزة النهدَين منحوتة الخصر كأنها في سِني وسِن نوران! وتستدير عائدة إلى المطبخ وهي تقول:
- أعرف أنك تعشق البطاطس ولكن النظام نظام ولا تهاون فيه.
هذه صرامتها. فأتأكد أكثر أنها ماما. ولكن هذه الثياب وهذا الشباب!
وأرنو إليها قبل أن تغيب. هذه الملابس أتذكرها جيدًا. الطاقم الذي كانت ترتديه في صور الأقصر أثناء رحلة جامعية قديمة. وقت أن كانت مفعمة بالحياة قبل أن تتبدل تمامًا بالحزن على فقدان أمها ثم زوجها. البلوزة البيضاء التي ينحسر طوقها عن كتفيها البيضاوين. والميكروجيب الأسود الذي يُبرز تفاصيل ساقَيها الرشيقتَين.. تمامًا كالصورة القديمة.
هذه تفاصيل لم أعايشها مطلقًا. فكيف أسترجعها؟! وكيف استعادتها أمي؟! هل عُدت وأمي في الزمان؟! ولو عُدنا في الزمان، فكيف أعاصر مراهقة أمي وأنا الآن شاب في الخامسة والعشرين؟! من المفترض أن أكون في هذه اللحظة بغيب الغيب، فمن الثابت أنني لم أفد إلى الدنيا إلا بعد التقاط صور تلك الرحلة بنحو أربعة عشر عامًا حين كانت أمي تخطو نحو الثانية والثلاثين عقب عنوسة، ثم تأخُّر في الإنجاب.
فمن أين استعادت أمي كل ما مضى لتعيشه في الحاضر؟! أو كيف أعيش أنا الماضي كأنه الحاضر أو المستقبل؟!
6
على السفرة تقول ماما بابتسامة تكشف عن ثغرها المتألق:
- هاه.. ما آخر أخبار المجنونة التي تعشقها؟!
تنقشع عن نفسي غرابة ما يحدث كأنها سحابة تنجاب لحظة عن وجه الشمس، فتعود نفسي إلى شيء من هدوئها، وأقول ببساطة وأنا أحدج في جَذَل الملامح الجميلة:
- خصام كالعادة.. طلباتها لا تنتهي.. وفي أعقاب كل طلب لا أتمكن من تنفيذه «قمصة» وخصام!
- عليك أن تُصالحها يا طارق.
وأرفع نحوها عينَين مملؤتَين بالدهشة، ولكنها تقول بصوت حالم وإن لم يخلُ من حزمها المعتاد:
- أنهِ غداءك وقم فاتصل بها وصالحها.
أحاول التيقن مما أسمعه، فأقول مرة أخرى:
- هي الغلطانة!
فتضحك وهي تضع الملعقة على حرف طبق الأرز وتقول:
- يا صغيري الجميل.. البنات مجانين.. ومن جنونهن أنهن يتصورن دائمًا أن الرجل الذي أحبته «سوبرمان».. فحين لا تُنفذ أمنية من أمنياتها، فهي لا تعتقد أنك لا تستطيع تنفيذها، ولكنها تجزم أنك لا تريد تنفيذها لأنها لا تعني لك شيئًا!
- هذا جنون.
تضحك وتقول في تأكيد:
- هذا هو ما قلته.. البنات مجانين.. ولكن هل تحبها؟!
- طبعًا.
- لأي درجة؟!
- جدًّا.
- إذن تقوم وتتصل بها.
- وكرامتي؟!
- إذا فكرت في الكرامة بهذا الشكل فالأفضل أن تعتزل النساء!
- حقًّا؟!
تضحك مرة أخرى وتقول:
- إن الرجل الذي يحب وهو يتحسس كرامته أشبه ما يكون بالمُلاكم الذي تثور كرامته لأن خصمه ضربه بالبوكس! لا مكان للكرامة في قصص العِشق ولا حلبات المُلاكمة يا صغيري!
أضحك رغم شعوري بغرابة ما يصدر عن ماما، ورغبتها أن أصالح نوران.. إن ما يحدث عجيب.. كأن أحدهم يُعيد كتابة القدَر.. أو يعيد ترتيب وضع الأرض في المجموعة الشمسية..
وأدوخ من الحيرة ولكني لا أهتم.
فقط أمتلئ ببهجة بكوني وأمي قد صِرنا في صف واحد إزاء موقفنا من حب نوران. ويقيني أن جانبًا عظيمًا من معارك حياتي الملتهبة سيتوقف، وأنه يمكنني من الآن فصاعدًا أن أستمتع بنوران دون أن أقاوم القوة الغاشمة التي تجذبني بعيدًا عنها.. قوة أمي المحبوبة العنيدة التي صارت الآن محايدة.. بل ومؤيدة.
ما أجمل أن يجيء الفرج بغتة بلا تدبير.
15
نجلس في هناء بينما النيل يجري تحت أقدامنا بمكاننا المعتاد في الكازينو.
ما أعذب ملامحكِ يا نوران!
أنتِ نموذج الحُسن الأصلي والمفضل رغم كثرة ما رأيت.
عيناكِ العسليتان.. شعركِ البُني الذي يلمع كلما سال فوقه شعاع الشمس.. شفتاكِ الورديتان.. وجسدكِ الجميل الذي لم أتمكن من رؤيته إلا بعين التقديس رغم احتراقي.
أنتِ الجمال كله.. لو كنتِ كنسمة الخريف الهادئة.. ولو منحتني عيناكِ شيئًا لا أعرفه.. ولكنه ينقصني بشدة.
هل التقينا مؤخرًا يا نوران؟! أين ومتى؟! لا أتذكر.. ولكني أوقن أنكِ كنتِ معي ولو بغير صورتكِ وهيئتكِ هذه! كنتِ معي قريبًا، بلا جدال، خلال عاصفة غامضة مزّقتني بعنف.. هل خُضنا معًا معركة مع العقل والضمير والعمر وما يصح وما لا يصح؟!
تبًّا للذاكرة المائعة.
وهل تعذبنا قبل ذلك بفراق وحزن ودموع؟! أين ومتى؟!
وأعصر ذاكرتي، ولكنها لا تمُن عليّ بلمحة واحدة من أحداث العاصفة المجهولة، ولا الفراق الذي يؤلمني ولا أتذكره.. ولكن أي شيء يمكنه أن يبرر شعوري الجارف بالحنين لنوران كأننا نتلاقى بعد دهور رغم أننا لا ننقطع عن اللقاء؟!
وتتكلم نوران فأنتبه، ولكني أقول مقاطعًا:
- بهذه الطريقة ربما نُعلن خطبتنا بعد شهر.
وتُومض عيناها بنظرة أكثر التماعًا من الصيف:
- لا تتصور سعادتي!
فأقول بشوق:
- ولا سعادتي!
ولكنها تتبدى بغتة في وجه آخر حزين تجلى ذات يوم في مناسبة بغيضة، وجه أتذكره جيدًا إذ لا يغيب مطلقًا عن ذاكرتي وإن غابت المناسبة ذاتها، ثم تهمس كالباكية:
- طالما تصورت أنك ستبيعني بسهولة.
ويتردد الصوت مرعبًا كأنما يجيئني من بئر سحيقة، وأتخيل أشخاصًا وأحداثًا تتحرك خلف الغلالة الترابية التي لا يمكنني اختراقها، وأجز على أسناني محاوِلًا أن أكتشف ماذا يدور خلف الستار في الذاكرة المراوغة، وأفشل، فأهمس بدوري ذاهلًا راجيًا أن تُرشدني هي إلى السر:
- ولمَ أبيعك؟!
- تملك من الأسباب ما لا يُحصى.
- حقًّا؟!
- أمك.. تحفظك على حريتي.. جفولك أمام طموحاتي.. غروري وكبريائي.. رغبتك أن أنعم عليك بنظرة انبهار وابتسامة رضا.. وأخيرًا تعلقك المرَضيّ بعملك ورغبتك أن تكون طبيبًا رغم تفاهة دوافعك.
كأنها تقرأ من عقلي، فأقول بفزع:
- كيف تعرفين كل ذلك؟!
فلا تجيب، بينما ألمح تَرقرُق الدمع في عينيها اللتين هربتا إلى مجرى النيل الداكن أسفل سحابة تعبر فوق عين الشمس. وأعود فأهمس بصدق:
- ولكني أحبكِ يا نوران.
- حبي في كفة وباقي الأسباب في كفة.
- ولكن حبك أكبر من كل ذلك.
- لا تنسَ أيضًا شكوكك تجاه دكتور هاني.. لو أحببتني ما انجرفت لقاع الشك!
- أي شكوك؟!
ترمقني صامتة بتحدٍّ، فأقول برجاء:
- أليس هو عمكِ؟!
تضحك بقسوة وهي تقترب مني بعينَيها الدامعتَين:
- جميل أن تتناسى ذلك الحادث المرعب بالمكتب.
يخترقني سيخ حديدي محموم، وتدور بي الدنيا، وأصرخ تحت وطأة ألم مُباغت لا يُحتمل. ثم ينقشع كل ذلك فيُسفر عن فراغ أبيض وراحة صامتة مرة أخرى.
من رواية "لقلبي حكايتان" - الفصل الثالث- "العتبة الثانية"، للكاتب أحمد مدحت سليم، الصادرة عن دار "دوَّن"
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب