القائمة الرئيسية

الصفحات

"باب الزوار".. أن تشير إلى جراح النفس والوطن بأصابع الأدب

  


 مينا سعيد


إن كانت بعض المراجعات للعمل الأدبي الراقي قد تنصب له فخًا لتغدوا جزءا من إبداعه، والبعض الآخر منها يحمل من الكلمات ما يمكنه التعبير عن كل مشاعر القارئ تجاه العمل الأدبي. أما وإن كلماتي المتواضعة لن تصبوا إلى التصنيف الأول كما يصعب بأي حال من الأحوال أن تندرج تحت النوع الثاني فلتكن إذن جزءا من هامش على كتابة الأديب المبدع محمد إسماعيل في أحدث إبداعاته "باب الزوار" العمل الصادر عن دار العين للنشر والتوزيع في صفحات تتعدى المائتين بأربعة عشر صفحة.

 

"باب الزوار" والتي تتناول فترة "العشرية السوداء" والتي أصابت الجزائر الشقيق خلال تسعينيات القرن الماضي، والجرائم البشعة والمجازر والمذابح التي استهدفت أبناء بلد المليون شهيد وتركت جرحًا غائرًا في النفس والروح معًا. هكذا فترة شائكة وموضوعٌ حساس استهدفه الكاتب ليصوب سهام إبداعه فأصاب الكبد وأكد على مشروعه في الكتابة.

 

فبعد أن حدثنا الكاتب عن "ما حدث في شنجن" في باكورة أعماله الأدبية وخضنا معه مغامرة بديعة في الصين تعرفنا فيها على الآخر وعشنا معه وتعايشنا مع مشاعره وأفكاره، نجده في هذه المرة يخوض مغامرة جديدة يُعرف فيها القارئ على آخر جديد وفترة دموية من تاريخه المعاصر. ليؤكد لنا الكاتب على أن رواية "باب الزوار" هي الخطوة الثانية في مشروع أدبي يهدف للتعرف على الآخر وقبوله. مشروع أرجو له أن يمتد خطوات وخطوات.


نرشح لكالقائمة الكاملة لأماكن دور النشر بمعرض القاهرة الدولي للكتاب 2022

 

ثلاث قصص اجتماعية تبدوا في البداية أنهم بعيدون عن بعضهم البعض حتى نكتشف تداخل الشخصيات وتقارب القصص حد التلاحم؛ على الخط الأول نتعرف على شخصية فاطيما الفتاة الجامعية والتي تبدأ الرواية بهروب أمها باهية مصطحبة معها ابنتها زهرة إلي بلجيكا وتاركة الجزائر وفيها "صالح" الزوج السكير وابنتيها فاطيما ولمياء.

 

على خط ثانِ تظهر لنا شخصية فريال الأمازيغية الجميلة والتي تدرك أمها قيمة هذا الجمال وتعتبره تذكرة خروجها من جحيم الوطن الذي كرهته بسبب العرب الذين اضطهدوا الأمازيغ، فتقرر قبول علاقتها بزميلها حميد بن طالب ابن القيادي الكبير رغم كرهها له ولأبيه لكنها تراه تذكرة السفر إلى فرنسا مدافعة عن مبدأها النفعي بقولها: "هم من أوصلونا لهذا الخراب، على الأقل يساعدوننا على الهروب منه".

 

بينما خط ثالث يتناول الكاتب فيه قصة "محسن" مدرس اللغة العربية المصري والمغترب في الجزائر منذ أكثر من خمسة عشر عامًا تزوج سناء في مصر وبدأ حياتهما في الجزائر رزقهما الله "داليا" التي تتحدث الفرنسية والعامية الجزائرية أفضل من اللهجة العامية المصرية، وبعد كل هذا وأثناء زيارتهم لمصر تقرر سناء بصحبة ابنتها ألا يعودا مع محسن إلى الجزائر، وما زاد الأمر صعوبة على محسن إضافة إلى تخلي زوجته عنه هي تلك الرسائل من ذاك المراسل المجهول الذي دأب على كتابة اعترافاته المخيفة لمحسن في رسائل لا تحمل عنوانًا أو توقيع.

 

استخدم الكاتب فترة العشرية السوداء وما حدث خلالها من صراعات مسلحة بين النظام الجزائري وجبهة الإنقاذ الإسلامي، كخلفية لعمله الأدبي ليعرض ما كابده أبناء هذا الوطن من عناء جراء هذه الصراعات. تارة يعلو صوت هذه الخلفية فتتصدر المشهد فنقرأ مثلا عن "مذبحة بن طلحة"  أو "مجزرة سيدي العنتري"، وتارة أخرى يعود الكاتب بنا لسرد قصص أبطاله ومدى تأثرهم كنماذج مختلفة جميعا بما حدث في خلفية تاريخية قاسية وكأن الكاتب قصد "التأريخ لمشاعر الإنسان"، فما أسهل على أي شخص أن يُدخل عنوانًا مثل "العشرية السوداء في الجزائر" ثم يضغط على محرك البحث في جوجل وسيقرأ ويعرف التاريخ لكن كاتبنا اختار الطريق الأصعب معتمدا على موهبة أدبية حقيقية وقلم جريء لتسطير إبداعه.

 

رغم سرد العديد من المآسي إلا أن الإمتاع والتشويق ما غابا عن العمل ولو لصفحة واحدة، فنجد بعد بناء روائي متوازن ومميز وإذا بشخصية "فريال" ضمن ضحايا إحدى مجازر هذا الفترة، فتبدأ صديقتها الوحيدة ومخزن أسرارها فاطيما في البحث عن الجاني بمساعدة أستاذها السابق "محسن" خصوصًا بعد أن تتأكد من عدم وجود فريال في مكان الحادث وقت وقوعه! هنا استطاع الكاتب أن يمرر وطنًا من خلال سرد اجتماعي مُغلف بالتشويق.

 

كما وضع الكاتب كل الآراء دون تحييز أو تمييز من خلال رصده الاجتماعي لأوضاع أبطال العمل والذين هم نماذج لأطياف مختلفة من الوطن. 


تساؤلات كثيرة ستواجهك وأنت تقرأ "باب الزوار"، كان من أهمها بالنسبة لي: هل نختار دائمًا الحلول السهلة ولا نواجه أخطائنا مُدعين، على الآخر بالنقص بينما نضع أنفسنا في خانة الكمال؟ باهية التي تركت زوجها السكير وبناتها في سن حرج مستغلة ما يحدث من ظرف سياسي دقيق في البلاد كحجة لهروبها الآثم وفي باطن الأمر أنها تركت زوجها لأنه سكير! 

 

كيف صارت معها الأمور وماذا جنت يداها؟! تحولت للأسوء ظهر مرض نفسها وسقم قلبها في حين نرى فاطيما الفتاة الجامعية صغيرة السن تقرر أن البقاء على من بقى أولى من البكاء على مَن فلَّ فتصلح من صفات أبيها وتُعمر البيت الذي هو رمز مُصغر للوطن، فحين قبلت الآخر عاش الجميع في سعادة أما هزيمتنا فإنها تبدأ حينما نقرر الهروب من مواجهة المشاكل ويبدأ انكسارنا حينما نرفض قبول الآخر.

 

ثمة تساؤل يظل يضغط علي رأسك طوال قراءة العمل وهو: هل الكاتب محمد إسماعيل جزائريا؟ فلو إني أخبرتك -مُدعيا- أن "الشاب محمد إسماعيل الجزائري" هو كاتب هذا العمل فلن تجادل كثيرًا إثر قرائتك لصفحات العمل الأولي! وهذا إبداع يضاف إلى جرأة التناول فمهندس الاتصالات والكاتب المصري محمد إسماعيل استطاع أن يرصد الأحداث ويصورها كما استطاع أن يرسم صورة متكاملة للجزائر الشقيق، لا أتحدث عن طبائع ومشاعر البشر فقط والتي وصلت بمنتهى الدقة أيضا، إنما أتحدث عن وصف الأماكن المدن جامعة باب الزوار، المصطلحات  العامية، أسماء الأكلات الجزائرية ووصفها كان بديع مثل البراج والبغرير والمحاجب والشخشوخة والطمينة وطاجن التليتي ومارجاز مع المقرون وغيرهم الكثير. بيد أن الأهم والأجمل بالنسبة لي أن كل المصطلحات ووصفات الطعام جاء عرضها سلس دون إقحام وبمنتهى الجمال، وقد استطاع الكاتب أن يصف بعضها خلال النص ومن خلال السياق وغير ذلك فقد تم شرحه في الهامش تجد مثلا "الزين كيما الزيت ماتلقاهش غير في بجاية" وهو مثل جزائري عن فضل الزيتون وزيته في "بجاية" كما يتباهى أهل بجاية بجمال فتياتهم فيشيعون أنه لا جمال ولا زيت غير عندهم.

 

أمور من الصعب معرفتها على كاتب مصري، فالعمل محلي جزائري من الدرجة الأولى ومع ذلك يستطيع القارئ العربي عموما قراءته دون أن يمل، بل على العكس سيري الجزائر بفضل دقة الأوصاف. كما تحدثنا عن الأكلات والمشروبات المذكورة في العمل هكذا أبدع كاتبنا في عرض الموسيقى الجزائرية والمغنيين الجزائريين مثل الهاشمي قروابي ورائعته "البارح كان في عمري عشرين" والفنان محمد الطاهر القرقاني وهو يعزل الكمان ويغني "يا باهي الجمال" والشيخ دحمان الحراشي الحقيقة أن الموسيقى في هذا العمل سجلت حضورًا مميزًا.

 

هذا يجعلني أتطرق لنقطة أخرى وهي الإشارة إلى أن واحدًا من أهم أدوار الأدب هو تحريك الخيال وتنشيط الحس الإبداعي لدى القارئ، وهو ما قام به الكاتب فطوال رحلتنا داخل العمل أنت شريك للكاتب في إبداعه، فقد ترك أمورًا يكملها خيالك وفتح ابوابا كثيرة أدخل منها القارئ لعالمه ثم تركه معتمدا علي خياله في إكمال "الحدوتة" وهذا لا يعني نقصًا في الحكي أو عدم إتمام العمل كصورة متكاملة.

 

إنما كعادته محمد إسماعيل استطاع بناء ملحمة بعبارات تلغرافية. عبارات تلغرافية جاءت في الحوار والسرد بالتساوي. كما جاءت الحوارات رشيقة وممتعة والسرد كان بديع والبناء الفني متكامل وتصاعد الأحداث مبهر وجميل ومُشوق حتى النهاية جاءت على نفس القدر من روعة العمل، ولكنني توقفت كثيرًا أمام وصف الكاتب للمشاعر الإنسانية طوال العمل مثل "وحده يشم ماضي محلِّه ويتذكر وقتًا خلا ما كان يخلو مشغله من الزبائن".. "مصادفة وجه مريح وسط الزحام هو أكثر المشاعر دفئًا".


ختامًا: مما جاء في كلمة الناشر على الغلاف الخلفي لرواية "باب الزوار":

 

"وطن يشتعل منذ سنوات وتأكل ناره أبناءه، حقبة حزينة من بلد المليون شهيد، ووطن تكالب عليه الطامعون لخيراته غاضين الطرف عن الضحايا الذين يتساقطون.. وطن تضافر بداخله حكايات صغيرة لتخرج ملحمة الأحياء والأموات من باب الزوار.

 

لو أنك قرأت هذه الكلمات ووضعت في فكرك فلسطين الحبيب ألا تنطبق العبارة عليها؟! لو أنك وضعت لبنان الغالي أو سوريا الشقيق أو مصرنا الحبيبة الغالية.. ألا تصح العبارة؟


هنا قوة الأدب في نكأ الجراح لنصل إلى الأفراح.. فالجرح العربي واحد ومهما اختلفنا فكلنا أخوة في الإنسانية". 


وهنا لا يسعني إلا شكر دار العين والفنان عبد الرحمن الصواف على غلاف يحمل الأمل في شكل وردة في اليد والحرية والانطلاق من خلال صورة المرأة أعلى الغلاف لتكمل صورة الإبداع.

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات