يوسف وديع
بذكاء وجرأة تطرح الكاتبة الكبيرة سلوى بكر، عملاً تُشّرح فيه المجتمع المصرى، بكل متغيراته وتقلباته، بكل التحولات التى شهدها فى عضون عقود قليلة.
فمن خلال روايتها الأخيرة "فيلة سوداء بأحذية بيضاء"، الصادرة عن دار دوّن للنشر والتوزيع، تتطرق للتحولات التي أصابت المجتمع بكل أفراده، بدءا من تحليل نفسية الأفراد المتأثرين بالمعجزات، ومفهومهم المغلوط عن المعجزة، والتي عبرت عنه في مشهد الافتتاحية في الرواية الذي يحكي عن وقت ظهور السيدة العذراء فى كنيستها بالزيتون، في سبعينيات القرن الماضي، لتظهر تباين ردود أفعال الناس بين من رآها معجزة ومن اتهم الآخرين بالكفر.
فالفترة التى تدور فيها أحداث الرواية، تعتبر من أكثر الفترات الحرجة فى تاريخ مصر الحديث، فبدءاً من نكسة 67 مرورا بكل ما تبعتها من تداعيات، وحتى نصر أكتوبر 1973 وبدايات عصر الانفتاح، تغيرت شرائح المجتمع، ومع العزو الوهابي للفكر المصرى دينياً واجتماعياً، بدأت مرحلة جديدة في حياة المصريين.
جرأة العمل فى أنه يواجه وبكل قوة، مواطن الضعف والجمود في العقلية المصرية، محاولاً بذلك أن يبدأ أول خطوة في رحلة علاج المجتمع مع معرفة نوع المرض. فالجهل والجمود مرض، والثقافة الشكلية مرض، والانسحاق تحت وطأة المعتقدات الدينية غير الصحيحة مرض، والضعف واللهاث وراء المادة مرض. فكل هذه الأمراض تقض مضجع المجتمع وتعطل تقدمه.
أما عن اسم العمل، الذى أعتبره شخصياً من أذكى ما قرأت منذ وقت طويل، ويطرح كثيرا من التساؤلات مثل من هم الفيلة؟، ما هي الكائنات التى تضخمت أحجامها فجأة؟ فأصبح تأثيرها أكبر من أن يُحتمل فى المجتمع، وأصبح وجودهم مثل وجود حيوانات ضخمة تسير وتتعايش وسط الناس، فلا هى تعيش فى بيئاتها المناسبة ولا تترك الناس يعيشون بطبيعية، بل تسحقهم تحت أقدامها الغاشمة.
تتناول سلوى بكر في روايتها أمراض المجتمع المصري، من خلال قصة قد تبدو تقليدية لبطلة الرواية الفتاة التى تمثل الثورة فى أبهى صورها على التقاليد البالية والأفكار الرجعية، بعد أن عانت فى حياتها من الكثير من القمع ومحاولة التدجين وكبت الحرية، حتى تصبح نسخة مكررة من المحيطين بها، فبمنتهى القوة تقف أمام أفكار زوجها، الذى انجرف هو الآخر مع دوامة الانفتاح، فغير كل قناعاته ومبادئه الهشة تماشياً مع الموجة الجديدة.
فظلت المحاولات مستمرة لطمس ملامح البطلة التى تمثل "مصر الأبية الصامدة" وتلجيم لسانها، بل وطمس ملامحها أيضا، حتى تصبح مثل الباقى فيل أسود يسير بين الناس منتعلاً حذاءاً أبيضاً، وكأنه اصبح بمثابة الزى الموحد الخاص بالمرحلة.
أما عن السرد وسهولة الأسلوب، فنحن فى غنى عن الحديث عنه مع أديبة فى حجم (سلوى بكر) بكل ما تمتلك من براعة وتمكن ككاتبة مخضرمة، خاضت الكثير من الحروب والمعارك حاملة قلمها فى مواجهة كل أشكال الجهل والتخلف. فرسم الشخصيات بانفعالاتها وفلسفتها كانت أكثر من رائعة، لدرجة تشعر معها أنك تعايش الشخوص فى حياتك اليومية، فكل أبطالها من الناس العاديين الذين يملؤون الشوارع كل يوم.
العمل يوجه سؤالا لكل قارئ، لكل من حاول تفنيد كل مبدأ وفكرة لديه، هل يمكن أن تتحول دون أن تشعر لفيل ضخم يعيش بين الناس داهساً أفكارهم وملامحهم ولا يشعر بهم؟!
نرشح لك: مترجمة عن النص الأصلي.. "دوّن" تصدر 5 روايات لـ ستيفان زفايغ بمعرض الكتاب
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب