القائمة الرئيسية

الصفحات

نهى شوقي تكتب بيتر بان.. الحالة المحيرة للسيد چي إم باري



  داليا فتاة مثقفة وقارئة نهمة، قطعت علاقتها للتو بأحمد بعد أن صارحته أنه بكل أسف يعاني من متلازمة بيتر بان، ورغم صعوبة الموقف طمأنته داليا أن الحالة قابلة للعلاج ببعض العزيمة. مسكين أحمد..


  تطلّب الأمر من داليا جهدا كبيرا. في البدء فكرت في تشخيص أحمد بالنرجسية؛ الأدبية الأكثر رواجا هذه الأيام، لكنه لم يتلاءم مع أي من قوالبها. وداليا رغم ولعها بإصدار الأحكام إلا أنها تحب أن تصنع ذلك بحرفية شديدة لذلك لم يهدأ لها بال حتى وجدت ضالتها أخيرا في متلازمة بيتر بان. لن نستطيع أن نبارك مسعاها للأسف.



 بيتر بان أم حمادة عزو؟


  ظهر تعبير متلازمة بيتر بان Peter Pan Syndrome للمرة الأولى على يد دان كيلي كاتب ومؤلف في علم النفس الشعبي pop psychology حيث أطلق اسم المتلازمة على كتاب قام بنشره عام 1983. ارتبطت المتلازمة بالطيش، وعدم الرغبة في تحمل المسئولية، والعجز عن اتخاذ القرار. وأرجعها كيلي إما للتربية المتساهلة أو التربية الوقائية المفرطة في الحماية. ولكن هل هو مرض حقيقي؟


  المتلازمة هي حزمة من الأعراض تتلازم؛ أي تحدث مع بعضها، فإذا ارتبطت بسبب محدد صارت مرضا. ولما لم تحظ "بيتر بان" بسبب محدد ودقيق للحدوث؛ فقدت ما يؤهلها لتصبح مرضا مُدرَجا. الطريف أن بيتر بان نفسه لم تكن مشكلته فرط التساهل أو فرط الحماية الأبوية. ولو أن داليا اخترعت متلازمة بنفسها أسمتها متلازمة حمادة عزو، لما كانت مخطئة أيضا! إحدى المشكلات التي نواجهها أحيانا مع العلم الشعبي أو ال Pop Science -رغم دوره العظيم في تبسيط العلوم- هي التعبيرات الفضفاضة الآخذة في الانحراف والتدحرج مع كل دفعة عصا مثل كرة بلياردو، والتي كادت تفوت علينا قصة ملهمة، وعبقرية سابقة لعصرها. كيف عرفنا؟ حين دخل الأدب إلى المختبر بالطبع.


   كان يفترض بهذا المقال أن يكون الثاني في سلسلة بعنوان هل يساعدنا الأدب في فهم...


ولم تبخل القصة بإشارات قيمة إلى نظرية العقل/ لغز الوعي/ التقزم نفسي المنشأ/... ثم خرجت الأمور عن السيطرة، وصار أملي الآن أن يساعدنا أدب سير چيمس ماثيو باري في فهم حالته الفريدة.



 افتح يا بيتر بان أنا علم الأعصاب!


  كشفت دراسة نابهة أجرتها عالمة الأعصاب د. روزاليند ريدلي لجامعة كامبريدج؛ أن مبدع شخصية بيتر بان يملك فهما عميقا لعلم الإدراك وأنه سبق العلم المعاصر في تعريف المراحل الأساسية لنمو الطفل. ودللت ريدلي على أن العديد من مغامرات بيتر بان الصادرة في أوائل القرن الماضي تشير إلى نظريات علمية تبلورت بعد كتابة القصة بعدة عقود؛ تقول: "الكثير من الأمور التي ناقشها لم تكتشف حتى السبعينيات".


  في قصة "بيتر بان في حدائق كينسنجتون"؛ وصف باري موقفا لفتاة صغيرة تحاول تهدئة بيتر الباكي. أعطته منديلها، ولكنه لم يعرف ما يصنع به. كتب باري: " فأرته كيف تمسح بالمنديل عينيها ثم ردته إليه قائلة: الآن افعل كما فعلت. ولكن بدلا من مسح عينيه، مسح بيتر عيني الفتاة، وفكرت البنت أن أفضل ما تصنعه أن تتظاهر أن هذا ما قصدته".


   بهذا المشهد الصغير المؤثر عرض باري ملاحظاته وفهمه لما أطلق عليه علماء النفس بعد ذلك القصدية Intentionality؛ سمة من سمات نظرية العقل، وهي القدرة على فهم أن مشاعر ومعتقدات الشخص قد لا تكون هي نفسها مشاعر ومعتقدات الآخر. وهي أحد مفاتيح فهم تعقيد العلاقات الإنسانية، ويدركها معظم الأطفال ما بين سن الثالثة والرابعة. وقد صور باري ذلك ببراعة من خلال تفاعل طفلين أحدهما يملك وعيا لا يملكه الآخر؛ فيما يشبه التبشير بما أقرته نظرية العقل بعد سبعين عاما. وفي عام 1985 أوضح علماء النفس أن الفشل في إدراك نظرية العقل عرض مهم من أعراض التوحد ومتلازمة أسبرجر المرتبطة به.


  العديد من الموضوعات التي أنفقت ريدلي عمرها في دراستها بغرض التوصل إلى علاجات جديدة للخرف، ولأجل فهم أفضل للحالات العصبية التي تؤدي إلى خلل في الإدراك مثل السكتة الدماغية- تعرّض لها باري بالتماس مرة وبالفهم المتمكن مرات. تقول ريدلي: "استخدم باري الأخطاء المعرفية والتشوّش بغرض الإمتاع، وأيضا لإلقاء الضوء على طريقتنا في التفكير. الولد الذي يستطيع الطيران، الكلب الحاضنة، والتمساح الذي ابتلع منبها. أطلق عليها باري whimsicalities أو الإغرابات، وبها يستقريء طبيعة الإدراك. أما هدفه من ذلك -والكلام مازال لريدلي- فهو التصالح مع ألمه الخاص من فترة الطفولة.



بعض الغبار السحري لازم لنطير فوق الألم!


  ظاهريا؛ ابتكر باري شخصية بيتر بان لترفيه ولدين قابلهما في حدائق كينسنجتون عام 1897. الولدين چورچ وچاك لويلِن ديڨز؛ أسرهما الرجل الكبير بقدرته الغريبة على تحريك أذنيه، وبدأت الحكاية بطرفة أطلقها باري أن أخاهما الرضيع بيتر ككل الأطفال يستطيع الطيران. وأن هذا هو السبب في تأمين الوالدين لغرفة الأطفال بالقضبان لفترة مناسبة حتى يتوقف الصغارعن الطيران ويستقروا على الأرض. توطدت علاقة باري بالولدين لويلِن ديفز وشهد نمو الأسرة إلى خمسة أطفال ثم شهد الأحداث المؤسفة لموت كلا الوالدين تباعا، انتهاءً بوصول الوصاية على الأولاد إلى أنكل چيم الشهير بچيه. إم. باري . الأحداث عالجها فيلم Finding Neverland الصادر عام 2014 باختلافات لم تنل من القصة البديعة.


إلى اليسار چي إم باري يلعب دور كابتن هوك مع مايكل لويلن في حدائق كنسنجتون 1904

 إلى اليمين مشهد من فيلم Finding Neverland 2014 بطولة چوني ديب وكيت وينسلت


البرنامج الرسمي لمسرحية بيتر بان على مسرح دوق يورك عام 1904



  استعان باري بالأطفال لويلِن لتطوير قصته، وفي 27 من ديسمبر 1904 كان چورچ وچاك وبيتر ومايكل مع أمهم سيلڨيا لويلِن شهودا للنجاح الساحق في حفل الافتتاح. على عادة المسرح البريطاني في ذلك الوقت تتولى فتاة أداء دور الطفل البطل. أيضا قوانين العمل في بريطانيا وقتها تمنع الأطفال من العمل بعد التاسعة مساءً. لذا عندما وقفت نينا بوسيكال في دور بيتر بان طالبة من الحضور التصفيق إن كانوا يؤمنون بالجنيات وضجت القاعة بالتصفيق في العرض الأول - دمعت عينا نينا من التأثر. وبانتهاء العرض كان الجميع نقادا وجماهير، صغارا وكبارا مأخوذين بسحر القصة. وسجلت حالات عديدة لأطفال آذوا أنفسهم بالعودة إلى بيوتهم والقفز من فوق الأثاث، مما اضطر باري لتعديل المشهد الافتتاحي سريعا وجعل الغبار السحري ضروري للطيران. بعين كاتب أستطيع أن أقول أن قصص بيتر بان كانت بمثابة الغبار السحري الذي رفع باري ذاته فوق صعوباته العاطفية، ومكّنه من الغوص في نفسه الطفلة بهذه البراعة، فإذا به يغوص في نفوس البشرية جميعا. الكتابة المغرقة في الخيال، والصبيانية إلى أبعد حد تتسق مع إقرار باري أن الصغار لويلن هم مصدر إلهامه. ولكن ما يتكشف بأدنى تحليل يجعلنا نتساءل



 هل فوّت باري عامدا مصدر إلهامه الحقيقي؟


  د. روزاليند ريدلي ككل الباحثين في حالة السيد باري ترى طفولته المأساوية هي الدافع المحرك لإبداعه. أخوه الأكبر ديڨيد مات في حادث تزلج وبقي حيا في فكر والدته أكثر من ابنها الحي. كتبت ريدلي:" لقد تعلم من انشغال أمه بأخيه الميت أن الأشياء غير الملموسة بوسعها أن تكون أكثر أهمية في عقول البشر من كل الملموس، والدة باري كانت موجودة ولكنها بالنسبة إليه في حكم المفقود، والبحث عن أم كان محورا رئيسيا في كتبه". جدير بالذكر أن باري كان له ستة إخوة وأخوات غير ديڨيد، ولكن يبدو المشهد من حيث نعالجه مغلقا على باري وديڨيد وأمهما.


  يقول باري في مذكراته عن والدته: "دخلتُ حجرتها مرة فهتفت ملتاعة: أهذا أنت؟ علمتُ أنها تقصد الفتى الميت فأجبت بصوت خفيض: لا ليس هو. هذا فقط أنا". كانت والدة باري تعزّي نفسها بأن ديڨيد الحبيب منعّما حيث استقر؛ لن يكبر أبدا، لن يعاني صعوبات النضوج ولن يفارق قلبها، لاهية تماما عن الصغير الذي صار يلبس ملابس أخيه ويصفِّر كما اعتاد أخوه أن يصفّر. ثم توصل إلى استجداء حكاياتها عن اسكتلندا في طفولتها، وهو ما استجابت له الأم في النهاية، ونجح باري في تكوين رابطته الخاصة معها بثمن باهظ جدا!



إغلاق الجسد! هل يمكن؟


  في كتاب zebras don’t get ulcers Whyيستشهد برفيسور روبرت سابولسكي أستاذ البيولوچيا السلوكية بجامعة استانفورد- بحالة السيد باري فيما أطلق عليه أيضا متلازمة بيتر بان! معضلة العلم الشعبي مرة أخرى. داليا هل مازلتِ هنا؟


 يشرح بروفيسور سابولسكي حالة من التقزم نفسية المنشأ أو psychogenic dwarfism أصيب بها باري نتيجة ضغط والدته المستمر، كأنما أغلق جسده عن النمو إرضاءً للصورة المثالية للطفل ديڨيد في خيال والدته. بالغ سابولسكي في وصف قصر قامة باري ليدخله في حيز القزامة، ولكن المثبت في وثيقة جواز سفره عام 1934 أن طول چيه. إم. باري خمسة أقدام وثلاث بوصات ونصف أي 161 سم تقريبا. قصير ولكنه حتما ليس قزما. ومع معارضتنا لمبالغة بروفيسور سابولسكي فإننا نقر بأن تأثر نمو باري بهذا الوسط المؤذي ليس مستبعدا على الإطلاق. الثابت أن باري الرجل الناضج كان واعيا بمزيد من الألم بحجمه الضئيل؛ كتب مرة في أحد الخطابات: ستة أقدام وثلاث بوصات، كان ليُحدث فارقا عظيما في حياتي إن نَمَوْتُ إلى هذا الحد. التقزم نفسي المنشأ مرض حقيقي يصيب الأطفال من سن 2-15 ويمكن معالجته فقط إذا تم اللحاق بالأطفال في سن مناسبة بنزع المسبب وتوفير الرعاية. فربما يكون باري الصبي الذي لم يكبر أبدا قد قرب للعلم الحديث معاناة هؤلاء الأطفال وأسهم في إنقاذ العديد منهم في الوقت المناسب.



إلى أرض الأحلام؟ العنوان كما أعطته لك ديزني ليس دقيقا!


خريطة نڨرلاند أصدرتها شركة ديزني كدعاية لإصدار الفيلم عام 1953 مستخدمو صابون كولجيت-بالموليڨ

 يستطيعون الحصول عليها مجانا إذا أرسلوا ثلاثة أغلفة فارغة +50 سنتا


  ثاني نجمة على اليمين، وطيران لحد الصبح! بقدر مرح الوصفة إلا إنها لن توصلك لا إلى أرض الأحلام ولا إلى عبقرية باري في وصف المرحلة الانتقالية بين اليقظة والنوم. الاسم نفسه Neverlandسقط منه بالترجمة معنى الاستحالة وأصبح أقرب لنزهة، ولكن هذا حديث آخر. الوصفة الأصلية "ثاني يمين ثم في خط مستقيم إلى الصباح" جاءت على لسان بيتر بان الذي وصفه كاتبه بأنه يقول كل ما يخطر بباله. يضيف باري في موضع آخر "أنها قريبة من نجوم الدرب اللبني"، يبدو أن إصدار ديزني دمج الوصفين وأغفل تفاصيل أخرى أوردها باري كمفاتيح كنز! لذا دعونا نعُد بالنص الأصلي إلى المختبر من جديد. تقول د. روزاليند ريدلي إن باري كان يعاني من مشاكل متعلقة بالنوم ووصف العديد من حالات الوعي واللاوعي التي عرّفها العلماء بعد ذلك بال Parasomnia أو خطل النوم.


  نيڨرلاند الجزيرة الخيالية التي يستطيع الأطفال وصولها بخيالهم. "خريطتها أشبه بخريطة عقل طفل لو رسمت، وهي تختلف من طفل لآخر". يقول باري: "في الدقيقتين قبل استغراقك في النوم تصبح حقيقية كأقرب ما يمكن". وعلى الوصف الأخير تعلق ريدلي:" الصور شديدة الحيوية على حافة النوم تعرف الآن بالتخييلات التنويمية Hypnogogic Imagery وقد تنتج من ارتفاع في نشاط بعض مناطق الدماغ المسئولة عن المعالجة البصرية قبل أن تغلق للنوم".


  اضطراب آخر متعلق بالنوم عانى منه باري هو شلل النوم (الجاثوم) أو Sleep Paralysis، كأن تشعر أنك مستيقظ في السرير ولكن عاجز عن الحركة ويكون مصاحبا في العادة بهلوسات غريبة. تقترح ريدلي أن يكون قد انعكس على خبرات الأطفال في الطيران في نيڨرلاند؛ "لا شيء بشع يمكن رصده في الأجواء، ومع ذلك صار تقدمهم ثقيلا وبطيئا كما لو أنهم يشقون طريقهم خلال قوىً متنافرة. أحيانا يبقون معلقين في الهواء حتي يأتي بيتر ليحررهم بقبضته".


  في مفتتح قصة مغامرات بيتر وويندي إشارة أخرى بديعة؛ "السيدة دارلينج سمعت للمرة الأولى عن بيتر وهي ترتب عقول أطفالها. إنها العادة الليلية لكل أم طيبة؛ بعد أن يخلد أطفالها للنوم أن تفتش في عقولهم، وتضع الأمور بشكل صحيح لليوم التالي. إنها تعيد حزم كل المواضيع التي بقيت تتجول في ذهنك طوال النهار إلى أماكنها الملائمة، مثل تنظيم الأدراج تماما. وعندما تستيقظ في صباح اليوم التالي؛ تكون الشقاوة والميول الشريرة التي ذهبتَ بها إلى النوم قد طُويت إلى حجم ضئيل ووُضعت مزوية في قاع دماغك، وفي الأعلى في مكان جيد التهوية تجد أجمل أفكارك منشورة جاهزة لك في الصباح كي ترتديها". ريدلي تشير إلى هذه الملاحظات كفهم عميق لدور النوم في صيانة الذاكرة، تقول: " يبدو كأن العقل وهو يؤرشف خبراتنا يدمج أحدث الذكريات مع تسجيلات لأحداث قديمة ليسبك قصة محكمة عن حيواتنا، كما يلطف بعض أفظع مشاعرنا من يوم عصيب، ويساعدنا لنبلور خبراتنا المزعجة إلى وجهة نظر". لا أدري د.ريدلي، عن نفسي قرأت الفقرة السابقة قراءة شريرة. بصراحة لم أستطع إغفال رمز الأم!



عن الكتابة: كيف حرر الكاتب قلمه؟


  الفقرة السابقة كما تشير إلى دور النوم في معالجة الذكريات، تشير إلى دور التربية المتشددة في برمجة عقل باري. ولا يسعني أن أخفي إعجابي بوصف باري في الفقرة السابقة للأمر وهو طافٍ فوق غبار سحري من ابتكاره.


  باري الطفل ذو الست سنوات الشغوف بالقصص المصورة عن القراصنة؛ تنقلب حياة أسرته بموت ديڨيد الفتى الواعد في الرابعة عشر من عمره كما أسلفنا، فيتقمص باري طوعا دور أخيه الفقيد بمباركة من أمه. يلتحق الطفل في الثامنة بأكاديمية جلاسكو تحت رعاية أخويه الأكبر ألكسندر وماري آن التي كانت تدرّس هناك ثم يعود إلى بيت العائلة في العاشرة ويلتحق بأكاديمة فورفار القريبة ثم في الرابعة عشر يغادر مرة أخرى ليلتحق بأكاديمية دمفريز تحت رعاية ألكسندر وماري آن. في دمفريز يظهر نهما للقراءة؛ ينشيء ناديا للدراما، ويمثل مع زملائه ألعابا درامية عن القراصنة ثم ينتج نادي الدراما أولى مسرحياته "بندليرو قاطع الطريق" التي تثير جدلا عند عرضها بعد أن عارضها قس بإدارة المدرسة بتهمة ازدراء الدين.


بانتهاء دراسته في دمفريز، يعلن باري رغبته في احتراف الكتابة فيعارض والداه ويصران على التحاقه بالجامعة فالتدرج في الوظائف المرموقة إلى الوزارة. يساعده ألكسندر في المواءمة بين الرغبتين بأن اقترح عليه الالتحاق بالجامعة ودراسة الأدب. وبعد الدراسة يبدأ في كتابة المقالات للصحف. فماذا يكتب باري المتشبع بالوصاية الأبوية؟


  يكتب أولا عن طائفة النور القديم "Auld Licht"؛ طائفة متشددة انتسب لها جده. ثم يراسل صحيفة لندنية تدعى سانت چيمس جازيت، ويرسل إليهم قصة مستوحاة من حكايات طفولة والدته! يعجب المحرر بذلك "الشيء الاسكتلندي"، ويكمل باري سلسلة من القصص الاسكتلندية المحافظة التي تخط اسمه ككاتب متمكن بقدر ما تثير حفيظة النقاد المعاصرين الذين يرونها عاطفية ومغرقة في الحنين إلى الماضي، مفتقرة لروح العصر؛ عصر الصناعة والاكتشافات العلمية. يتشجع باري للانتقال إلى لندن في الرابعة والعشرين من عمره، وتتسع دائرة أصدقائه لتشمل توماس هاردي، برنارد شو، ويليام ميريديث، آرثر كونان دويل، وپي. چي. وودهاوس. بالإضافة للترحيب به في الدائرة المقربة من عالم النفس الرائد ويليام چيمس عن طريق أخيه الروائي هنري چيمس. تتوالى الكتابات الناجحة ويتحرر قلم باري شيئا فشيئا حتى يتجاسر أخيرا على الكتابة عن معاناته الشخصية في روايتيْ "تومي": تومي العاطفي، وتومي وجريتزل. تتناول الروايتان معاناة تومي الطفل والشاب ذي الخيال الطفولي، والتي تنتهي نهاية مأساوية. يثير الألم المبتذل حنق القراء، ويتعلم باري درسه. الدرس الذي عبر هرمان ملفيل عنه مرة قائلا: "في هذا العالم المليء بالأكاذيب، يضطر الصدق أن يطير كغزالة بيضاء مقدسة في الغابة، ولا يكشف عن نفسه إلا بومضات ماكرة، كما في شكسبير وغيره من المتمرسين في الفن العظيم لقول الصدق، وحتى إن كان ذلك من وراء ستار وكان خطفا". يكاد باري يتبع نصيحة ملفيل حرفيا، ولكن قبلها كانت الروايتان لازمتين ليتعافى باري ويرتفع فوق ألمه ليبدأ في تطبيب آلام الآخرين في بيتر بان.



محب للصبية أم صبياني؟ هل تجيبنا نظرية التطور؟

چيه. إم. باري وصديقه المفضل مايكل لويلن رابع الأشقاء


  سيظل شغف باري بالطفولة إلى هذا الحد مثار تساؤل، ولن يخلو العالم ممن يعتقدون أن ميول الكاتب الكبير نحو الصبية مرضية. خاصة مع وجود كل تلك الخطابات الشاعرية منه إلى مايكل فتى لويلن الرابع؛ أقرب الصبيان لطبع باري، والمفضل عنده. الأمر مرهون بالمكان الذي تنظر منه؛ هل تنظر إلى الكاتب الراشد الشغوف باللعب مع الأولاد، مع زيجة فاشلة لم تثمر أطفالا وانتهت بحادثة خيانة زوجته؟ أم تنظر إلى الفتى البائس الذي أغلق جسده طوعا وعجز عن أن يكبر؟ يقول نيكولاس لويلن أصغر الأشقاء: "كان أنكل چيم بريئا، وإلا ما استطاع أن يكتب بيتر بان".


    رؤية باري الخاصة عن الأطفال: أنهم كائنات متطورة تحتاج إلى الرعاية والتشجيع حتى تنمو إلى بالغين مرهفي الحس. لا هم miniature adults أو نماذج مصغرة من البالغين كما كان سائدا في التعامل مع الأطفال حتى نهايات القرن التاسع عشر، ولا هم وحوش صغيرة تحتاج إلى من يهذبها كما يرى لورد "بادن باول" منشيء الكشافة. وهنا ملاحظة لافتة للنظر؛ يكاد يكون تعريفا باري وباول متضادين ولكنهما معا يعكسان أثر نظرية داروين –الصاعدة بقوة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر- على أدبيات مطلع القرن العشرين. ظهر بيتر بان للوجود للمرة الأولى عام 1902 في رواية الطائر الأبيض الصغير، وأنشأ لورد باول الكشافة عام 1907. منذ انفجرت نظرية التطور كالبركان، شُغل العلماء بالبحث في العقل البشري كيف يختلف عن عقول باقي المخلوقات ولماذا تتطور مهاراتنا تدريجيا. ربما اتضح الآن كيف تلقى كل من باري وباول الكشف العلمي بشكل مختلف.


  في رواية الطائر الأبيض الصغير يولد بيتر بان بلا أبوين؛على هيئة طائر. الأطفال جميعهم كما تروي القصة يولدون طيورا، ثم يسلَّم كل طفل إلى أبوين ويصبح إنسانا. إلا أن بيتر يضل طريقه إلى أبويه ويبقى نصف طائر ونصف إنسان. تماما كما بقي باري نصف طفل ونصف رجل!


  رصدت د. روزاليند ريدلي في القصة سبقا آخر لباري على نظرية الانتخاب الطبيعي، أظننا اعتدنا هذا الأمر الآن! فالحكيم المنوط بإرسال الأطفال (الطيور) إلى أمهاتهم المنتظرات هو سولومون كو؛ الغراب ذو العقل المعقد القادر على التخطيط للمستقبل، يملأ مستودعه بالجوز وفتات الخبز كنوع من التمويل التقاعدي حال تقدمه في السن. تقول ريدلي: "هذا يسمى التمثيل الثانوي Secondary Representation أي القدرة على تمثُّل الاحتمالات الأبعد بخطوة عن هنا والآن. في وقته، اعتُبِر التمثيل الثانوي حكرا على الإنسان، ولكن الاكتشافات المتأخرة أثبتت وجوده في مجموعات مختارة من الحيوانات؛ الطيور مثل سولومون على سبيل المثال.


 في رأيي أن ملاحظات باري اللامعة والسابقة على نظريات علمية لها وزنها، مردّها نمط من الإدراك على سلم التطور يختلف عن إدراك البالغين. إذا كان الراشدون يعقلنون الأمور على خلفية من خبراتهم الممتدة إلى طفولتهم، فيبدو أن السير باري يلاحظ ويدرك كطفل أولا على خلفية مثقف جامعي. هو أيضا مثل بيتر بان، يقول ويصنع كل ما يخطر بباله، لا يسوءه كثيرا أن تُرى تصرفاته مريبة ممجوجة بميزان الراشدين.


  والآن إن سألتني مرة أخرى: هل باري محب للصبية أم صبياني؟ لسألتك بدوري: هل تذكر متى تعرفت إلى ظلك أول مرة؟ هل كان صغيرا مرحا أم كبيرا مخيفا؟ جميعنا أدركنا الظل في مرحلة ما من طفولتنا، ثم نسينا كيف أدركناه. بعضنا صار له صغار شهد دهشتهم الأولى بظلالهم، ثم أكل الإلف دهشتهم وذكراها. فقط الفتى الذي لم يكبر أبدا لم يفقد دهشته، لاعب ظله وقاتله، جذبه وهرب منه. جميعنا كبرنا، فقط الفتى الذي لم يكبر أبدا بقي هناك ليحكي لنا.




للتواصل مع كاتبة المقال من "هنا" أو من خلال التعليقات

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق

إرسال تعليق

شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب