الخلاص كلمة مشهورة في العقيدة المسيحية، تمثل نقطة فاصلة لحياة أتباعها وطوقا يتشبثون به لينشلهم من حياتهم المثقلة البائسة، أو نقطة ضوء تغمرهم وسط ظلام دنياهم، ولكي نفهم معناها أكثر يجب أن ننظر لفعلها التي اشتقت منها وهو "خَلَّصَ" ويأتي بمعنى فك وحرر، ويأتي أيضا بمعنى صفى وميز عن غيره، ويفهم منهما أنها إشارة لفك قيود الإنسان التي تثقله من ملذات وأطماع، تحرره من تيه ذاته الذي مثله إيليا أبو ماضي:
أَجَديدٌ أَم قَديمٌ أَنا في هَذا الوُجود
هَل أَنا حُرٌّ طَليقٌ أَم أَسيرٌ في قُيود
هَل أَنا قائِدُ نَفسي في حَياتي أَم مَقود
ومنه ببساطة يتحرر المرء من قيود عبوديته للخطايا، ويعلو مقامه ومن ثم يصير مميزا عن رفاقه، للدرجة أنه يشفق عليهم مما هم فيه.
وهنا نرى سؤالا يطرح نفسه، كيف يأتي الخلاص أصلا؟ والإجابة هنا -بحسب العقيدة المسيحية- بواسطة قوة عليا، تمثل حلقة موصولة بين الناس والإله، ليتكامل عنده العلو والشفقة، ومنه يتحرك ليفك قيودهم، يزيح الضباب عن أعينهم وينقيهم من خبث خطاياهم "تتشابه مع فكرة رسل الله في العقيدة الإسلامية " مهما كلف الثمن، ولو كان بأن يفديهم بنفسه متحملا عنهم الخطايا، ولذلك جاء من لقب المسيح لديهم بالفادي المخلص.
ومن ذلك كله نستطيع أن نفهم صورة عامة عن حال الناس، فهم -وإن اختلف جوهر العقيدة- في حالة انتظار دائم لمن يفديهم بنفسه أو حسبه يفك قيود حياتهم البائسة ويصنع معجزة جديدة بإحياء أمل قد مات بداخلهم وإشعال نار الحماسة التي لم تقدر مقاومة الحياة الباردة، فترى -مثلما رأينا المخلص- تلهف بعض الأقوام في الجاهلية لبعثة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- منطقيا، وكذلك ترقب الشيعة للإمام الغائب والسنة لرسول الله "محمد بن عبد الله" الذي يملأ الأرض عدلا آخر الزمان، فكل على حسب موقعه ومعتقده.
لكن وسط تسارع إيقاع الحياة المتزايد، والذي يتزايد مع قتامتها وسوادها، ورواج فكرة إعلاء قيمة الفرد ومصلحته أمام الجميع، بحيث تجعله في نظر نفسه مركزا لكل شيء فيكون أمام المرء فرصة مفتوحة للتسلط والسطوة، هل يكون أمام النفوس الهشة -المحطمة التي لا زالت ترى نفسها ذرة مهملة في عالم متسع- نصيبا لتصنع مخلصها الخاص محاولا محاولة اليائس تحريرها من مآسيها وتكمل حياتها؟
تذكرة ذهاب وعودة "نادية"
الأعمال التي تحدثت عن المخلص وفلسفته كثيرة جدا، ولكن لا أرى ما هو أقرب للصورة التي تحدثنا عنها -مما قرأته واطلعت عليه- إلا في أعمال الكاتبة نورا ناجي، والسبب هو أنها صنعت في أعمالها مزيجا -بين الواقع المادي منزوع الروح حتى في الأبنية الشاهقة التي تزيد من تصغير الإنسان، والذي فيه يتحرك البشر كآلات مسخرة تواكب سرعة زمانهم على حسب ما تقتضيه مصالحهم، وبين الإنسان الهش الذي لا يستطيع التكيف مع حالة زمانه، لأن بقية روحه التي رأت الجمال وعرفته "ولو حتى لقطة واحدة" تأبى عليه ذلك- يظهر منه نفورا من بطلات أعمال الكاتبة "كـ منى في رواية بنات الباشا، وحياة في رواية الجدار وأبطال رواية سنوات الجري في المكان" تجاه هذا العالم، وأيضا يغلف شعور الوحدة والاغتراب كيانهم وحسهم، حتى أمام اختلاف اللغة الذي يؤدي للطنين المزعج "كما في كتاب الكاتبات والوحدة"، فيزيدهم تشوشا وألما تجاه بقية ذاتهم التي تتلاشى شيئا فشيئا، إلى أن يصيروا معلقين بلا هوية، موتى ينتظرون الموت.
"الدماء التي تتركك
لن تعود أبدا"
لذلك اختار بعضهم حلا وسطا، شيئا يجمع بين مصلحة الفرد بمسايرة ذلك العالم وما فيه من مكر، ومسحة روحية بسيطة يجتمعون عليها لتعطي لحياتهم ومضة خفيفة تصبرهم على مأساتهم، ويكون مخلصهم مثلهم، يسري عليه كما يسري عليهم من آلام وتهميش، ولا يختلف عنهم إلا بالقدر الذي يفك عنهم قيود حياتهم ويحررهم من سخافاتها شيئا يسيرا، ومن ثم يعود إليهم فلا تجد فرق بينهم "المخلص وملتمسوه"، وكان أفضل مثال على ذلك نادية "في رواية بنات الباشا".
كانت تبكي
كان يفترض أن أموت أنا
أطبطب على كتفها، أقول: كلنا سنموت
لكنّها ماتت وحيدة
نحن جميعًا وحيدون، ما يهمّني ألا أموت أمام أحد، لا أريد أن أموت في انفجار أو في الشارع أو مكان عام، أريد أن أموت في منزلي بصمت.
"بنات الباشا- نورا ناجي"
رسمت الكاتبة شخصية نادية بما يناسبها من أفعال وصفات تجعل وجودها "الأثيري في الأغلب" ملائما لواقع أبطال الرواية، حيث إنها من جهة مثلهم معجونة بالمعاناة والتعب والتهميش، ومنه وضعت نهايتها المأساوية كإشارة أن مهما فعلت نادية فلن تصل لمرتبة رفيعة أمام أقرانها، على العكس، ما دامت مثلهم سيسري عليها النهاية العادية التي تلوح لهم "كما ذاقتها شخصية فلك" مجرد حدث وانتهى الأمر "كما قالت منى".
ومن جهة أخرى بها ما فقدته في هذا الواقع، الشفافية والبراءة التي لم تتلوث كثيرا "لذا كانت من البدو"، ومنه نرى حماسها في أن تفدي أولئك من الهلاك أو التلاشي، تدفعهم دفعا ليكملوا في حياتهم، تزيح عنهم همهم الثقيل وفقدان معنى الوجود، ومن شفافيتها يرون أثر فدائها من الإجهاد والحزن على ملامحها وصوتها "كما فعلت مع نهال وزينب وأم لوسيندا"، فيظن أنها انعكاس لهن، حين يغادر ويموت تنتهي آلامهن ويعدن لحياة طبيعية نسبيا، وذلك تأويل آخر لموتها الغامض.
ولكي يتم إحكام شخصية نادية رسمت الكاتبة شخصية "الباشا" بذكاء كافٍ -بجعله متمسكا بها حين رآها أتى بها دون أن يقيدها بشيء، حسبها عنده أن تطوف وتجلس مع أي عاملة تشاء- على مقاس واقعه بنظرة مجردة من المشاعر، فيرى من المصلحة أن توجد نادية لتنزع عن الفتيات -الذي انتقاهن لخبرتهن- بقدر ما يجعل طاقتهن مستمرة في العمل، وكلا الطرفين رابح.
هل تحب النيل؟
أحبه؟ إنه ضروري للبقاء
لا أتحدث عن فائدته الجيولوجية لمصر، النيل أكبر من مجرد وعاء للشرب
ـ بالتأكيد، إنه وعاء للتفريغ أيضًا
اقتسام الذنب ونصف مخلِّص "خليليّ"
❞ لماذا سأضحك عليك؟ تجربة السجن مرعبة. تجربة النبيِّ يوسف في الجب هي ما صنعته، لا أحد يلتفت كثيرًا إلى هذا التفصيل، قضى يوسف في الجب زمنًا غير معلوم حتى أخرجوه كل نبيٍّ يمر بجب، كل نبي يُمرن على الجُرح، وأنت نبيُّ نفسك، تجربة السجن هي ما صنعتك يا يحيى.❝
ننتقل لمرحلة أدنى قليلا، ببساطة تشبه الأخلاء والصحبة التي يفترضها شعراء الجاهلية "ومقلديهم في باقي العصور" في معلقاتهم وأشعارهم، لطرد آلامهم بالأنس بهم، أو للتصبر والتماسك بإلقاء حمل من أوجاعه على هؤلاء الأصحاب مؤقتا حتى لا يعميه الحزن فيضل عن مقصوده، كامرؤ القيس في مطلع معلقته الشهيرة "قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل" أو عدي بن ربيعة "المهلهل أو الزير سالم" وهو يعبر عن فجيعته بأخيه بقوله:
"بئس من عاش في الحياة شقيا
كاسف اللون هائما ملتاحا
يا خليليَّ ناديا لي كليبا
واعلما أنه ملاقٍ كفاحا "وجها لوجه"
يا خليليَّ ناديا لي كليبا
ثم قولا له نعمت صباحا"
تتضح تلك الصورة أكثر في شخصية عمرو الطبيب النفسي ليحيى، وكذلك شخصية سارة الطبيبة النفسية لياسمين، فهما يتشابهان مع فكرة الخليل الافتراضي لشعراء الجاهلية، ولذلك سببان أو فرضيتان أولهما أنهما غير موجودين أصلا، لأننا لم نسمع عن وجود سارة إلا في يوميات ياسمين "تعززها طريقة د.عمرو وتساهله"، ولم نر عمرو إلا داخل حوار مسرحي ألفه يحيى، وثانيهما أنهما موجودان، لكن بينهما حائط شفاف يستطيع فيه المريض أن يتحرك بحرية ليرى ذاته ممثلة أمامه، فيتعرف على أوجاعها وبتوجيهات بسيطة تعالج المسألة "عزز ذلك وجود سارة على لسان نانا بذكر عابر".
❞ قلت لسارة لن أتناول الحبوب، عرفت أنها مضادات اكتئاب وأنها تخدعني. ابتسمت، قالت هذا خبر جيد، لأنني أستعيد إدراكي، تحدثت كثيرًا عن أهمية الدواء، قالت: «لو كنتِ ميتة لن يؤثر فيكِ على كل الأحوال، ولو كنتِ حية سيعيدكِ للعيش بشكل طبيعي، دون ألم ولا انتظار ولا تساؤلات».❝
وأيا كان الفرض الأقرب للصواب بينهما، فهما يتفقان في التفتيش عن مُخلّص قريب منهما يعرف أي طريقة تفلح للعلاج لهما، وبما أن ما رأوه من الواقع لا يؤهلهما للوثوق به نتيجة تلاشي أحلامهما وضياع الروح التي تجعلهما يسعيان فصارت حياتهما جريا بلا أي معنى، فهما يفتشان داخل النفس عن ذاك المخلص، يقبعان داخل شرنقة "كشرنقة الكاتبات الوحيدات التي سردتها الكاتبة في الكاتبات والوحدة " وينفردان بأنفسهما وكلا منهما على حسب ما يريده، مبارزة رقيقة لتهوين الماضي للإكمال "بين عمرو ويحيى"، أو عنيفة تزيد نكران المرء لذاته حتى لا يرى لنفسه مكان في واقعه "لا شيء" فيخرج منها خفيفا، ومنه يتحقق معنى الخلاص في الحالتين بمساعدتهما "عمرو وسارة" إذ بدونهما "وبدون رفقاء الشعراء" تظل المشاعر حبيسة النفس غير مفهومة، وتجمد المرء في مكانه بلا أي حركة".
كرة الارتداد "جدار المأساة"
"ألقي نظرة سريعة إلى الجدار، قبل أن أغمض عيني، هذا الجدار هو كل حياتي، وهو ما يدور حوله يومي، ربما هو ما يجعلني مستمرة في العمل، في الحركة، أنا مثلهم تمامًا، ميتة منذ زمن، ربما أكون مجرد صورة أخرى في الجدار أيضًا، أخرج فقط لأقوم ببعض الواجبات، ثم أعود إليهم من جديد."
شكل آخر من اكتفاء الذات نراه في رواية الجدار، لكنه أقل في التأثير، نجده في جدار حياة وما تضعه من صور متعددة لأحداث صعبة، مأساة مجمعة تتمثل أمام عينيها، تنبع منها في الأصل عن مآسيها الخاصة التي صاغتها الكاتبة لتلك الشخصية "من مشاكل والديها لحبيبها خالد وأزمة الثورة إلى مآسي الفقد التي تعرضت لها واغترابها"، تتخلص من عبء أسئلتها عن جدوى الحياة من خلاله كلما تراه.
إلا أن الجدار يشبه كرة مرتدة، لا يزيح شيئا من أحمالها التي تزيدها بلصق صورة جديدة وحدث مر جديد، فما تشعر به تراه أمامها، صورة سوداء، حسبه أن يثبت الصورة بدقة أكثر من اللازم، ينزع عنها الأسئلة التي تخفف من هذا السواد ولو بمقدار بسيط "والعكس صحيح إذا وضعنا تحويل تيو للجدار".
خلاصة الأمر أن المعاني مرنة، تجعلنا لا نرى المعنى بصورة واحدة أو بتسلسل واحد، بل على حسب رؤى الناس وتجريبهم، ومما رأته الكاتبة من الواقع وبؤسه وأفراده المتعبين، استطاعت أن تهتم بقصقصة بعض الأشياء التي لا يقبلها العقل الآن عن الخلاص والفداء، ثم ألبست أصل المعنى بالواقع فأظهرت معان جديدة وصور مختلفة تلائمنا، بنفس الأهمية التي أوضحت فيه أثر الخلاص في قصص "فتح المندل وعروس النبي دانيال" من مجموعة مثل الأفلام الساذجة.
مساحة إعلانية
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب