التمرد، وعدم الاستسلام للواقع.. هذا ما يفعله دومًا جورج أورويل فى كتاباته، تلك الكتابات التى تدفعك دفعا نحو التفكير، نحو التساؤل، وعدم الارتضاء بواقع يفرضه العالم الحديث، ذلك العالم الذى فهمه جيدا أورويل، فهم قذارته، وتدنيسه للنبل البشرى، فهم جيدا أن عالما متسارعا كهذا إنما فقط يتسارع نحو الهوة مباشرة، فاستطاع بدقة متناهية فى استقراء مستقبله عبر كتابات أدبية لا تخلو من جمال وإبداع أرسل من خلالها العديد من الرسائل لعلنا نفهم ونحاول تغيير شيئًا ما.
أورويل ليس بالكاتب العادى، أعتبره مناضلاً ضد الخنوع بأشكاله، مشاكسًا لا يرضى بسهولة للواقع، صوت المهمشين والفقراء، وأحيانا صوت الإنسان الداخلى. أورويل الدليل القاطع على أن الروايات ليست للتسلية فقط، برهانٌ كامل على أن العمل الأدبى صاحب الرسالة لا يمكن أن يموت او يندثر. لكن لماذا يتوقف انتشار أعماله فى مصر؟!
يكفى فقط ذكر اسم أورويل فى اى مكتبة، أو حتى أمام فرشة لبيع الكتب، وستجد روايتين لا ثالث لهما؛ 1984 ومزرعة الحيوان. لكن وماذا بعد؟
الروايتان تدفعانك للبحث عن اسم أورويل فى كل مكان، جرعة خالصة من عظمة الأدب، وقدرته على كشف المستقبل لا يمكن أن تتوقف بعدهما وتستكفى بهذا القدر. حتى اننى فى بداية حياتى الثقافية كنت أظن أن جورج أورويل يعنى روايتي 1984 ومزرعة الحيوان وفقط! ثم كانت الصدمة مضاعفة؛ الرجل كتب عددًا لا بأس به من الروايات والكتب والمقالات وحتى الأشعار! أين اختفى كل هذا؟!
فى الفترة الأخيرة خصصت جزءً كبير من قراءتى فقط لأورويل، وفى الحقيقة وجدت ان كنزًا كبيرا مخفى تحت تسلط شهرة 1984 ومزرعة الحيوان، كنز فكرى ثمين لا يخلو من متعة لا نجدها فى روايات الthriller هذه الأيام!
رواية "دع الزنبقة تطير" إحدى إبداعات أورويل العظيمة، أروع رواية قرأتها هذا العام - بطبعة عربية عن دار نشر الأهلية- إن لم تكن الأروع على الإطلاق بين كل الذى قرأته فى حياتى.
الغضب هو المحرك الاساسى للرواية التي تقع في 407 صفحة، فبطل الرواية (جوردون كومستوك) شاعر حالم، يُحسب على الطبقة المتوسطة لكنه يبغضها، ويكره طريقتها فى الحياة عبر عبادة إله المال. ونبات الزنبق هو رمزا للطبقة المتوسطة حيث أن بيوت الطبقة المتوسطة فى تلك الفترة فى لندن كانت تتزين بنبات الزنبق، وهذا لأنه نبات لا يموت بسهولة يعيش فى ظروف صعبة وفى هذا الوصف رمزية أراد أورويل أن يشير إلى أن الطبقة المتوسطة لا تموت فقط تظل تجاهد لتحيا.
يرى جوردون أن الإنسان لا يجب أن يترك كل حياته ومبادئه سعيا وراء المال، فيقرر النضال هربا من إله المال ويقوده نضاله إلى طريق مأساوى، يترك وظيفته الجيدة وهى كتابة الإعلانات، أملا فى إكمال قصيدته العظيمة التى سينهيها يوما ما وستقوده حتمًا إلى قمة المجد الكتابي، وهنا يستعرض أورويل حياة الشعراء الصعبة والضغوط التى تمارس عليهم يوميًا.
يستكفي جوردون بعدما ترك وظيفته بعمل ردىء كأمين مكتبة.. يعيش على الفتات فى مآساة حقيقية، مآساة اختارها لنفسه، فى محاولة عابثة للوقوف ضد عالم بأكمله.. يسوء حاله أكثر فأكثر، يزداد عناده أكثر، تحاول حبيبته التى تحبه بشده تغيير رأيه وإقناعه بالعودة إلى العمل فى مجال الإعلانات مرة أخرى. يرفض بل ويقرر ترك المكتبة إلى أخرى أصغر وبراتب يكاد يكون معدوما، ليقع فى هوة سحيقة من الفقر والانحدار لأسفل! هل سينجح فى طريقه أم سيقاد إلى الدمار النهائى؟ أم سيتخلى عن مبادئه ويعيش حياة طبيعية؟
تلك الرواية المشاكسة تفتح بابا كبيرا للتفكير.. وقفة تأمل تخطفك إليها الرواية، للنظر نحو العالم من حولك، رواية من تلك الأعمال التى لا تعود كما كنت قبلها، وهذا ما يميز أى عمل من أعمال أورويل.
هل يستطيع إنسان أن يحارب العالم منفردا وينجح؟ هل يستطيع إنسان أن يتمسك بأحلامه وطموحاته وسط فقر مهول؟ كيف يستطيع الكاتب أن يكتب وسط عالم لا يهتم إلا بالمال وجمعه؟! فى النهاية ستأخذك تلك الرواية إلى رحلة ممتعة، سلسة للغاية، رغم أنها تستعرض فلسفة عميقة، وتغرق فى دواخل النفس البشرية فى محاولة لتفنيدها وكشفها، إلا أنها جاءت بشكل بسيط سلس، وهذا هو قمة الإبداع.
للتواصل مع الكاتب من "هنا" أو من خلال التعليقات
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب