القائمة الرئيسية

الصفحات

حجر بيت خلاف.. بين متعة السرد وسحر الأساطير

كتب: ممدوح التايب


من عاش في الصعيد، تحديدا في القرى القريبة أو الملاصقة للجبلين الشرقي والغربي، سيتعرف في رواية الكاتب محمد علي إبراهيم (حجر بيت خلاف) على واحدة من طرق الثراء في الصعيد وهي التنقيب عن الآثار وتهريبها، وقد كان التنقيب فيما مضى يقوم به الأجنبي وقت الاحتلال وسنوات الملكية، لكن بعمالة مصرية لا تعرف عن الآثار سوى أنها مساخيط وحجارة.


 نقول في لهجاتنا المحلية أن فلانا "لقى لقية " محيلين الموضوع للحظ كما لو أن المقابر الفرعونية تخرج فجأة أمام أصحابها، وهذا ما تخالفه الرواية، والواقع أيضا. التنقيب عن الآثار في الصعيد يتم دوما عبر شبكة ضيقة ومتكتمة من المعارف والمنتفعين وأصحاب الأيادي الطويلة، شبكة تظل مبهمة الأسماء، لكن النوافذ المغلقة في الصعيد لها عيون وآذان أيضا، تسمع وترى وتكتم. 


بسبب السياسات الحكومية منذ عقود طويلة جرى تهميش التنمية في الصعيد بشكل عام، والقرى بشكل خاص. أدى ذلك لارتفاع متزايد في معدلات الفقر، فأصبح السفر للعاصمة أو لمنابع النفط في الخليج، أو للتنقيب عن الآثار أو الاتجار في الحشيش والسلاح، أصبحت السبل الأكثر ربحا كي تنجو العائلات من براثن الفقر.  في "حجر بيت خلاف"، تستمد الرواية مكانها من الواقع حيث قرية بيت خلاف في غرب مركز جرجا، التي عرفت تاريخيا بأنها الأرض التي خرج منها الملك مينا (نارمر) موحد القطرين في مصر القديمة وصاحب التاج الموحد للملكة المصرية، الشخصية التي تجسدت أيضا داخل العمل، للربط بين الماضي والحاضر.


يبدأ الراوي السرد بفقرة محفزة طعمها الروائي بجملة (عيل ملظلظ) في وصفه لسيد أبو سباق، والوصف يستمد قوته من بيئته حيث يعتبر العيل الملظلظ وصفا نابيا للشخص الذي يلاط به، وهذا ما تكشفه الأحداث تباعا. هذا الوصف يدخل أيضا ضمن المفارقات والخدع داخل النص، فالعيل هذا سيتم وصفه بعدها بالفرعون، وبين بداية النص وخاتمته يتكشف التناقض، فالطفل الذي أخذه أبوه للمشعوذ ليلوط به، هو نفسه من سيقتل المشعوذ في النهاية، وبين نقطة البداية ونقطة النهاية يتحرك السرد بخفة دون أن يتخلى عن الإدهاش. 


لا تراهن الرواية على تفكيك بنية الصعيد الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، بقدر ما تراهن على المتعة والتشويق وخلق الدهشة. السرد الذي اتكأ على ديناميكية التنقل بين الواقعي والفانتازي، بين الحاضر والماضي والوعد بما سيجئ، والتنقل بين أرض وأرض، نجح صراحة في أن يلزمني كقارئ سريع الملل بأن أتم الحكاية. تنوعت مستويات الشخوص، بطريقة عادلة، حيث حضرت النساء بأثر لا يختلف عن الرجال، لواء المباحث مع أحد المطاريد، الساحر المشعوذ مع أستاذ الجامعة، بنت القرية مع الجيوكاندا، الباشا الكبير والأوفيس بوي. 


نجد حس السخرية متخفيا لكن ملموسا مع الاحتفاظ أيضا بجدية السرد في أغلب الرواية، خاصة بالحوارات الداخلية التي يقولها سيد على لسان الراوي. للأسماء دورها حيث منح النص لبعض الشخصيات الأكثر صلة بسيد أسماء (عبد النعيم، فارس، محمود سباق، زينب، فهيمة، ميمونة، ثناء..) وطمس أسماء آخرين مكتفيا بمنحهم صفتهم الأبرز التي تحدد بها دورهم في النص (الباشا الكبير، لواء المباحث، أستاذ الآثار، البارمان، الأوفيس بوي). 


كان للبرديات التي وزعت داخل النص أثرا مشوشا بعض الشيء وتمنيا لو خرجت كجزء من السرد نفسه وليست كهوامش أو مقاطع مستقلة. الكلمات القرآنية كذلك التي كانت تدخل في سياق لغوي أكثر تبسطا وعادية بدت غير موفقة كذلك، رغم تميز النص وبراعته في إظهار انتماء النص لجغرافية اللغة أيضا، بالكثير من الجمل والكلمات الصعيدية، فضلا عن الحوار باللهجة المحكية. لم يتضح زمن الحدث بالتصريح، لكن ممكن من خلال بعض الدلالات في النص أن نتوقع أننا في نهاية الثمانينات وسنوات التسعينات. ورد في النص عدة مسميات لها دلالات طبقية وعنصرية يعرفها أهل الصعيد عن فئات فقيرة جدا من الناس مثل الجمس والمساليب، بل وحتى "العبيد" الكلمة التي ماتزال تقال في الصعيد وإن في أطر محدودة بلا وجود للحالة نفسها. 


لكن يبقى للنص عدة نقاط قوة نجح الكاتب بخبرة وحنكة في التعامل معها، مثل الدهشة اللامنتهية التي استمدت قوتها من لغة السرد الشيقة في العموم، ومن المزج بين الواقع والخيال، وولوج أبواب الأساطير بسهولة. وطبعا تبقى الجرأة في تناول فكرة كالتنقيب عن الآثار بطريقة مختلفة وغرائبية، وجريئة عن مجتمع شديد التكتم والتهميش.



author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات