القائمة الرئيسية

الصفحات

أفيون وبنادق.. صلاح عيسى يقتفي أثر خط الصعيد

 طاهر عبد الرحمن


أخيرا، صدر كتاب "أفيون وبنادق" عن مركز المحروسة للنشر، للكاتب والمؤرخ الراحل صلاح عيسى، وهو واحد من الكتب "المؤجلة" الكثيرة التي كان الراحل يضمها دائما في قائمة "تحت الطبع" التي كان يزّيل بها فهارس كتبه التي أصدرها في حياته، ثم رحل عن دنيانا دون أن يصدرها.


وفي الواقع فلقد أتيحت لي قراءة معظم كتب تلك القائمة، وقت أن كان الأستاذ صلاح عيسى ينشرها كمقالات في الصحف والمجلات الكثيرة التي كان يكتب فيها، مثل القاهرة والوفد والأهالي وغيرها، لكن لم يكتب لي الحظ أبدا في العثور على فصول "أفيون وبنادق".




ولقد نشرت تلك الفصول في أواخر عهد الرئيس السادات في مجلة/صحيفة "23 يوليو" التي كان الكاتب الصحفي الكبير الراحل محمود السعدني أصدرها خارج مصر، بتمويل خليجي وليبي في لندن، ولم تستمر طويلا بسبب لهجتها الحادة في تناول الأمور السياسية وأيضا بسبب أزمات مالية، وكان صلاح عيسى واحدا ضمن مجموعة من الكتّاب الذين كتبوا فيها، وكانت أبرز مساهماته هي تلك المقالات بعنوان "أفيون وبنادق"، عن ظاهرة العنف الجنائي والسياسي في مصر عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وما خلفته من آثار سلبية على المجتمع المصري، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، واتخذ من قصة حياة ومقتل خُط الصعيد الشهيرة مدخلا لذلك.


وبسبب أن تلك المجلة/الصحيفة كانت معارضة لمعظم سياسات الرئيس السادات فإنه لم يُسمح له بالتوزيع داخل مصر، وبالتالي لم يستطع أحد من الباحثين أو المهتمين الوصول إليها، وقد قيل أن الشخص الوحيد الذي يمتلك نسخا من أعدادها كاملة هو الكاتب الصحفي أكرم السعدني، ابن محمود السعدني، وعلى ما يبدو ليست لديه النية في نشرها.


وهكذا ظلت تلك المجموعة من المقالات "محبوسة"، ولم يمهل القدر صلاح عيسى إصدارها في كتاب مع أنها ظلت طول الوقت في قائمة "تحت الطبع".


وكما علمت فإن مجموعة من الشباب القارىء والمتحمس والمحب لصلاح عيسى وكتاباته حاولت أن تقوم بجمعها وإصدراها في كتاب، لكن لظروف ما فضلّت الكاتبة أمينة النقاش، زوجة الكاتب الراحل، أن تعهد بها إلى مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات، وقد صدرت فعلا في كتاب ظهر في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأخيرة (المؤجلة) تحت عنوان: "أفيون وبنادق، سيرة سياسية واجتماعية لخط الصعيد الذي دوّخ ثلاث حكومات".


في هذا الكتاب الصغير (235 صفحة) يقدم صلاح عيسى، بأسلوبه الممتع والجذاب المعروف، حكاية جديدة من سلسلة "حكايات من دفتر الوطن"، وهو العنوان العام الذي أصدر تحته مجموعة لا مثيل لها من الكتب التي تناولت قصصا لشخصيات مصرية وأحداث تاريخية، بعضها معروف وبعضها غير ذلك، وكما عادته فإنه يعيد ترتيب تفاصيل القصة والحدث من البداية للنهاية، اعتمادا على مصادر ومراجع تشمل الصحف والدوريات في زمنه بالإضافة إلى ما كتبه المؤرخون، وتقديمها بشكل يمزج بين الأدب والتأريخ.




وفي هذا الكتاب نحن أمام قصة محمد محمود منصور، الصياد الفقير الذي عاش حياة عادية جدا، كما غالبية الشعب المصري في ذلك الزمان، ثم تحول إلى أشهر مجرم وخارج على القانون في مصر العليا، تطارده قوات الشرطة والجيش لسنوات، قبل أن توقع به وتقتله، وهي قصة عادية ومتكررة على مدى فترات التاريخ، لكن - بسبب جرائمه التي تنوعت بين السلب والنهب والقتل، تحولت قصته إلى ما يشبه الأسطورة.


لا يكتفي- صلاح عيسى - كعادته - بقصة ذلك الشقي في حد ذاتها، وإنما يتوسع في دراسة ظاهرة "أولاد الليل" عند ذلك المنعطف التاريخي الهام في تاريخ مصر، في الفترة التي فصلت ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية، بكل ما صاحبها من تحولات على كل المستويات، محليا ودوليا.


جانب آخر مهم، لم يغفله عيسى، وهو علاقة المواطن المصري - على طول التاريخ - بالسلطة، السياسية والإدارية والأمنية، وهي علاقة يسودها الشك والريبة من الجانبين طول الوقت، ففي دولة نهرية مثل مصر كان يتحتم دائما أن تكون السلطة مركزية وأيضا قوية وأحيانا غاشمة وباطشة، خصوصا في ظل وجود محتل يفرض إرادته على الحكومة والملك بقوة السلاح أغلب الوقت، ولذلك كان المواطن ما يساند الخارجين على القانون، مساندة معنوية أو مادية، وهو ما جعل "أولاد الليل" قوة شبه مستقلة تفرض نفوذها وقانونها على مساحات واسعة وكبيرة في محافظات/ مديريات مصر وقتها، خصوصا البعيدة عن العاصمة.


من زاوية أخرى نجد أن عناصر من السلطة نفسها ساعدت أولئك "المطاريد" بشكل أو بآخر، وهو نموذج للفساد الإداري لم تستطع السلطة المركزية في محاصرته أو مواجهته، خاصة وأنها - أي تلك السلطة نفسها - كانت تتغير باستمرار على حسب طبيعة الحزب الحاكم، سواء كان حزب أقلية أو أغلبية، ووجوده في السلطة مرهون برضا قوة الاحتلال البريطاني أو رغبة الملك، وقد دفعها ذلك السبب إلى علاقة غريبة مع أولاد الليل، في محاولة للحصول على قوة إضافية أو حماية لمصالحها المتعددة.


بالطبع تنتهي حياة "خُط الصعيد" بالقتل، ككل أقرانه من الخارجين على القانون، وهو أمر شائع ومعروف، فبعد كل ما أحاط به من قصص، سواء حقيقية أو خيالية، فإن آخر ما تريده الشرطة، ومن ورائها الحكومة، هو محاكمة علنية لأي واحد منهم، لأنها سوف تكون فاضحة وكاشفة لكثير من العلاقات الغريبة والمريبة بين ممثلي السلطة وبين الخارجين عليها.


تبقى ملاحظة أخيرة يلاحظها القارىء المتابع لكتابات صلاح عيسى، وهي أنه لو صدر الكتاب في حياته فإنه ربما كان توسع أكثر وأكثر في تلك الدراسة، ولم يكن ليكتفي بما كتبه في تلك الحلقات التي ظهرت أوائل الثمانينيات في جريدة مصرية في لندن، لكن في كل الأحوال فإن قراءة أي "جديد" له، بعد وفاته، يعتبر مكسبا كبيرا للقارىء، ويضيف متعة ومعرفة ليس لها مثيل.


للتواصل مع الكاتب من "هنا"

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات