ألفية بن الأبنوطي
لطالما كانت الفكاهة وخفة الظل من مميزات الشعب المصري، خاصة في نقد الحياة اليومية ونقد الأحوال الشخصية، فتقلب الأحداث التي توثر سلبا إلى حدثا ضاحكا، فكان المصري أول من أنشأ جرائد ومجلات في المنطقة العربية للفكاهة والسخرية واشتهرت هذا المجلات بشكل كبير، ولا يسعنا المقام لذكرها هنا، لكن نستطيع إحالة الحديث هنا والإشارة لصحف امتازت بالطابع الفكاهي فمثلا منها (التنكيت والتبكيت) الذي كان يترأس تحريرها عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية، وأيضا (أبو نظارة زرقا) بأشكالها المختلفة لليعقوب صنوع.
درس الفكاهة والسخرية المصرية الكثيرون من الفلاسفة واعتبروها أسلوبا راقيا من أساليب التعبير، ويرى الدكتور شوقي ضيف في كتابه "الفكاهة في مصر"؛ "أن السخرية أرقى أنواع الفكاهة وهي فن قديم حتى أن جذوره لتصل إلى قدماء المصريين"
وليست روح الفكاهة وخفة الظل لدى المصريين وليدة اليوم أو العصر الحديث وإنما هي قديمة قدم الحضارة المصرية نفسها، حيث سجل القدماء المصريون ضحكاتهم وفكاهتهم على جدران المعابد، ولم يكن الجبرتي بمأني عن تسجيل هذه الأحداث الفكاهية وخفة الدم، فوثق لكثير من النوادر والطرائف التي لا تخلو أبدا من خفة الظل والفكاهة.
فيحكي شيخ المؤرخين عبد الرحمن الجبرتي، أن الفكاهة انتشرت في مصر بشكل كبير أثناء نزول الحملة الفرنسية بمصر، وكانت أسبابها هو ظهور وانتشار المقاهي بكثرة وازدحامها بالرواد وظهور عدد كبير من الراقصات والمهرجين وذلك ابتغاء التسلية وقضاء الوقت، وساعد هذا على تناقل النكات من فم إلى آخر.
ويحكي لنا الجبرتي عن شاعر اسمه الشيخ عامر الأنبوطي، اشتهر عنه مرحه وفكاهته، كما اشتهر عنه أنه حينما يصادف أي قصيدة يقلب وزنها وقافيتها إلى قصيدة أخرى لوصف الطعام.. (يزفرها).. يجعلها قصيدة تمتدح (الفتة – وأناجر الضأن- المحاشي والمحمرات والمشمرات والحلويات)، وغيرها فكتب عنه يقول: "ومات الشيخ الصالح الشاعر اللبيب الناظم الناثر الشيخ عامر الأنبوطي الشافعي شاعر مفلق هجاء ليب شراره محرق كان يأتي من بلده يزور العلماء والأعيان... وكلما رأى لشاعر قصيدة سائرة قلبها وزنا وقافية إلى الهزل والطبيخ فكانوا يتحامون عن ذلك".
ثم يستطرد في الترجمة له قائلا: "وكان شيخا مسنا صالحا مكحل العينين دائما عجيبا في هيئته ومن نظمه ألفية الطعام على وزن ألفية بن مالك"
وألفية بن مالك هي عبارة متن شعري قام بنظمها الإمام محمد بن عبد الله بن مالك الجياني؛ وهذا المتن من أهم المنظومات النحوية، حتى أنه درجت مقولة شهيرة (من حفظ ألفية بن مالك أصبح شاعرا)، وذلك من فرط قوتها اللغوية وأساليب النحو المجمعة فيها. وقد بدأ بن مالك ألفيته هكذا
قالَ مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ مَالِك …أَحْمَدُ رَبِّي اللهَ خَيْرَ مَالِكِ
مُصَلِّياً عَلَى النَّبيِّ الْمُصْطفَى… وآلِهِ المُسْتكْمِلِينَ الشَّرَفَا
وَأَسْتعِينُ اللهَ فِي ألْفِيَّهْ……مَقَاصِدُ النَّحْوِ بِهَا مَحْوِيَّهْ
تُقَرِّبُ الأقْصى بِلَفْظٍ مُوجَزِ……وَتَبْسُطُ الْبَذْلَ بِوَعْدٍ مُنْجَزِ
وَتَقْتَضي رِضاً بِغَيرِ سُخْطِ……فَائِقَةً ألْفِيَّةَ ابْنِ مُعْطِي
وَهْوَ بِسَبْقٍ حَائِزٌ تَفْضِيلاَ……مُسْتَوْجِبٌ ثَنَائِيَ الْجَمِيلا
واللهُ يَقْضِي بِهِبَاتٍ وَافِرَهْ……لِي وَلَهُ في دَرَجَاتِ الآخِرهْ)
أما في ألفية بن الأنبوطي فقد أستبدلها بالتالي:
يقولُ عامرٌ هو الأنبوطِي... أحمدُ ربي لستُ بالقَنُوطِ
وأستعينُ اللهَ في ألفيّهْ... مقاصدُ الأكلِ بها مَحويّهْ
فيها صُنوفُ الأكلِ والمَطاعِمِ... لذّتْ لكلِّ طاعِمٍ وهايمِ
طعامُنا الضّاني لذيذٌ للنهِمْ... لحماً وسمناً ثم خبزاً فالتَقِمْ
فإنها نفيسةٌ والأكلُ عمّ... مطاعِماً إلى سناها القلبُ أمّ
وبالرغم من أن ألفية بن الأبنوطي كان الغرض الأساسي منها هو المزاح وإظهار البهجة والتفريح عن النفس؛ إلا أننا نستطيع الاستفادة منها بشكل كبير، حيث من خلالها نستطيع ببساطة توثيق المأكولات المصرية في ذاك العصر، حتى نغلق الطريق أمام كل المتربصين بالتراث المصري ومحاولة توثيقة في التراث العالمي لصالحهم!
وبتتبع هذا الشاعر عبر المصادر الأخرى، وجدنا مجموعة من الترجمات له حيث اتفق معظمهم على أن (عامر الأبنوطي)، كان شاعرا مصريا صميما من ناحية سرعة البديهة ومحاكاته الفكاهية التي يمتاز بها المصريون؛ حتى أن الشعراء المعاصرين له كانوا يتعامون عن أفعاله درءا لسهام سخريته، ووصل بهم الأمر أنهم أصبحوا يمدونه بالمأكل والمشرب وحتى الكسوة، وبعضهم كانوا يغدقون عليه بالمال. وعلى غرار ألفية بن مالك وجدنا محاكاته الفكاهية بلامية بن الوردي.
ومن أزجاله الشعرية التي وصف فيها الأطعمة
أكلت من الضأن رطلين
يزيد قلبك نفاسة
وأبعد عن الكشك يا زين
دا الأكل منه تعاسة
ولنقرأ أيضا في تاريخ الجبرتي "عجائب الآثار"، كيف سخر المصريون من رجب باشا الحاكم العثماني المعزول، وألقوا بأهازيجهم وعبروا عن غضبهم منه، حيث تجمعوا تحت القاعة وأمام الشباك ينادون عليه معلنون غضبهم الشديد عليه قائلين
باشا يا باشا يا عين القملة!
مِنقال لك تعمل دي العملة!
باشا يا باشا يا عين الصيرة!
من قالك تدبّر دي التدبيرة!
وللحديث عن الفكاهة في مصر، فلن يسمح لنا المجال سرد محتويات الكتاب كاملا هذا وفقط، ولن يسعنا المقام حتى إذا جمعنا موسوعة التي أطمح في عملها يوما ما، ولهذا أحيلكم إلى المصدر الأصل وهو كتاب الرائع؛ شيخ المؤرخين عبد الرحمن الجبرتي، (عجائب الآثار في التراجم والأخبار).
** كتاب "ذاكرة النخبة" للكاتب والباحث محمد غنيمة، الصادر عن دار الرواق 2021
وللتواصل مع الكاتب من "هنا" أو بترك تعليقك أسفل المدونة
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب