أقف أمام خزانة الثياب في غرفتي القديمة، جانب من الرفوف الصغيرة فارغ الا من بعض الثياب القديمة بمقاس «S»، وجانب به رف واحد يحتوي بعض زجاجات طلاء الأظافر القديمة الزاهية، وزجاجات عطر فارغة، أحتفظ بها لأشم فيها رائحة الصبا والروائح المتزامنة مع كل فترة من حياتي. أبدأ في رص ثيابي الحالية، يدهشني أن الرفوف لا تكفيها، كيف تضاعفت حاجتي للثياب خلال خمسة عشر عامًا! هل لأن وجهات خروجي كثرت واختلفت، أم لأن شراء الثياب مرتبط بقدر ثقتك بنفسك وبمظهرك، أو بقدر وحدتك ورغبتك في المؤانسة والمداواة بالشراء؟
لم تصطف الثياب بنظام أبدًا في خزانتي ببيت الزواج، كانت دائمًا مثار ضيق وانتقاد يصل للتقريع: صفوف مائلة، قطع متدلية من الرفوف، تحت الثياب بعض الصور والأوراق أو البطاقات الصغيرة التي تعني لي الكثير، بين الثياب كنت أدس أشيائي الحميمة، زهرة حمراء من القماش والبلاستيك، قلب أحمر صغير من الكاوتش المنفوخ، بعض الاكسسوارات المنفلتة من مكانها، عطور ضلّت طريقها، ومع ذلك لم يضع أي شيء يخصّني أبدًا، ولا أرهقني البحث عنه، كانت حياتي دائمًا فوضى مُنظّمة.
أعجز عن خلق هذه الحالة في خزانتي القديمة، رصصت كل شيء بنظام كامرأة ثلاثينية وأمّ، وضعت الثياب الأكثر استخدامًا على الرفوف، ثياب العمل والنادي، لم يعد هناك مكان للخروج في حياتي، لا مكان للندوات والحفلات واللقاءات مع الكتّاب وأصدقاء الكتابة، أنا هنا فقط أمّ وامرأة تحاول أن تُصلح كل شيء، ولننحي الكتابة جانبًا، وننحي قراراتها المفاجئة وأفكارها الحالمة جانبًا، لأتصرف الآن وفقًا للنصف الثاني من عقلي، النصف الرمادي بالثياب الداكنة والنظرة الجادة والطريقة الرسمية، النصف المسئول عن الحسم.
أبحث عن صديقاتي القدامى، يقدمن دعمهن تليفونيًا لتعذّر الخروج بوجود أطفال، وزوج متطلب يخاف على زوجته، والكثير من شغل البيت، وكل هذه الأسباب التي حفظتها قبل سنوات، واحدة فقط انفصلت قبل أعوام عرضت أن نتناول الغداء ونذهب للتسوق. في محلات الثياب كانت تنتقي القطع الزاهية العصرية، المختلفة عادة عن ذوقها، حكت لي عن الأعوام الاولى في الزواج عندما كانت تقوم بشراء كل متطلباتها والهدايا للأهل والاصدقاء من مُدّخراتها، ولأنها لم تعمل لسكنها البعيد في إحدى المدن الجديدة، وانشغالها بالحمل والولادة، ولأنها كانت حريصة على شراء الماركات العالمية والثياب باهظة الثمن لترضي ولع زوجها بالتفاخر بأناقتها أمام الأصدقاء، نفدت نقودها.
قالت إنها فجأة وجدت نفسها مضطرة لأن تطلب منه النقود للشراء، ومن هنا بدأت المشاكل، عندما اكتشفت تجاهله لطلباتها، وتركها بدون نقود، اكتشفت أنه مُكتفٍ بما يجلبه من طلبات البيت، وبالهدايا التي يقدمها لها في المناسبات، عدا ذلك يعد نفسه غير مسئول عن الصرف على حاجياتها الشخصية، قال لها ذات خلاف:
- لماذا لا تعملين؟ ألم تكفِك أعوام من الرفاهية؟ الآن هيا انزلي للعمل، ولا تتحججي بالمسافات، وسائل المواصلات في كل مكان.
وهكذا عادت للعمل وحاربت في جبهات عديدة للحفاظ على بيتها وعملها في آن، بدأ دخلها ينمو وشخصيتها تتغير، كما بدأ اعتماده المادي عليها يزيد، ومسئولياته الأخرى تجاهها تقل، فلم تعد تتقبل وجوده في حياتها كزبون مقيم في فندق، يدفع حساب راحته فحسب. تركته إثر حوار كان يحدثها فيه عن القوامة.
قبل أن تدفع ثمن الثياب التي انتقتها، أعادتها جميعًا واستبدلت ألوانها بألوان أكثر حيادية مثل الأبيض والأسود والبيج، سألتها:
- لماذا؟
قالت:
- لأني أمّ تعيش وحدها وتسكن في شقة إيجار. لا أريد أن أكون مُلفتة بين جيراني حفاظًا على أولادي وسُمعتي.
عُدت للبيت وفي حلقي غُصة، الناس يقبلون الزوجة ما دامت زوجة، أيًا كان مظهرها وأيًا كان سلوكها فهي تلقى الاحترام والتبجيل دائمًا، ولا يقبلون المُطلقة، الأم الوحيدة، أيًا كان مظهرها وأيّا كان سلوكها، هي في نظرهم فاشلة، مُدانة إلى أن تثبت عكس ذلك. ضحكَت وهي تحكي عندما سألتها أمهات في إحدى إجتماعات المدرسة عن زوجها، فردّت عليهن:
- لا أنا «أم عزباء» (Single mother).
فشهق بعضهن، وسألتها إحداهن على انفراد:
- تقصدي إنك خلفتي من غير جواز؟
وهكذا تعلمت صديقتي أن تقول بوضوح:
- أنا مطلقة.
أنظر إلى ثيابي في الخزانة، المعاطف الثقيلة كلها هدايا منه، وجودها في حوزتي يؤلمني، يُذكّرني بالأيام الطيبة والمناسبات البعيدة، نحن نحتاج في وقت الحسم إلى الذكريات السيئة فقط. كل ثيابي الاخرى اليومية كانت منّي، القطع البسيطة الخفيفة تجعل روحي أخف وتشبهني، أمّا القطع الثقيلة فكانت ذوقه، ما يحب أن يراه علي، ما يحب أن يقدمه لي لتظل ذكراه ثقيلة في نفسي، لا أستطيع التحرر منها بسهولة. في يوم شتوي بامتياز أبيت أن أرتدي أحد معاطفه وارتديت معطفًا خفيفا من اختياري، قلت لنفسي: «إنه ثمن الخروج».
مرّة أخرى كذبت، قلت لأمي أنني على موعد مع صديقة، وكأن كل ما حدث لم يعطني الجرأة الكافية لأقول إنني سأنزل من البيت لحضور ندوة، وأتحمل التبعات التعيسة التي تلاحق سعادتي باستمرار. إن كان لقاء الأصدقاء الحقيقيين مقبولا، فلماذا لا يكون لقاء أصدقاء الكتابة مقبولاً أيضًا، لقاءات الأصدقاء العاديين تمنح الروح بعض الترويح، مثل أطفال يلعبون بفقاقيع الصابون، لكن لقاءات أصحاب نفس الهواية تمنح الروح الاتقاد، الفكرة والدافع والمُبرر، والنتيجة. تفتح المراوح عن آخرها لتطير كل المفاهيم والمشاعر، تتغير وتتبدل، وحده الشغف يقف على الارض راسخًا مُمتنًا.
نرشح لك: حصريا.. قصة "موت حلو المذاق" بصوت أحمد القرملاوي
كانت الندوة في حي الزمالك لكاتبة مهاجرة، وصلت هناك برفقة الوحدة والقلق، بداخلي هذا الاحساس بهشاشة الروح الذي يصحبني في كل مرة أضطر فيها للكذب. كانت جميلة، بسيطة، ومرتبكة، عفويتها نفدت إلي وبددت وحدتي، كان الجمع كبيرًا، صمت وتركيز واحتفاء، حوارات ملهمة عن الكتابة، جماعات من الاصدقاء، كنتُ الوحيدة التي تقف بلا رفيق.
بعد الندوة غزاني مزيج من المشاعر المتناقضة، تمشيت في الشوارع الغارقة في البرد والانعزال، مع كل خطوة تزداد غُربتي، وتتراكم أسئلتي، بعد هذه الجلسات التي تُغذّي فيها روحك تبدأ في مواجهة شخصك، يبدأ صراعك المحموم حول نفسك، يبدو أن إطعام الروح يدفعها للتفكّر، للانفلات من الروتين اليومي والبحث عن حقيقة وجودك، عن أحلامك والعوائق التي تنتظرك، عن انتماءاتك المتناقضة التي تعذّبك، عن رفض الناس لك هناك، ورفض الناس لك هنا، عن أرقام الهاتف التي تحتاج إلى أن تطلبها الآن ولا تستطيع، عن أقربهم إليك، أبعدهم عنك، عن احتياجك وضعفك وسخطك، وعنك.
بعد غضب أهلي من تأخّري وتذكيرهم الدائم لي بالمفروض والواجب والصح، وقفت في غرفتي القديمة، أمام خزانة الثياب، ودرفة المرآة، أطالع نفسي التي يعرفها الناس وأعرفها، بمعطفي المزموم على خصري، وجهي المحدد بالطرحة وعينيّ الواسعتين اللتين تبرقان لتعكسا روحي. بدّلت ثيابي لأقف أمام المرآة أطالع نفسي التي لا يعرفها الناس وأعرفها أنا، بثياب البيت الخفيفة، عُنقي الدقيق، شَعري المُهذّب، المُتمرد، الحي، الذي أكاد أشعر به وأسمعه وأقيم معه عداوات ومُصالحات. سألت نفسي: «من أنا؟»
** رواية "الحجرات" للكاتبة الدكتورة شيرين سامي، صدرت عن دار الكرمة للنشر والتوزيع، يوليو 2021
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب