آية حسن
يبدو وصف ما يدور بداخل رواية "ماكيت القاهرة" للوهلة الأولي أمر سهل، لدينا ثلاث شخصيات وثلاثة أزمنة مختلفة، ما يعني ثلاث قصص تدور داخل القاهرة أو ماكيتها. لكن للأسف التقييمات المتناثرة التي ظهرت هنا وهناك عن الرواية كلها تصف انطباعا متشابها وصل إلى هؤلاء القراء خلال العمل وقد كان هذا الشعور هو "الصداع" تخيل أن تجلب لك رواية بثلاث شخصيات صداعا ماذا قد تفعل رواية أخرى بعشر شخصيات مثلا؟!
لكنني الآن أعرف أن الأمر لا يتوقف أبدا علي عدد الشخصيات، لم يكن من قبل ولن يكون الآن. نحتاج فقط لكاتب لديه من المخيلة ما يكفي..
"ألهذه الدرجة يمكن لمكان متخيّل أن يمحو مكانًا حقيقيًا؟"
الحبكة
كما أسلفت فنحن نتحدث عن ثلاث شخصيات، "بلياردو" في عام 2011 و"نود" في عام 2020 و"أوريجا" في عام 2045. تجمعهم الثلاثة أشياء كثيرة أهمها وحدة المكان وقد يظن البعض أن البطل هو القاهرة بالطبع إلا أن هناك وحدة في مكان أخر داخل القاهرة وهو "جاليري شغل كايرو" حيث تبدأ كل القصص وتنتهي.
"جاليري شغل كايرو" هو قلب القاهرة كما تُصور الرواية وهو قلبها بالفكرة أيضا حيث كان دائما قلب الحدث ومكان الشغب ومساحة عمل وفعاليات طوال الوقت، حتى عندما توقفت مصر لأيام معدودة لتلتقط أنفاسها في 2011 كان المكان الوحيد الذي لم يهدأ للحظة هو هذه البقعة علي الخريطة بالتحديد.
تجمع الشخصيات الرئيسية الثلاث شخصية أخري تسمى "المسيز" كي يعملوا في مشاريع مختلفة تخص بناء مجسم للقاهرة في أزمنة مختلفة، وهنا يبدأ كل بطل في رواية حكايته الخاصة حتى نكتشف أننا أمام حكاية واحدة أو ألف حكاية..
بدأ جاليري شُغل كايرو عمله في سيولة تلك الأيَّام الحرَّة لاندلاع ثورة يناير، والتي ما لبثت أن ابتُسرت مثل فيلمٍ عوقب جميع أبطاله. بموازاة المدينة المشتعلة حافظ بدقَّة على برنامجه الذي بدأه قبل أيَّام من تفشِّي غضبها، وفي الوقت الذي أوصِدت فيه أبواب الأمكنة جميعها، ظلَّ هو يمارس أنشطته بِرَباطة جأش تنمُّ عن شجاعةٍ أو جهل أو لا مبالاة، مَحمِيَّاً ببابه المصفَّح، أو بسيرته المرعبة.
وسط حشد كبير من المعاني
من محاور الرواية الصادرة عن منشورات المتوسط، للكاتب والناقد طارق إمام، هو كتاب "منسي عجرم" والذي تتمسك كل شخصيات العمل بقرأته حتى نصل إلي النهاية ونعلم أنه كتاب يحكي في كل مرة شيء مختلف ويروي لكل شخصية حكايتها، وأنه كتاب يتحدث عن كل شيء ويسرد كل نظرية ولا يمكن قرأته مرتين لتجد نفس الكلمات، خلال القراءة لم أعتبر هذا الكتاب الغريب لمنسي عجرم إلا عنصر ضئيل التأثير في الرواية إلا عندما بدأت أحاول الفهم وأدركت أن العمل لا يحتوي علي تفسير واحد بل تفسيرات مختلفة، الباب مفتوح تماما لتأويل أسماء الشخصيات الغريب أو عدم تأويلها، ربما ترى حكمة في الحوارات الطويلة داخل مكتب الجاليري وربما تعتبرها ثرثرة فارغة.. على أية حال سوف تظل تري القصة الرئيسية وحبكتها بشكل مختلف ما يعني أن جميعنا سوف نقرأ كتابا واحدا لكن بمنظور وتفسيرات مختلفة.
ليست القصة بل كيف تروي القصة
نلاحظ بسهولة في بداية الرواية تيار غريب يرغمنا علي الإبطاء في القراءة، وهذا بسبب مجرى الأحداث العجيبة، لن نستطيع قراءة جملة دون تركيز.. الرواية تجبرك علي مسايرة الأبطال في قصصهم وتفاصيلهم المملة لأن حياتهم بتفاصيلها الكبيرة توجد بداخلها.
الرواية تلعب لعبة جديدة في ترتيب سرد القصة، الذي لم نعتده من قبل، ويمكننا وصفه بالتجديد الذي لم أره في الأعمال العربية مثله إلا قليلا.
قرأت تشبيها للرواية بدمية "المتريوشكا" الروسية حيث توجد دمية بداخل أخرى، والفكرة هنا في رأيي ليست وجود حكاية داخل حكاية بل كيفية التلاعب بحكاية واحدة.
ما يجعل الرواية خاطفة للأنفاس كما قلنا هي لعبتها، اللعبة هي سرد القصة من مواضع مختلفة واختيار متى تتوقف ومتى تكمل. يبدوا أن عصر القصة ذات البداية والذروة والنهاية قد توقف وأصبح لدينا أسلوب جديد محير، حيث الرواية كلها ذروة.
وربما ما يوضح طرافة تلك اللعبة هو الفصل الأخير حيث تشرح واحدة من الشخصيات ما جرى خلال الرواية وما هي القصة وكيف تشابكت وتقاطعت، لندرك أن القصة بديعة في خيالها وتركيبها لكن وحدها ربما لم تكن لتخرج بهذا المكر، احتاجت القصة إلى تكنيك جديد ليتممها كي لا تخرج مثل قصة عادية تحتوي علي بعض التفاصيل الخيالية بل تصبح قصة ذات أبعاد مختلفة، قصة تجلب الصداع..
تعليق شخصي قد يراه البعض غريبا
حاولت فهم أسماء الشخصيات مرارا وتكرارا ولكنني في النهاية وصلت إلى اكتشاف آخر غريب وهو تجريد الشخصيات من عالمهم الروائي. تحتوي الرواية على بعض اللمسات الخيالية مثل رجل يعيش بداخل المرأة وعيون تتساقط من السماء وسيدة بلا وجه لكن إذا أبعدنا كل تلك المؤثرات ووضعناها جانبا وتأملنا إلى الشخصيات التي صنعت الرواية في المقام الأول فإننا سوف نجد سمات تميز قاطني القاهرة بوضوح. مثلا لدينا الفتاة التي تتربي بداخل أسرة متشددة لتتركهم في النهاية وتهرب وتحاول التنقل بين متاهة الأعمال الحرة، وهناك شخصية أخري تمثل شابا يتيما لم يهتم به أحد يوما فخرج إلى القاهرة ليحمل الطوب ويبني البيوت، أما الشخصية الثالثة فهي تمثل الاضطرابات التي تخفيها وسط القاهرة من أمراض نفسية تتعلق بالطفولة ورغبات جنسية غريبة لا نلاحظها وسط الحشود.
تلك هي الشخصيات التي ربما إن رأيناها في عمل آخر لاعتبرناها "كليشيه" أو مادة ذات تقلبات ومشاكل وسير أحداث متوقع شاهدناها في آلاف الأعمال الأخرى، لكن المميز أن القارئ هنا لم يرى هذا "الكليشيه" بل قصة فريدة تبدو أحداثها في عالمنا ولكنها بعيدة كل البعد عن المعتاد.
نحن أمام عمل فريد، لعبة جديدة تماما علي الكتاب العربي ويبدو أننا سوف نتحرر قريبا من القصة التقليدية حتى تصبح الأعمال هي ملعب الكتاب حقا بلا مبالغة حيث بناء الشخصيات وتوصيفها يتخذ مسلكا مختلفا، وحكاية القصة نفسها لم تعد كما هي سهلة وبسيطة بل أصبحت هي نفسها الجوهر الذي نعرف من خلالها الكاتب البارع والمجتهد من الكتاب الذين يكررون الأفكار والشخصيات وحتى أغلفة أعمالهم التي أصبحت متشابهة، أظن أن توقيت الرواية مناسب ليواجه هذا السيل من التكرار، ومناسب ليعيد إلينا أملنا في أدب عربي حديث نتباهى به.
نرشح لك: حصريا.. قصة "موت حلو المذاق" بصوت أحمد القرملاوي
للتواصل مع الكاتب من "هنا" أو اترك تعليقا أسفل المقال
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب