عبر النافذة الضيقة يتدلى رأس "زهرة" برباط يجمع شعرها أسفل منديل تلفه حول رأسها. لا تريد مشاحنة ليلية مع زوج ساخط يشغله شعرها الحريري أكثر من بيته الخالي من الطعام. من بين كل الناس منحها الله شعراً حريرياً ووجهاً دميماُ، ودت لو كان حجابها لوجهها ليس شعرها، وقتها ستكون جميلة أكثر من كل الجارات.
تشتم الجاز ليلاً المتسرب من نوافذ الأكشاك وتعلم من تدهن شعرها به ومن تتركه لحاله، أسفل نافذتها تتجمع الجارات لتسألن عن شعرها ولماذا لا تفوح منه رائحة الجاز، لكنها تصمت لأن الأمر لم يحمل أي أسرار. ولدت بشعر كثيف أسود ولم يتغير كثيراً بعد ذلك إذ تعجبت أمها سعاد من حريرية ملمسه وقارنته بشعرها الخفيف البني وشعر سليم الخشن، لكنها حزنت لأن البنت ولدت بملامح سليم الخشنة. أنف أفطس مع بشرة داكنة بعيون ضيقة غائرة.
لم يعوضها جمال شعرها عن السموم الخارجة من فم أمها، وضعت كرهها لزوجها في طعامهم كل يوم وأطعمتهم السم، كلما أغضبها أحدهم تعود لتسبها هي وسيد الأخ الذي اعتبر نفسه درعها من يوم ولادتها، يتلقى اللكمات والسموم بدلاً منها. لكن بطش الأم يخترق روحها، يمعن في إذلالها لتحمل وجهها كسبة طوال حياتها.
حينما أتمت خمس سنوات رأت نفسها في حلم بوجه انسحب ليصبح فجوة سوداء ملتهبة، حوافها نيران تحرق شعرها وفي الداخل سواد عميق تشعر به يسحبها للظلام، تصحو فزعة من تفاصيل حلمها فيربت سيد على يديها. يعدل من وضعه ليحتضنها ويتمتم بلحن هاديء لتنام ثانية:
"يا رب ينام يا رب ينام، وأدبحلك جوزين حمام
ياكل ويقول كمان
ما تخافشي يا حمام، باضحك عليه أما ينام".
امتلك سيد صوتاً ناعماً يبعث فيها الراحة قبل تحوله لتدمره سنوات المراهقة وتضفي عليه حشرجة منفرة، بالإضافة للتدخين الذي أجهز على صوته بالكامل.
يتكرر الكابوس على مدى سنوات طوال وفي كل مرة تزداد تفاصيله ليصبح مزدحماً. في إحدى المرات يتصاعد لحن صاخب من داخل الثقب، من شدة الصخب تصحو متضررة من صداع في جانب رأسها الأيسر، فتربط أمها رأسها بعملة معدنية ورباط قطني تعقده بشدة حتى تترك العملة علامة دائرية على رأسها. تصح علامتها كالوشم من تكرار الصداع ولا يتركها الكابوس.
في مرات أخرى تطاردها عدة نسخ منها وكل نسخة تعقد رأسها بنفس الرباط بعملة تنزلق ليبدو خلفها نفس الثقب المتسع للدرجة التي تتحول رأسها لرقبة تحمل ثقباً. يبدو أحياناً كفراغ يشبه الفراغ الذي يخلفه طلق ناري.
في إحدى المشاحنات في الوكالة اشتعلت مشاجرة بين إحدى التجار الصغار وآخر من أهالي عرابة أبو جريشة، الخلاف كان على مساحة بسيطة لقفص من البرتقال وضع على الطريق فتعثر فيه الشاب.
اشتعلت المشاجرة على مدى ثلاث ليال فالشاب الذي جرحه القفص الخشبي في قدمه كان من عائلة أبو جريشة، والتاجر صاحب القفص لم يمتلك اسماً لعائلة رنانة فتحمل ضياع بضاعته بأكملها و خسارة حلفائه الذين لم يصمدوا طويلاً أمام جبروت العائلة الأخرى التي تمتلك معظم الوكالة. كان غريباً أن تستمر حركة البيع نهاراً مثلما كانت وحينما تحل ساعات الإغلاق وتتوال المحال في سحب أبوابها على الأقفاص الخالية فتحتشد الأطراف وتبدأ جلسات صلح صغير تنتهي باستكمال ما بدأ.
ثلاث ليال من أًصوات تكسر العصي على الأجساد مع ضربات السيوف. خشيت زهرة على جسدها الضئيل المتقزم ضربة طائشة فحينما يحل الليل و يتناهى إلى سمعها صراخ النسوة ليعمل كخلفية عالية للضرب فتمد يديها لتسحب ضلفة النافذة حتى تحبس خوفها في الداخل، تنصت لحركة المطارق التي تمتد لخشب البيوت حتى تخلعه. فتغمض زهرة عينيها وتحلم بمطرقة تدق رأسها القبيح.
في الليلة الأخيرة للمشاجرة وأمام نافذتها انتظرت عائلة الشاب التاجر المقيم بلوكاندة هاشم بجوار محال الحاصلات الزراعية وأكياس الورق المقوى، وتتبعوه حتى نافذة زهرة فالتصق جسد التاجر بخشب النافذة تسللت نظراتها بين ألواح الشيش لترى مهاجمه. لكن الدوي الذي سمعته بعدها أصابها بالخرس مدت يديها لتفتش في جسدها عن موضع الرصاصة المنطلقة فلم تجد شيئاً. أرسلت نظراتها خلف النافذة لتصدمها فجوة سوداء في جذع التاجر. فجوة تشبه الكابوس الذي يطاردها يؤطر حوافها وزخات لا تنتهي من الدماء.
أرادت النظر أبعد من ذلك إلى عيني القاتل لكن الخوف أسدل السواد أمامها فلم تصحو إلا في اليوم الثاني على صوت أمها والطست النحاسي الممتليء بالماء والصابون لمسح الدماء عن خشب النافذة. مثل التنظيف اليومي للبيت الصغير والفراش الذي يفرد في المساء ليحتويها هي وسيد.
امتلأ الطست بالمياه المختلطة بالدماء ورغوة الصابون الوفيرة، حينما أدركت صحوها تسمرت نظرتها على أمها في آلية، لتطلب منها الأم استكمال المهمة. "ريحة الدم بتنجس البيت وبتعمل زفارة".. التصقت تلك الرائحة بأنفها لسنوات، خشب النافذة امتص اللون وتوسطته بقعة صدئة لم تنمحي بالماء والصابون. أما الخشب المفتوح على آخره لتراقب الشارع الممتد حتى الوكالة أغلق نهائياً بدون تعقيب من أمها ولا تبرير لذلك التصرف.
حلمها الذي لم يتغير كثيراً اكتسب أبعاداً أخرى ففي الحلم تفوح رائحة الدماء الطازجة كل ليلة، ويهاجمها التاجر الذي يظهر كجسد دون رأس ربما لأنها لم تختبر نظرته قبل موته. حدقت في عينيه الزجاجيتين حينما سقط وجر قاتله جسده بلا اكتراث ناسياً غلق عينيه فظلت حدقتاه متسعتين ومصوبين إلى زهرة الراقدة خلف النافذة مثل إله يرى كل شيء ولا يتدخل ليترك العالم يتداعى.
لسنوات هادئة غاب الحلم عنها.. كانت تعبر سنوات الطفولة بحذر منتظرة من الله إسباغ بعض الأنوثة على ملامحها الجافة بعدما غادرت الأسرة لبيت مساكن الأمريكان. شعرها وصل لأسفل ظهرها وتمرد على كل الأربطة لينطلق كثيفاً. لكن تلك الملامح بدلاً من أن تصبح أكثر نعومة تحولت للخشونة أكثر فحاجبيها امتلأ بالشعر المتناثر الممتد لجفنها. وعينيها صارت أكثر حدة دون أي تعبير أو نظرة محرضة. أما جسدها الذي انتظرت تعويضاً فيه فعاندها ظل على حجمه وضآلته للدرجة التي جعلتها الوحيدة بين مثيلاتها لا تملك ثدياً صغيراً.
عاودتها الكوابيس بجسدها يجري خلفها.. في الحلم رأت نفسها مقطعة الأوصال وكل جزء منها يكبر ليصبح جسداً كاملاً فيطاردها ويختفي داخل هوة رأسها العميقة. اشتمت رائحة دماء مختلفة تلك المرة. رائحة نفاذة ممتزجة بريح عطن يشبه رائحة الأجساد المتعرقة التي كانت تلتصق بها في زحام الوكالة لفرز الفاكهة الكسر الملقاة على الرصيف. صحت من نومها على انقباضات أسفل بطنها و بلل بين فخذيها. اختبأت في ركن الغرفة تعدد احتمالات موتها القريب، في اليوم السابق في المدرسة كانت المعلمة انتهت لتوها من البلهارسيا فتخيلت مرضها وأعادت ترتيب خططها لتكون أقرب للموت.
باغتتها أمها بملاءة السرير ببقعتها الحمراء و قذفتها في وجهها. "كبرتي وبقيتي ست، ملكيش نومة جمب أخوكي تاني". بعدها بأيام دخلت أمها عليها بإيشارب قماشي مربع و فردته. الإيشارب مطبوع عليه أزهار حمرتها شديدة تذوب في خلفية خضراء وفي كل طرف ترقد حمامة تبدو وكأنها تسحب طرف القماش في منقارها. فردت أمها الإيشارب وضمت طرفيه ليصبح مثلثا ثم وضعته فوق رأسها وربطته من خلف رقبتها، لتخفي شعرها الجميل النعمة الوحيدة التي منحها الله لها. لكنها بعد أيام وحينما نزلت زهرة الشارع لتشتري طلبات بسيطة مدت أمها يديها لتفك عقدة الإيشارب و تخلعه عن رأسها. لسنوات تمنت لو دلفت لدماغ أمها الصلب، تصمت أياماً طوال لتنطق فجأة بالصدمات. تبدو أفعالها دائما غير مبررة تشوبها القسوة والخشونة.
في إحدى أحلامها أخذتها أمها لطريق ناء بالقرب من المحمودية في إحدى العشش الممتدة على ضفتيها. خرج منها رجل بدون ملامح، سلمتها أمها له فامسك بذراعها بخشونة فجرحها ظفره، دس يده في عانتها فلم تحاول المقاومة لكنها انتظرت أمها لتأخذها وأثناء ذلك مد الرجل الحبل حول رقبتها وعقد ربطة علقها على جذع شجرة ليسحب الحبل من الجهة الأخرى فتدلى جسدها من الحبل بعنق مكسور وعيون مفتوحة على وسعها.
في اليوم الآخر جاءت أمها بخبر لعريس ابن إحدى الجارات في الشارع الخلفي في المساكن. انقبض قلبها لكن لسانها لم يتحرك بالموافقة أو الرفض لم يستطيع أي منهما فعل ذلك لأن القرار كان نافذاً وسطوة الأم غلبتهم دائماً.
** رواية "مساكن الأمريكان" صادرة عن دار الشروق، للكاتبة هبة خميس
للتواصل مع الكاتبة من "هنا" أو من خلال التعليقات
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب