هذه مملكة الليل المتهتك والعيون الجريئة تتنكر تحت اسم القاهرة. أدخلها دجاجة عرجاء لأفاجئ بأغنية الموسم في انتظارنا:
إيه اللي جرى.. في المندرة
شيء مفهموش
أنا كنت لسه صغيرة؟
ولا أكاد أفيق حتى تداهمني أغنية أخرى لا يمل من طلبها "السميعة" في شارع عماد الدين:
متخافش عليا أنا واحدة سجوريا
في العشق أنا واخدة البكالوريا
يضع "يونس القاضي" كلمات أغنيته الخالدة ويذهب بها إلى من يدعونها "سلطانة الطرب"، فترفض، تضحك بخلاعة:
- عيب يا سي يونس.. البوليس يقبض علينا! يندهش الرجل المعمم صاحب الشارب الصغير، فهي التي غنت له:
"انسى اللي فات وتعالى بات ليلة التلات" ويقرر "القاضي" التنازل والذهاب بالأغنية إلى مطربة درجة ثانية هي "نعيمة المصرية" يعرض عليها الكلمات فتقف منتفضة:
- عيب يا أفندي لا يصح، أنا أسطى محترمة. "القاضي" يصاب بالذهول فهذه الأسطى المحترمة هي مطربة الملحمة الكبرى التي كتبها بديع خيري ولحنها زكريا أحمد:
"هات القزازة. واقعد لاعبني، دي الَمزة طازة.. والحال عاجبني". لا يمل الرجل من المحاولة ويذهب إلى آخر مدى، يبعث بها لمطربة درجة ثالثة هي فاطمة سري فإذا بها ترفض حتى مجرد مقابلته.
- يا ربي رضيت بالهم والهم لم يرض بي. يقعد مذموما على "مقهى الفنانين"، يلتقى بصديقه عبد اللطيف البنا الذي راعه كل هذا الأسى.
- مالك.. زرعتها بطيخ طلعت جرجير؟
- أبدا.. زرعتها خفة ولطافة طلعت أدب وشرف! حكى ما حدث فطلب "عبد اللطيف" أن يتلو عليه الأغنية، تمايلت رأسه إعجابا وهو يستمع:
"ارخي الستارة اللي فـريحنا
لأحسن جيرانك تجرحنا
دلوقت أنا بس اللي ارتحت
لا حد فوق ولا تحت
يعرفني جيت ولا روحت
ولا حدش يقدر يلمحنا"
- الله عليك يا مولانا.. لطيفة بشكل! سأشتريها وأقدمها أنا.
- يا عبد اللطيف ياخويا قلت لك مكتوبة لتغَنى على لسان ست، هل أنت واحدة ست؟
- وست الستات لو لزم الأمر.
اشتراها "عبد اللطيف" بثلاثة جنيهات وقدمها بصوته مقلدا ببراعة "محن النسوان" فنجحت الأغنية نجاحا لم يتوقعه مؤلفها نفسه. جفا النوم عيون المطربات الثلاث اللواتي رفضن العمل، لعب برؤوسهن شيء أقوى من الخمر: "الغيرة" قالت له "السلطانة":
- يا سي يونس الكلام أخذ وعطا.. كنت بحاجة لسماعها مرة ثانية ونتفاهم.
وقالت "نعيمة المصرية":
- أنت صاحبي ومن حقي أدلع عليك. وبعثت له "فاطمة سري" مرسالا يقول:
- حقك علىّ، والنبي كنت مشغولة.
صراع وحوش الغنج ولبؤات التنهدات في معركتها الأبدية لاصطياد الزبائن. أرقبه من على البعد وأنا أتساءل: كيف سأنافس هؤلاء؟ أردت أن أبعث برسالة إلى من يهمه الأمر من متعهدي الحفلات وأصحاب المسارح والكباريهات: وراء هذا الوجه الطفولي البريء أنثى تنتظر فرصة، وخلف هذا المظهر البسيط مهرة تبحث عن خيّال. ذهبت إلى محمد يونس القاضي، الوكيل الأبرز للإسفاف وصاحب اليد الطولى في الإباحية.
- أريد شيئا يمشى مع السوق أكثر.
- غالي والطلب رخيص يا آنسة أم كلثوم.
- خليها آنسة ثومة أم أنك لا تريد أن تناديني باسم الدلع؟ كاد رامي أن يدق رأسه في الحائط احتجاجا.
- اعقل يا رامي، أنت لست شمشون. هددني بأن يلقي بنفسه من الشرفة إن نفذت هذه الفكرة "السخيفة".
- معقول، الملاك يغني من وساوس الشياطين؟
- كل هذا لأني ذهبت لمؤلف غيرك، هل نسيت أنك استهزأت بالموضوع حين فاتحتك فيه؟
- أي موضوع أن ننافس فتيات الهنك وأسطوات الرنك؟ والله هذه التي تقف في شارع كلوت بك بشفاه ملطخة بالأحمر الفاقع تستجدي زبونا لهي أشرف في نظري من نجمات الكلام القبيح في حديقة الأزبكية. على الأقل واضحة ولا تعلب على كل الحبال. رفض القصبجي وضع اللحن فطار صبري النجريدي فرحا:
- متأكد أن الأنسة ستغنيها يا يونس أفندي؟
- وتترجاك تنتهي منها بسرعة لنسجلها فورا.
نرشح لك: محمد بركة: كتبت "حانة الست" لأن أم كلثوم الحقيقية لم يُكتب عنها بعد
ظن الطبيب الطنطاوي أن عياري فلت وأنني قررت ركوب قطار الإسفاف حتى محطته الأخيرة. يتراقص حاجباه وتغمز عيونه وهو يُسمعني اللحن. أتراه ظن أن "الخلاعة" قد لا تكون مجرد عنوان طقطوقة وإنما أسلوب حياة؟ الخلاعة والدلاعة مذهبي من زمان أهوى صفاها و النبي فلتفرحوا إذن:
لديكم الآن النص الكامل لجسم الجريمة، دليل إدانتي. ثغرة تنفذون منها إلى قلعتي الحصينة:
أغاني إباحية لأم كلثوم!
بورنو الست!
لتبحثوا في تاريخ المؤلف يونس القاضي. لتدعوا أنه غسل يديه من تلك الخطيئة حين أصبح هو نفسه مراقبا على الأعمال الفنية وقام بشطب الطقطوقة. لتخلدوا اسم صبري النجريدي باعتباره شريكي في الفضيحة. كنت سأقول: فلتذهبوا إلى الجحيم، ولكن بعد أن رأيت نوعية الموسيقى التي تطربون لها والطعام الذي تحبذونه والريح التي تصّفر في قلوبكم الفارغة، عرفت أنكم بالفعل هناك.
"الخلاعة" طفلتي السرية.. مولودي الذي جاء سفاحا، لكن لو عاد بي الزمن فلن أكرر تلك الغلطة لسبب بسيط آخر، أديتها لأثبت قدرتي على تحريك مشاعر الرجال، فلم أحرك سوى شفقتهم. أردت أن أثبت قدراتي كأنثى فلم تخرج مني سوى الطفلة. راهنت على ركوع زبائن "الهنك الرنك" تحت أقدامي، فإذا بهم يستغفرون لي وهم سكارى يمسكون بالمسبحة في حانة الأقدار. من الذكاء أن أتراجع فأخسر معركة بدلا من أن يركبني العند فأخسر الحرب. هذه الطقطوقة الملعونة ستدمر سمعتي، لن تجعل لي اليد العليا في صراعي الوجودي مع "سلطانة العار" بالعكس ستجعلني فتاة سيئة السمعة تحت التمرين، ستكون هي السلطانة حقا في دنيا الخلاعة وما أنا إلا جارية جديدة تتعلم أصول الصنعة.
- ألم أحذرك يا ثومة؟
- لو كنت ستوبخني يا رامي فلنغلق الموضوع أفضل.
- لا أوبخك بل عندي عتاب.
- ليس هذا وقته العتاب، بل وقت الحلول العملية، هل عندك حل؟
- ضروري يكون هناك حل.
عندما تعجز جميع الحلول، يكون المال هو المفتاح، وافقت شركة "أوديون" على سحب جميع نسخ الأسطوانة من السوق مقابل مبلغ مجزٍ. ظلت المشكلة قائمة، خبر سحب جميع النسخ جعل الأسطوانات التي بيعت تحظى بميلاد جديد، تكالب الكل عليها، بحثوا عنها وأصبح الاستماع إليها يتم بكثافة شديدة، البعض أعاد بيعها بسعر مضاعف.
أتاني رامي بما ظن أنه الحل الأخير:
- سنعيد تسجيل الطقطوقة مع تعديل بسيط في كلمات "المذهب"، وسنطرحها في الأسواق بأسرع وقت ممكن.
بدا الحل مثاليا لكن عند التطبيق كان شيئا آخر. لم يتحمس الناس كثيرا وهم يستمعون لي وأنا أغني:
"الخفافة واللطافة مذهبي.. من زمان أهوى صفاها والنبي".. كم أنت مسكين يا رامي!
لم تدرك بعد أن الخطايا لا تُمحى بمهارة شاعر ولا الآثام يشطبها قرار رسمي يحمل ختم الديوان الملكي. الجمهور لن يستسيغ كلمات مؤدبة بنت ناس بعد أن فتحتم شهيته بحسناء تغني عارية وهي تأخذ حماما ساخنا.
غنيت "الخفافة واللطافة" ولكني كنت أكذب، لا أحد صدقني. لا الجمهور ولا التاريخ ولا حضرة القاضي الجالس بشموخ على منصة الزمن.
** فصل من رواية "حانة الست" للكاتب محمد بركة، الصادرة عن دار المثقف.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب