نجوان ماهر
خلال فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب 2021، أطلت علينا رواية "ماكيت القاهرة" للكاتب والناقد المصري طارق إمام، بغلافها اللافت وألوانها البهية وكنت في انتظار ذلك المشروع الأدبي بشوق شديد بعد الإعلان عن صدورها قبلها بعدة أشهر خارج مصر، عن منشورات المتوسط.
فعندما رأيتها واقتنيتها كان هناك حديث هامس بيني وبين الرواية أن كل ما قرأته سابقا للكاتب في جهة وتلك الرواية ستأخذنا معها إلى جهة أخرى ومسار جديد في عالم الكتابة. قلبتها في سعادة غامرة وأنا أشعر بمغامرة ساحرة على وشك الحدوث بعد روايته السابقة "طعم النوم" التي صدرت في أغسطس 2019 فقد كانت رواية تثير الفضول والحيرة وتدفع إلى أنك تلتهمها.
الرشاقة في أسلوب السرد هائل جدا لا يبعث أي ملل على الرغم من عدم منطقية الأحداث للوهلة الأولى أو فهمها، فهي رواية تتحدث عن الاختيار الحر في تغيير الأقدار والمصائر المفروضة، وتتناول فلسفة الحياة والموت.. الخيال خصب للغاية وخصوصا أنني في بعض المقاطع شعرت أنها امتداد لقصص من مجموعة الكاتب القصصية السابقة "مدينة الحوائط اللانهائية" أو تذكرك بها مع وجود الكثير من الحكمة في كثير من المواضع والجمل المميزة.
نعود لروايتنا "ماكيت القاهرة"، فقد كنت في حيرة من أمري في الكيفية التي ابدأ بها مراجعتي للرواية بعدما انتهيت من قراءتها يوم 23 أغسطس، فكلما هممت في محاولة لكتابة رأيي أجد الرواية تتلاعب معي وتهرب مني، أحاول الإمساك بطرف خيط في الكتابة عنها وكأن "المسز" -إحدى بطلات الرواية- تقف حائلا بيني وبينها لإخراج المراجعة بصورة تليق بالرواية "أي حد يفصل بين المعنى الحرفي للعبارة ونظيره المجازي؟ ما الذي يجعلنا نتلقى عبارة ما باعتبارها الحقيقة وعبارة أخرى باعتبارها صورة ما للحقيقة؟ لماذا نعبر سطح جملة ما ملتقطين المعنى الملقي ببساطة على الشاطىء بينما نضطر في جملة أخرى للغوص كي ننتشل المعنى الغارق في الأعماق مهددين بالغرق رفقته؟ وهل تظل اللغة نفسها في الحالتين؟".
قرأتها أثناء سفري واستشعرت جمال النص وفتنته في غرائبيته وهو يوثق فيها رؤيته للقاهرة تلك المدينة اللعوب ما بين ماضي 2011 وحاضر 2020 ومستقبل 2040. بالإضافة إلى مستقبل أبعد أيضا، في سرد سلس متقن بصورة متوازية عبر التنقل بين الشخصيات المحورية للعمل، شعرت مع بداية العمل أنني سأدخل لعبة وأغرق فيها، ودون أن أدري دخلت اللعبة وأنا موقنة بالاستمتاع. فالرواية تبتعد عن النمط التقليدي والمباشرة في وصف أحوال العاصمة المصرية ودخلنا معها في بحور خيالية تستطيع أن تستشف منها الكثير من القضايا والموضوعات الشائكة بعيدا عن المباشرة، دون الحكي بتلك الصورة الاعتيادية، وبعيدا عن الكليشيهات التي طالما تصيبنا بالملل من تكرارها.. كانت قصص ألف ليلة وليلة لها الأثر البليغ في كتابات طارق إمام.
وأنا أقرأ تلك الرواية شعرت كثيرا أنني عدت اللي مدينة الحوائط اللانهائية التي تطرق من خلالها الكاتب للكثير من الفنون بإسهاب وخبرة فنان متمكن من أدواته، وهذا ما ظهر جليا على لسان أبطال روايته وخاصة "المسز" التي كانت لها حضورا وألقا غريبا، كانت تعمل على ماكيت القاهرة كمشروع استعادة جوهرة إحياء ذاكرة المدينة.
كنت أمشي مع أحداث الرواية رويدا رويدا وأنا مستمتعة وأنشد الفخر أنني استطعت تفهم أسلوب الكاتب حتى وصلت إلى منتصفها كأنني وقعت في الفخ. ثقل الأمر فجأة عليّ وشعرت أن اللعبة تتوقف لتقف المسز تشير إلي بعصاها لأنتقل إلى الخطوة الأكثر صعوبة بأسلوبها وصوتها الحيادي كما تم وصفها في الرواية وهي تقول "ليست بالسهولة أنت تفهمي.. أنت دخلتي الماكيت ولن يمكنك الخروج منه بالسهولة التي تتوقعيها".
الكلمات تصبح أكثر رعبا عندما لا يكذب الصوت معانيها العارية حتى اللغة تحتاج إلى قدر من التكذيب حين تنطق، وتعبيرات المسز كانت أقرب ما تكون لعبارات مكتوبة تتري بجفاف كلمات مصفوفة يطالعها الجالس معها ويصبح عليه أن يضفي عليها الصوت الملائم والانفعال المناسب النابعين من داخله هو كقارئ.
عدت مع الرواية مرة أخرى أحلق معها بشيء من التروي إلى أن انتهيت من قراءتها وقلت كيف لكاتب أن يوثق رؤيته عن مدينة ماضيها ليس ببعيد والجميع عاصر أحداثها بلا استثناء مع سبر أغوار نفوس بشرية بها الكثير من التعقيد. كل هذا تم بأسلوب خيالي مجنون.. فانتازي لا سقف له، الواقع فيه يمر مرورا عابرا مجهود بذل فيه بإتقان لنص بديع سيكتب له الحضور لسنوات طويلة.
براڤو يا نجوان ريفيو مميز بالتوفيق دايما يارب
ردحذف