القائمة الرئيسية

الصفحات

مصطفى عبيد يكتب: في محبة إبراهيم عبد المجيد



"سأكتب.. لا شيء يثبت أني أحبك غير الكتابة".. كتبها الشاعر الجميل محمود درويش يوما لصديقه سميح القاسم. وأنا أحب إبراهيم عبد المجيد، لذا سأكتب فلا شيء يثبت محبتي سوى الكتابة.


لقد اعتدت أن يكون آخر ما أكتبه في أي نص عنوانه. ففي المقال الصحفي الذي أكتبه بانتظام في جريدة الوفد مُنذ أكثر من خمسة عشر عاما هي عمر عامودي الصحفي الإسبوعي، وبدون انتظام في عشرات الصحف العربية والمصرية مُنذ ربع قرن هي عمري في الكتابة الاحترافية أترك النص بدون مظلة حتى يكتمل، فإذا استتب شكلا، وتقبلته الذائقة قراءة وضعت المظلة في حرص. وهكذا دأبي في كل نص: كتاب بحثي، رواية، أو سيرة لراحل.


لكن قبل أيام دعاني الصديق العزيز إسلام وهبان، الذي يُضيء مع زملاء أعزاء وكُتاب وباحثين وعاشقي كتب عتمة الظلام الثقافي في بلادي، لكتابة مقال عن الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد. وهذه المرة، كتبت العنوان مُبكرا على ملف وورد وتركته لحين استقطاع وقت أشارك فيه احتفاء جروب ومدونة "مكتبة وهبان" بالروائي الكبير. وولد العنوان حاسما تاما، ونهائيا في مخيلتي وهو "في محبة إبراهيم عبد المجيد"، مؤمنا أن أحدا لا يعرف هذا المبدع دون حب صادق مجرد من أي مصلحة.


 فمن الذي لا يحب حكاء مصر النبيل الذي غاص في أعماق المجتمع، وخالط أناسا وشخصيات جميلة، وعاصر حقبا، وانخرط في تنظيمات، وشلل، وأبدع لنا سحرا خالدا أوقن أنه مما ينفع الناس ويمتعهم إلى يوم الدين.


إن محبة إبراهيم عبد المجيد واجبة، ليس لأنه سارد رصين يعرف قيمة الفن، ومسئولية المبدع في تجميل وتغيير محيطه. ولا لكونه مُخرج مسرح عبقريا يحفظ لكل شخصية من شخوصه تميزها، ويحافظ على خصائصها في عذوبة ودون تكلف. وليس لأنه صاحب خيال جامح يُسافر بنا جميعا في عوالم شديدة الادهاش والسحر، ليدفعنا للتفكر والتدبر في خلق الله.


ليس لأنه الذي نقرأه فتسري في جوانحنا أحاسيس الرضا والتشبع ونتذوق المتعة الحكائية قبل اللفظية فنطمئن ونهدأ ونُسر. ولا لكونه المتنوع المتنقل بنا من لون للون، ومن زمن لزمن، ومن مدينة لأخرى.


لا كل هذا ولاذاك، وإن كان مجتمعا بالفعل فيه، وإنما لنبرة الإنسانية الصادقة التي تضفي غلائلها على شخصيته، فلا تجد منه سوى خيرا مطلقا. هذا رجل يُحب الناس، لله، ويفعل الخير دون رغبة في ذكر، ويكره الكراهية، ولا يحقد أو يمن أو يأذي بشرا.


 يميل إبراهيم عبد المجيد للعدل، وينحاز للحرية، ويقف إلى جوار الضعفاء في صلف ورضا. يتصور الرجل نفسه مسئولا عن الجمال، فيفتش عن كل حُسن لينفض عنه الغبار ويقدمه للناس في اعتزاز ورضا.


ويُسعدني أن يقول لي الرجل: "إقرأ لفلان"، رغم أن فلان هذا لا يعرفه أحد، وليس لديه جيش من المتابعين والأنصار، ويتوارى خجلا من الصحافة. وأعرف يقينا أن استحسانه لمبدع وتشجيعه لعمل يعني بالفعل أن هناك جمالا مُهملا لا يلتفت إليه النقاد والكتاب، وكثيرة هي الوقائع التي استحسن فيها الروائي المخضرم نصا أو قلماً، فسطع بعد قليل، وتحقق أدبيا.


قبل شهور قليلة كنت عابرا لوعكة صحية عبأتني هموما، صدر لي كتاب بحثي بعنوان "سبع خواجات" يحكي سير بعض رواد الصناعة الأجانب الذين تركوا بصمات هامة وعظيمة للناس. كان الكتاب محل تحفظ كثير من دور النشر التي رأت أن حكي سير شخصيات أجنبية في مصر لا يمكن أن يهم الناس، فضلا عن كونه يخالف فكرة أن كافة الرأسماليين الأجانب لصوص. غير أن الناشر الصديق سامح شاكر، مدير مركز إنسان تحمس للكتاب، وسانده حتى خرج إلى النور، ليُحدث نجاحا باهرا في كافة الأوساط الثقافية ويلقى إعجاب كثير من المثقفين، وعلى رأسهم الروائي الكبير الذي لم يكتفي بكتابة مقال غزل وإشادة بالكتاب في صحيفة " القدس العربي"، وإنما نقل إشادته وإعجابه ورأيه بين رموز الثقافة والإبداع في مصر. كُنت كلما التقيت أحد رموز الإبداع الكبار يسألني إن كنت أنا كاتب كتاب "سبع خواجات" فأهز رأسي لأسمع عبارة "هذا كتاب يشكُر فيه إبراهيم عبد المجيد"، وكأنها ختم صلاحية ومواصفة جودة لا خلاف عليها. حدث ذلك مع كثيرين، حتى أن الراحل العظيم شاكر عبد الحميد هاتفني مشيدا بالعمل الذي يعجب الأستاذ إبراهيم، وتلقيت رأيا مشابها من الشاعر الكبير عبد المنعم رمضان الذي تحمس للكتاب بناء على توصية الروائي الجميل.


بدا الرجل سعيدا وهو ينقل للناس رأيه، معتبرا أن دور المبدع لا ينحصر في تقديم الابداع، وإنما في الإشارة إليه، وتشجيعه، وإظهاره للناس.


إن نصف جيلي من المبدعين المتحققين مدينون للرجل بكلمات تشجيع، ونصائح صادقة، ومساندة إنسانية خالية من أي مصالح شخصية. وقبل سنوات قليلة ربما قبيل الجائحة، كنت أرى المبدع الكبير حاضرا في كثير من حفلات التوقيع للروائيين من أجيال مختلفة إيمانا منه بأن الإبداع يستحق المساندة والدعم والإحتفاء.


ومََن الذي لا يحب إبراهيم عبد المجيد؟! وهو باحث التاريخ المدقق، الذي وقعت بين يدي روايته "لا أحد ينام في الإسكندرية" أول مرة، فلم أنم في القاهرة انجذابا لسحر عميق يختطفك لترحل معه للماضي متابعا مجتمعا كوزومبولتيا غريبا يضج بصنوف الأفكار والتصورات في مصر أخرى لم نراها.


دوختني "طيور العنبر" مثلما سكنتني"البلدة الأخرى" فبت أحلم بنساء ساحرات لهن جاذبية نسائه المتخيلة. سحبتني "بيت الياسمين" لزمن الهتاف المجاني، والتوجيه السلطوي، وانكسار الإنسان، وخفوت الأحلام الكبيرة.


تمددت وتشردت مع بطل "هنا القاهرة" وهو يبحث عن حياة تستحق أن يحياها في عاصمة قاسية، مزدحمة وصاخبة لكنها جميلة بأحلام وطموحات من فيها، وعفويتهم وكرامتهم. وهو الحزن النبيل في " أداجيو"، وهو الراصد المهموم بمشكلات الخلل الجيني في "العابرة".


 ومَن الذي لا يحب إبراهيم عبد المجيد، وهو السابق لجيله، العابر لزمنه، الناظر دوما إلى الأمام. وهكذا لم يكن غريبا أن نجد الرجل متآلفا مع تطور التكنولوجيا، وعصر السماوات المفتوحة، والسوشيال ميديا رافضا الفكرة السطحية بأن لكل زمن مسلماته وحواجزه، ليكتب لنا متواكبا مع العالم الافتراضي الجديد رواية "في كل إسبوع يوم جمعة" حاكيا عن أحداث إنسانية شديدة القسوة تدور عبر جروب فيسبوك.


إن كثير من شخوص المبدع الكبير المخضرم تتسلل خفية إلى أدمغتنا لتسكن في تنعم دون أدنى تعب لأنها شخوص حية، من لحم ودم ونبض ومشاعر نعرفها ونتخيلها.


وحتى في كتبه غير الروائية، فإن السحر هو السمة المشتركة بين جميع مقالاته، فهو يكتب المقال مثلما يحكي حكاياته، ليسري الشغف بين السطور، وترتسم المشاهد أمام القارىء.


 قبل أيام شرفت بزيارة المبدع الكبير، مع بعض الأصدقاء لنطمئن على صحته، وتضاحك معنا كأصدقاء، واسترجع ذكريات جميلة. وكان من الغريب أن ينقل لنا تصوره بأنه إنسان محظوظ جدا، عايش أزمنة متنوعة، وتابع مجتمعات مختلفة، وانتقل من مكان لآخر، وعاصر شخوص غرائبيين.


حكى لنا عن شخص يحمل اسما غريبا مركبا يضطر أمام كل سائل أن يكرر أربعة أسماء متتالية، كان محط سخريات وسخريات. وحكى لنا عن آخر يدمج عبارات السباب في ردوده على كافة الناس ممارسا إحدى مُتع حياته في إهانة مرؤوسيه. ثم حكى عن ثالث أحب جارته حبا عظيما لدرجة أنه كان يجلس بالساعات أمام شباكها ليبكي كالأطفال. وغيره يحلم بالهجرة إلى الأندلس أرضا وزمنا، ثُم فعلها وسافر بالفعل بحثا عن جمال الأندلس المكتوب عنه في الكتب. وقال إنه محظوظ لأنه قابل هؤلاء المدهشين.


لم أقل له رأيي الحقيقي، لكنني سأكتبه.. إن هذا ليس حظه. هو إنسان مختلف. قوي الملاحظة، لديه يقظة إنسانية فريدة. كلنا يمر علينا شخوص غرائبيون وربما لا نلمحهم. وهو يتعلم من كل خطوة، إيماءة، لفتة، يهتم بالإنسان، يتشكل معه، يعايشه ويضع نفسه مكانه. وهذه ميزات خاصة لا ضربة حظ. في حقيقة الأمر فكل شخص يعرف إبراهيم عبد المجيد هو المحظوظ الحقيقي.

أقول له ألف ألف سلامة. ونحن نحبك.

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات