القائمة الرئيسية

الصفحات

بشري عبد المؤمن يكتب: إبراهيم عبد المجيد.. هل صالحتك القاهرة؟




أعترف أنني مقصر في حقه لكن عندما طلب مني الصديق العزيز إسلام وهبان أن أكتب عنه شعرت أنه قدم لي معروفا حيث منحني فرصتين في مرة واحدة، الأولى أن أقدم اعتذارا له على الملأ، والثانية أن أنال شرف الكتابة عنه وإليه.


وليست الكتابة احتفاءً لأنه أكبر من أن يحتفي مثلي به وليس صحيحا أنني أكتب لأنه الشهر الذي اختار "وهبان"- ومن وراءه الوسط الثقافي كله- أن يخصصه للروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد لأن الكتابة عنه لا تتوقف عند شهر معين، فكل الشهور تصلح للكتابة عنه لأنه ببساطة كاتب كل الشهور.. ومخطئ كذلك من يظن أن إبراهيم يلوذ الآن ببيته بسبب المرض.. صحيح أنه أكثر وسوسة بشأن المرض لكنه يلوذ بالبيت لأن الحياة لم تعد خارجه كما كانت تحلو له ولنا.




أشعر دائما أن إبراهيم عبد المجيد بطل خرج لتوه من أحد رواياته، الرجل الذى أمر سكان الإسكندرية بألا يناموا فوافقوا وأحبوه! أعرفه بأنه "حكاء الذكريات" فمن اللحظة الأولى يجعلك تواصل معه ماضيا مشتركا وذكرى قديمة، دائما ما يقودك فى تلك الطريق الموغلة في القدم وأحيانا في الخرافة، أليف وودود، وعلى الرغم من تجاوزه السبعين خريفا تشعر أنه لا عمر له لأنه ممتلئ بالأعمار، حالما كبيرا ونحن في أشد الحاجة إلى الحالمين الكبار، قلبه طفولي صغير كحبة السمسم، تراه أحيانا يغمز المشهد السياسى بنظرة شقية، وأحيانا أخرى يستخدم تلك النظرة لإدراك ذاته هو، متيم بالسينما مذ دخلها طفلا أصغر من أن يسأله أحد على سعر التذكرة، مستمع جيد للموسيقى والغناء، يحب الليل ولا يكتب فى سواه وكأنما خدعه أحدهم وسرق منه النهار!


نرشح لك: مصطفى عبيد يكتب: في محبة إبراهيم عبد المجيد


بيننا الكثير من اللحظات السعيدة على الرغم من صغر سني وكبر اسمه لكن من يعرف منكم كيف تلتقي الأرواح؟! التقت روحانا وتحاببنا دونما شرط أو قيد، أذكر حينما كنا نلتقي في وسط القاهرة يأكل كل واحد منا قرصين من الطعمية ويأكل هو وحيدا بيضتين ونشرب الشاي، أذكر حينما حدثني هاتفيا ليحكي لي عن اكتئابه المتعلق بروايته الجديدة وكنت أعرف أنها مصاعب الكتابة وتوترات الكاتب!



طفولة إبراهيم عبد المجيد، التي ظهرت في قصصه القصيرة ورواياته مثل المسافات وطيور العنبر وغيرها، تقوده كثيرا إلى الأسى حيث يتسائل عن الشوارع التي كانت عربات المياة التابعة للبلدية تغسلها كل مساء، عن الحدائق والميادين التي كانت تزينها في كل يوم جمعة فرقة موسيقية أو عرض سينمائي، المدرسة التي كان الفصل فيها لا يزيد عن عشرين طالبا يرتفع عددهم إلى ثلاثين فى الإعدادي والثانوي.


 كان "عبد المجيد" في مدرسة القباري الابتدائية بحي القباري بالإسكندرية، يتذكر هذه المدرسة التي فتحت له الباب على عالم السينما، تأخذه المدرسة كل يوم جمعة إلى سينما فريال وهي سينما درجة أولى سعرها ذلك الوقت فى الخمسينات تسعة قروش بينما الاشتراك في الرحلة ثلاثة قروش شاملة أوتوبيس جميل ينقله ووجبة غداء من ساندوتشين، أما ف مدرسة طاهر بك الإعدادية فقد تعرف "عبد المجيد" لأول مرة على شادية وفاتن حمامة وبدأ يميل الكتابة فقد كانت هناك حصتان كل أسبوع للقراءة الحرة بمكتبة المدرسة يقرأ فيهم ما يحب دون أسئلة أو امتحان.


يحن "عبد المجيد" دائما إلى الماضي، إلى الإسكندرية القديمة التى عشقها ومن قبله عشقها بيرم ومن قبله كفافيس ويتسائل عن ترعة المحمودية التي كان يلعب الكرة على شاطئها ويجلس مع مراكبية السفن الحاملة للبضاعة من الصعيد والدلتا ويسمع حكاياتهم الأسطورية عن الرحلة ومنهم تعلم كيف يصيغ الحكاية.


 يسأل كذلك عن الشاطئ المفتوح الذي كان يرى الناس عليه تتحرك بحرية وبالمايوهات ولا يتحرش أحد من الكبار بالبنات، عن بحيرة مريوط التى اصطاد منها أكبر كميات من السمك أيام الإجازات، عن الشيوخ الذين كانوا إذا تجمعوا يلتف حولهم يضحك وينكت ولا يرى أحدا يكشر فى وجه أحد، عن بيوت المسيحيين من جيراننا كيف كان يدخلها ويأكل ويدخلون بيته وتجتمع النساء والرجال فى المناسبات معا، كل ما كان حوله كان يشى باتساع العالم وإمكانية الإبحار فيه وهكذا كانت تتفجر المواهب لا في داخل إبراهيم وحده وإنما فى كل المجالات.


هكذا ليس بإمكانك أن تفصل بسهولة بين طفولة إبراهيم عبد المجيد والإسكندرية، لذا تقودك الأخيرة للسؤال عن القاهرة، المدينة التي اقتسمت عمر إبراهيم عبد المجيد مع الإسكندرية، المدينة التي كتب عنها روايتي "عتبات البهجة" و"في كل أسبوع يوم جمعة" ورغم ذلك ظلت بعيدة عنه يشعر أنه غريب فيها، المدينة التي حاول ولا يزال يحاول أن يكون من أبنائها، أربعون سنة ولا فائدة، كتب عنها هاتين الروايتين ورواية "هنا القاهرة" التي اخترت لها عنوانا كأنه يعلن لنفسه: "هنا القاهرة يا إبراهيم" ويعلن للنقاد والقراء أنه لا يكتب عن الإسكندرية فقط لكن هو الفن الذي يجعلك تعيش ما هو جميل ثم حين تنتهى ترى القبح حولك.


 أجمل الليالي التي عاشها إبراهيم بالقاهرة كانت في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي لكن حين يتذكرها يدرك أن جمالها كان من مكان زال وانتهى ومن أصدقاء ضاعوا أو فرقت بينهم الحياة فيزداد الأسى مع تقدم العمر، لكنه عاد بالقاهرة قوية فى رواية "السايكلوب" من جديد لعله يصالحها أو لعلها تفعل!


الغريب أنه حتى في رواية "السايكلوب" التي عادت بالقاهرة إلى قوتها تركها بطل الرواية في النهاية، يعلق "عبد المجيد" على ذلك في حوار صحفي كنت قد أجريته معه فيقول: "هذا لا يعني أني لا أحب القاهرة، لا، لكن كل ما أحببته فيها ضاع والأن تشاركها الاسكندرية أيضا، مع تقدم العمر لا تكون المشكلة في الأمراض والتعب فقط لكن فى الذكريات التى تنثال على الروح ولا تجدها حولك، هذا ألم لا نجاة منه إلا بالكتابة، وهذا ما أفعله، والقاهرة الآن تتصدر ما أكتب لعلي أجدها".




هذا الآلم الذي يرافق "إبراهيم عبد المجيد" ولا يتخلص منه إلا بالكتابة، جعلني أستعيد تفاصيل الكتابة عنده، وبالمرور السريع عليها وجدت أن معظم روايات"عبد المجيد" كتبت في الليل، تحت ضوء خافت، وموسيقى هادئة، فقط تختلف الموسيقى باختلاف الرواية التي يكتبها وكأن أحدا سرق منه النهار!


 النهار الذي يستيقظ فيه متأخرا بعد السهر وقليلا ما يخرج للعمل إلا لظروف هامة، حيث كان مشهورا بالغياب عن العمل إلا في الحالات المهمة، لا يخرج كل يوم، ربما يشاهد فيلما في التليفزيون أو في السينما، وربما يشارك بعض الأصدقاء الجلوس على المقهى، وربما يكتب مقالا بديعا- كعادته- لإحدى الصحف، وقد ينشغل بقراءة كتاب وهكذا، أما في الصيف فنادرا ما يقرأ أو يكتب بل يمضي أغلب وقته على الشاطئ حين كان يسافر مع أولاده إلى الاسكندرية أما الآن فيلوذ بالبيت.


يبكي "عبد المجيد" كثيرا في جلساتنا الودية وقد سبق وذكر فى كتابه "ما وراء الكتابة.. تجربتي مع الإبداع" أن دموعه غلبته وهو فى منتصف رواية "أداجيو" ولا ينتبه أبدا أنه يبكي، صار البكاء جزءا مصاحبا لإبداعه، مثله مثل الضحك والفرح والدهشة العارمة، حين تموت شخصياته أو تمرض يشعر بالفقد الشديد، شخصياته هى عالمه الحقيقي، وحين تكون للشخصيات أثر من الواقع فى الحياة كثيرا ما يكون البكاء حين ترحل لأنها تكون قد رحلت مرتين فى حياته، ورغم أن المرة الثانية تكون بيده هو لا بيد عمر لكنه أمر قاسى أن تفقد حبيبا أو صديقا مرتين!


ويقسو "إبراهيم عبد المجيد" على نفسه حين يقتل أحد أصدقاءه الذين رحلوا بالفعل وينغمس في الكتابة للدرجة التي تجعله يبكى مرتين! من هنا مرت على ذهنى بعض رواياته التي شعرت أنها بدأت من صدمة نفسية ما فمثلا "فى الصيف السابع والستين" جاءت بعد النكسة و"أداجيو" بعد وفاة زوجته الأولى رحمها الله، وكأن الخلفية النفسية له تأبى إلا أن تسجل حضورها فى أعماله.


فكتب رواية "أداجيو" بعد رحيل زوجته الأولى رحمها الله، كان موت الزوجة بالسرطان صعبا ولا يحتمل ولا يعرف هو حتى الآن كيف عبره، شعر أن بيته الحنون الجميل قد طار فى الفضاء، تردده على معهد السرطان قهره من مشاهد المرضى، وكتب رواية "برج العذراء" وهو فى غاية الألم ثم بعد اثنتى عشر عاما صفت روحى ليكتب روايته البديعة "أداجيو".


وكما يعود هو كثيرا إلى الماضي، نعود قليلا إلى الوراء تحديدا إلى انكسار النكسة، هزيمة 1967 لم تكن شيئا سهلا على جيله، لقد وقعت الهزيمة وهو فى الواحدة والعشرين من عمره مشبع بالروح الناصرية وكانت مفاجأة صعبة وتكاد تكون قاتلة، كان عليه بعدها أن يبحث عن الحقيقة ووجد أن المجتمع المصري كله يعيش في أوهام من الشعارات السياسية، ما كان يتردد عن قوة الدولة كان يعنى أننا لا ننهزم أبدا لكننا انهزمنا فى يومين لا ستة أيام، أجل، فى اليوم الثانى السادس من يونيو استطاع "عبد المجيد" الوصول إلى محطة إذاعة البى بى سى البريطانية التى كانت مثل غيرها عليها تشويش وعرف أننا انسحبنا إلى خط الدفاع الثانى فى سيناء، كان هذا أسود يوم فى حياته ومؤكد فى حياة جيله الذى عاش متفائلا بقوتنا، بعدها قرأ الخفى وعرف كيف كانت الفترة السابقة مليئة بالاعتقالات لأصحاب الرأى وأن الأمور ليست كما تقول لهم الصحف والإذاعات المصرية، ابتعد عن الناصرية وقتها واقترب أكثر من الماركسية وشعر برغبة عارمة في أن يكتب رواية تسجل هذه الفجيعة التي حدثت وهو ما حدث بالفعل فكتبها بعد سبع سنوات. 


إبراهيم عبد المجيد حكاء كبير يبدو أنه تائه الآن فى برزخ لا ينتهي، خالِ من البشر والأحداث، حيث لم يعد يمضي الوقت في سهرات وخروج وسفر وهو ما يجعله شيئا فشيئا يدرك ما حوله ويعود إلى المنفى، ويلوذ بالبيت، يحن إلى الماضي الذي قد يأتي -أحيانا- بما هو ضائع فيصير رواية جديدة، هكذا يكتب "عبد المجيد" الآن ما يمليه عليه النسيان حين يقفز إلى الذاكرة ويستبد بالروح، هذه الروح التي أنهكها العمر والسفر والقلم، هذه الروح التي تستحق منا الآن أن نصاحبها كما صاحبتنا على مدار نصف قرن من الكتابة.

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات