مريم العجمي
"كانت شديدة البياض؛ تستطيع أن ترى مرور المياه من رقبتها وهي تشرب ".. آه من هذه الجملة التي يطلقها أبي عندما يضرب بجمال جدته (نجّية) المثل، شديدة البياض النقي حد الشفافية، لا يسعفني الخيال أبدا وأنا أرسم الصورة الأسطورية من المياه وهي تمر في حلق تلك المرأة البلورية المضيئة، هل لها وميض خافت بالليل وهّاج بالنهار؟
هل قرأت لمحمد المخزنجي من قبل؟
كتابته تشبه جدتي (نجّية) شفافة ترى المياه وهي تجري بين السطور، تكاد كلمته تضيء. بها من الدعة والرقة ما يتسع لقسوة هذا العالم. دفعني التساؤل في البداية عن عنوان المجموعة "رق الحبيب"، الصلدرة عن دار الشروق، وهي أغنية شهيرة لأم كلثوم من ألحان القصبجي، عاودت سماعها لأدقق في الأمر، هذا اللحن الرقراق المنساب في صدر الأغنية بين الشجن والأمل، ثم يندفع إلى دفقة روحانية هائلة ويعود لحيرته وقلقه، بالإضافة إلى كلمات الأغنية المترجرجة بين الرجاء واليأس. رقَّ بعد القسوة والهجر والغياب، عاد ليّنا طائعا حبيبا.
ثم بالتنقّل بين القصص تجد الموسيقى والغناء عاملا مشتركا في أكثر من موضع، بداية من قصة المفتتح بعنوان "من بعد ما طال السفر" وهي أغنية أيضا لأم كلثوم، وقصة "قمر ونجوم حارس الليل الضرير"، والتي أورد بها أغنية كاملة لعفاف راضي من كلمات عبد الرحيم منصور، وقصة "عزوز جاكسون" بالإضافة إلى قصة "رقّ الحبيب". هذه الصلة الخفية بين الموسيقى والفنون، كل الفنون تطمح إلى الموسيقى إلى الإيقاع والتناغم الطروب بداية من الشعر مرورا بالمسرح والسينما، وللقصة والرواية موسيقاها الخاصة، حتى الفنون البصرية والهندسية لها وقع الموسيقى في النفس، وفي الرياضة أيضا فاللعبة الحلوة نطلق عليها (مزيكا). هذا السمو الذي تصنعه الموسيقى بالأرواح لتُشفي القلوب من عناء السفر الطويل، كان مدخلا شفافاً للمجموعة والتي تعني بشكل كبير بالأرواح المتعبة.
"أطفأ النور واندس في الفراش تاركا الأغاني تهدهده وتشجيه. غرق في نومٍ حانٍ لم تنقطع فيه الأحلام عن إعادته إلى بلدته وأحبائه وأصحابه فيها. وصحا نشوان خدراً فلم ينتبه إلى أن المزياع مفتوح لا يزال"
يمكنك الصمود طويلا في مواجهة أحزانك، لكن طبطبة من يد حبيب قادرة على إذابة جليد الدمع لينفرط الشجن الكامن في النفس لتشفى منه الروح الشقية، مثلما تفعل الموسيقى تهدهد الشجون وتطوّف الذكريات بالرأس يمينا ويسارا، هذه الحالة بين الشجن والطبطبة، والحزن الدفين المنبعث أثره من الذكرى، الفقد والعزاء: عوامل مشتركة وروابط بين كل قصص المجموعة.
الألم يصنع الفن؛ ما الذي يصنع الألم؟
اختار المخزنجي ألم المرض بين النفسي والجسدي في كل قصص المجموعة. بين الألم والفن يخرج لنا التطهير، تسمو الروح بحثا عن النقاء الشفاف. "الصفاء الباهر" كما أورد في قصة (ضربة كوليرا) لو يعرف مرض الكوليرا كيف وصفه المخزنجي في قصته لاختال على كلِ الأمراض تكبرا.
"لا يرى غير بياض متلأليء عجيب لا يمت للبشرية العجيبة بصلة. بياض لؤلؤي ألَّاق يكاد يكون خارق الجمال لولا ما يرتبط به مما درسه في الكلية دون أن يراه. لا يصدق. ويسكب الأنبوب في البالوعة، التي يبلغها زاحفا على ركبتيه، ويعود مرتجفا ليتلقى عينة جديدة. البياض المتلأليء القاتل الجميل نفسه. تترجع في ذهنه المصعوق تلك الجملة الصغيرة الباهتة في كتب الطب التي تصف نزف المصابين بالكوليرا بأنه إسهال كماء الأرز، لا، هذا وصف ركيك لجمال مرعب بل هو أقرب إلى أن يكون "حليب اللؤلؤ" إذا كان للؤلؤ حليب، معجزة قاتلة في جمال يخرق معتاد البشرية المبتذل. جمال أخَّاذ لميتة مهينة !"
هذه الرؤية "المخزنجية" الفنية المرعبة لتلقي الجمال حتى في أشد الأوقات ظلمة حين يصل الألم مداه، الوصف المبهر لمرض قاتل، التداعي الرقراق لأعذب الذكريات في هذا الوقت الشفاف: وقت الموت.
بهذه الرؤية المخزنجية الشفافة أيضا يكمل في قصة (شهيق عميق زفير مرتاح) وقت الجائحة كورونا كيف يتحايل على الأمر ويدبر لعبة تمكنه من احتضان ابنه الغائب وقتما يعود من السفر، ليطفيء كل الشوق في قلبه، دون أن يضر أحدهما الآخر.
"شهيق عميق. كتم نفس. حضن جامد مع كتم النفس. تباعد. زفير مرتاااااااح"، وبهذه الرؤية الشفافة يربط في قصة نهود الرمل بين حزن الطبيعة على ما تصنع أيادي البشر بها، وبين مرض السرطان وبخاصة سرطان الثدي الذي يجتث أجمل ما في الأنثى، هذا التضافر المدهش الضارب في العمق، يصنع إبداعا فريدا قائم على حقائق علمية ورؤية فنية واضحة منتصرة للجمال الخام في كل صوره: طبيعة كانت أو أنثى. وبهذه الخلطة المتفردة المنحاذة فقط للإنسانية يصنع قصة حلاق سيبيريا والتي ناقش فيها بمنتهى العذوبة الحق في الموت الطبيعي! على مشارف الفقد كل شيء يبدو جميلا إلا احتمال الألم، أو رؤية من تحب يتألم.
هذه الحساسية والإنسانية المفرطة في قصة "قمر ونجوم حارس الليل الضرير" والتي يمسك فيها بطرف خيط آخره ثقل، يطوح الخيط يمينا ويسارا يلفه حول اصبعه نلف معه ولا يفلت طرف الخيط، لا يتركك إلا مُحمل بجرعة معتبرة من الجمال النبيل والدهشة الفاتنة الوديعة، يضعك على حافة القلق من أول سطر، ويسندك قبل أن تقع! ينتهي بأغنية صافية "لمين يا قمر" كلمات عبد الرحيم منصور، ألحان بليغ حمدي، بصوت عفاف راضي العزب كماء النيل في ليلة شتوية دافئة بالمحبة.
وباعتبار الفقد والفن والألم أعمدة المجموعة، فإن قصة "عزوز جاكسون" ضفرت الثلاث معا في نسيجٍ متقن متجانس الألوان. حدث أيضا هذا التضافر في قصة "رق الحبيب" جنون الفن وغربته تصنع الألم: ألم المحبة هذا الخذلان الذي يضعك على حافة الجنون، الألم النفسي الذي لا يقل ضراوة ووحشة أبدا عن الآلام الجسدية المعتادة، الكثير من الحزن يثقل الروح والجسد يحولهما حطاما متناثرا بلا هوادة. الكثير من الأمل يخفف حدة الحزن الثقيل، لكن لكل شيء نهاية. يفتتح المخزنجي قصة (رق الحبيب) بمقتبس من ماركيز: (يقينا إن السعادة ليست كما يقولون، تستمر لحظة ولا تُعرف عندما تُمتلك، إنما عندما تنتهي. الحقيقة أنها تستمر باستمرار الشعور بالحب؛ لأن استمرار الشعور بالحب حتى الموت، أمر جميل) من مسرحية "خطبة لاذعة ضد رجل جالس". هذا الاقتباس يفسر الكثير مما أراد قوله، الإطباق على لحظة السعادة والمحبة هذه الفلسفة البسيطة حد العمق، لا يبقى في النهاية سوى الحب والجمال حتى الموت!
"خمس دقائق، خمس دقائق لا أكثر قلبت حياته رأسا على عقب، وأي عقب!" بهذا المستهل يبدأ المخزنجي قصة السملات، هنا يلقيك من الطابق العاشر وينتظرك في الأسفل ليتلقاك وأنت على وشك الارتطام بالأرض، وبين السقوط والتلقي يطوف بك هنا وهناك بين مرافيء الذاكرة الحريرية. في لفتة حانية بخوف إنساني على حياة الآخرين، يصل إلى حد الوسواس القهري المرير.
أكان لابد يا مخزنجي أن ترِق؟
نعم، كان لابد أن يرق في مواجهة قسوة هذا العالم الضاري، لا يبقى سوى بعض اللين والحنو، الحزن والألم المطهر.
للتواصل مع الكاتبة من "هنا" أو من خلال التعليقات
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب