القائمة الرئيسية

الصفحات

باولا.. بين ألم الانتظار وفن البوح بالأسرار




عبير سليمان


في روايتها "باولا" استطاعت إيزابيل الليندي، المزج بشكل رائع وفريد بين البوح من خلال كتابة مذكرات في انتظار أن تصحو الابنة من غيبوبتها، وبين السيرة الذاتية وسرد شيق لرحلة حياة عائلة الكاتبة بأسلوب جذاب يجمع بين الحقائق والفانتازيا والخيال اللا محدود.


تنطلق إيزابيل الليندي في سرد حكايتها للابنة التي ترقد على فراش المرض، بوصف الحياة بمتاهة مرايا متقابلة وصور مشوهة.


فالحياة التي منحتها السعادة، والموهبة الأدبية الفريدة من نوعها، انتزعت منها في المقابل أشياء أخرى، فكل منحة توهب لنا لا بد لها من ضريبة في المقابل، وكذلك كل محنة أيضا يقابلها منحة لا ندركها في وقتها.


أثناء تقديمها لروايتها “الخطة اللا نهائية ” تتلقى الخبر الصاعق والمباغت عن طريق وكيلة أعمالها، تخبرها أن ابنتها قد نقلت للمستشفى.


تصف بعدها الكاتبة الحالة التي انتابتها بعد رؤيتها لابنتها، بأنها في البداية حالة إنكار، وحاولت إقناع نفسها بأنه مرض عرضي مثلما أتى سيرحل عنها “تلك الشابة الجميلة ذات الثمانية وعشرين ربيعا”.


من أروع ما يميز أسلوب الليندي هو صدقها غير العادي في التعبير ووصف التفاصيل، لدرجة إني تصورت إني أراها أمامي هي وابنتها، عشت معها معاناتها وأوقات مزاحها ولهوها وعشقها وتمردها، كما عشت معها جنونها وبكيت معها كثيرا وضحكت أيضا، لكن قليلا. لمستني جدا جملتها التي قالتها لابنتها بعد سقوطها في بئر سحيق من الغيبوبة وفقدان الوعي الطويل “كيف أبعد الذنب عن نفسي؟ فقد ظننتك في البداية تبالغين؟”.


“إن الذهن ينتقي، يبالغ، يخون والأحداث تتلاشى، والأشخاص تنساهم الذاكرة، ولا يبقى أخيرا سوى مسار الروح. ليس مهما ما جرى لي وإنما آثار الجروح التي تميزني، إن مغزى ماضيّ ضئيل جدا لا أرى فيه إلا مجرد رحلة عشوائية، تقودها الغريزة والأحداث المنفلتة التي حرفت مسار قدري، لم تكن هناك حسابات، وإنما مجرد نوايا طيبة والريبة الغامضة بوجود تخطيط أعلى يحدد خطواتي. خذي ماضيّ يا باولا ربما أفادك في شيء، لقد ضاع منك ماضيك في هذا السبات الطويل، ولا يمكن للإنسان أن يحيا دون ذكريات.


قسمت الكاتبة مذكراتها إلى قسمين، الأول يحكي عن رحلة العلاج في مستشفى بمدريد-أسبانيا، والثاني بعد رجوعها بابنتها إلى كاليفورنيا لتلقي المرحلة الثانية من العلاج، حيث كان من المفترض أن تتلقى تدريبا أو إعادة تأهيل ربما ينشط دماغها، أو يعود إليها الشعور وتسترجع حواسها، إنه الأمل الذي يجعل الإنسان يستمر ويقاوم، وهو ماء الحياة الذي يضخ في شرايين المحبين ليعطيهم القدرة على الصبر والتحمل إزاء أصعب اختبار يواجهونه، وهو رؤية من يحبونه يموت ببطء.


ستندهش عندما تجد أن إيزابيل الليندي وهي في التاسعة والأربعين، تعترف بأن حب حبيبها ويللي لها أعطاها القدرة والقوة على مواجهة ابتلائها بمرض ابنتها.



كما قسمت الليندي حديثها مع ابنتها إلى قسمين، أيضا اختارت مسارين للسرد، المسار الأول ماضي عائلتها وتاريخها الممتد في القدم، ومسار ثاني هو سرد وقائع ويوميات ما يحدث لها في مدريد سواء في أروقة المستشفى أو في الفندق، ومعايشتها لتجارب من تعرفت عليهم من النزلاء والمرضى.


إن أسلوب الليندي يجعلك متلهفا باستمرار لمعرفة ما سيحدث، رغم أنها هنا وفي عدة محطات تلمح لما تتوقعه عن حالة ابنتها، وهذا هو الغريب والمدهش، كيف جعلت قارئها يتوقع ما سيحدث، وفي نفس الوقت هو متلهف لسماع ما بقى من حكاياتها.


بالذات قرب انتهاء الكتاب وفي الثلث الأخير منها لم أشعر بنفسي إلا وأنا أسارع بالتنقل بين الصفحات، لأعرف الأحداث التالية، خاصة بعد أن وصلت إلى التفاصيل الخاصة بالانقلاب الذي حدث في تشيلي، وتولى الجنرال أوغستو بينوشيه الحكم في 1973، وكيف رزحت بلادها.


استمرت طيلة سبعة عشر عاما، قتل واختطف فيها الآلاف، وتم تصفية الرئيس السابق سلفادور الليندي عم الكاتبة، هو وكثير من أعوانه. لضمان إحكام القبضة على مقاليد الأمور، مهما كان الثمن.



تصف الكاتبة حبيبها ويللي، الذي تزوجته بعد انفصالها عن والد أبنائها وزوجها الأول ميشيل، فتصوره على أنه النسمة الرطبة التي تنعش جفاف أيامها في ظل ما تعاني منه، تقول عن حبهما: "عندما أنظر لنفسي في المرآه، أتعرف عليها وأحدثها.. هذه أنا اسمي إيزابيل لم أتحول إلى دخان ولم أختف، عشت نصف قرن وابنتي تموت، ولكنني ما زلت مع ذلك راغبة في ممارسة الحب، أفكر بحضور ويللي الراسخ، فأشعر بقشعريرة في جلدي ولا أستطيع سوى الابتسام حيال السلطة العميقة للشهوة التي تهزني على الرغم من الحزن، والقادرة على دفع الموت إلى التراجع.


أغمض عيني لحظة وأتذكر بصفاء كيف ومنذ لقائنا الأول داهمنا الحنان فجأة حين أعتقدنا أننا بمنجى من مغامرة ليلة واحدة فقط، الحميمية العميقة التي ولدت بيننا منذ البداية، وكأننا كنا نستعد طوال حياتنا كلها من أجل هذا اللقاء السعادة والهدوء والثقة التي مارسنا الحب بها، سعادة وهدوء وثقة زوجين عتيقين تقاسما معا ألف ليلة وليلة“.


سيجد من يريد قراءة هذا العمل نفسه أمام تجربة إنسانية فريدة وشديدة الثراء، أعجبني جدا وصف إيزابيل الليندي لتجربة الإنسان مع اكتشاف معاني جديدة للحب والحياة ما بعد الأربعين. فالإنسان فعلا يرى الحياة عندها بشكل مختلف، وما حياتنا إلا كبحر متلاطم الأمواج، مد وجزر، أحيانا يصفو وأحيانا أخرى يموج بالعواصف فتعلو مياهه وتفور، ثم يعود للهدوء مرة أخرى.

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات