القائمة الرئيسية

الصفحات

محمد سمير مصباح يكتب: الشِعر وعي العالم

 



بعد جولةٍ -من خلال محركات البحث ومواقع مختلفة- في سماع وقراءة قصائد للشاعر الذي فقد حياته بسبب الشعر (المتنبي)، التي أسلمتني إلى الشاعر الذي فقد بصره في الرابعة من عمره واعتزل الناس في شبابه (أبو العلاء المعري)، قادني البحث إلى الشاعر الذي فقد ذاكرته ولكنه لم ينسَ قصيدته؛ كان هذا عنوان الفيديو الذي وجدت فيه أشخاصًا ملتفين حول صاحبهم الذي يرقد في سريرٍ بإحدى المستشفيات.


 تلا أحدهم عليهِ بدايةَ بيتٍ من قصيدةٍ له لينعش ذاكرته، فوجدوه يكمله ويتذكر غيره، يشجعوه فيُكمل استرجاع قصيدته، إلى أن استوقفه أحد الأبيات وكأنه يتلوه ويدرك معناه للمرةِ الأولى، أسند ظهره إلى ظهر السرير مغمضًا عينيه، رفع يده في الهواء وكأنه أمسك المعنى، حدَّق بشدةٍ وأخذ يتلو البيت مرةً بعد مرة وهو يجهش بالبكاء. 


أعدت تشغيل الفيديو مراتٍ عدة، لأحاول فهم ما حدث للشاعر أو ما كان يشعر به. وجدته يستعيد ذاته وذاكرته بعدما أحس بوقع الكلام الذي كتبه على نفسه، رأى نفسه وهو يلقي قصيدته بصوته الجهوري وسط حشدٍ كبير في إحدى الندوات، فتذَكَّر وقفته وإحساسه بنفسه وبالعالم من حوله. كان الشعر حِصنه.. وقشته التي أنقذته من الغرق.

 

بحثت عن بطل الفيديو الشاعر الأردني من أصل فلسطيني «غازي الجمل»، فوجدته كان مخلصًا للشعر مُحبًا لإلقائه منذ الصِغر، فأدركت لما أخلص الشعر له. 


أجد دائمًا أنه لولا الشعر لصاحبه لاستحالت حياته في مرحلةٍ ما، وكذلك هو الأثر والإرث الذي سيتركه من خلفه لأجيالٍ غيره، لذلك فالشعر لصيقٌ بصاحبه مهما فرقت بينهما الطرق. 


لكي أتطهر

عندما سُئل «صلاح عبد الصبور» لماذا تكتب الشعر؟ أجاب: "على المستوى الشخصي أكتب الشعر لكي أتطهر، فالتطهير ليس وقفًا على المتلقي، ولكن للفنان أيضًا، وأما القارئ فإنني أريد أن أنبهه إلى سخافة هذا العالم إذا لم نجد له معنى، وإلى عماه إذا لم نستطع تنظيمه، وإلى قبحه إذا لم نكتشف ما في باطنه من جمال". إذن فالشعر يطلعنا على دهاليز أنفسنا بما يوضحه من صور نفسية، ويرينا مواضع الجمال في الحياة ويعلمنا تقديرها في مواجهة القبح. 



كتِفٌ يُسنَد عليه 

كثيرًا ما يحتاج الإنسان إلى كتفٍ يسند عليه أو عصًا يتوكأ عليها في لحظات ضعفه ووهنه، قد يكون الشعر أيضًا هو ما يتَّكئُ عليه الإنسان في مشوار حياته؛ تقول الشاعرة الأمريكية «ماريان أوبراين بول» في مقالٍ لها عن الكتابة: "واظبت بعد زواجي على كتابة القصائد خطيًا وطباعتها بجدٍ واجتهاد، لكنني اعتبرتها مذكراتي الشخصية، لأنها احتوت أفكاري ومحاولاتي وآمالي وذكرياتي، كانت كتابة الشعر مطهرة". وتحكي أنها في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، أقامت وزوجها في تركيا  ثلاث سنوات، حصلت فيها على الماجستير ثم على درجة الدكتوراه وكانت تمارس الشعر في أوقات الفراغ. وتضيف: "أنا حاليًا في السبعينات من عمري، متقاعدة وأعيش في شيكاغو، عضوة في مجموعةٍ صغيرة لكتابة الشعر، ما زالت القصائد تسندني".


للانتحار وخلافه

يجيب «نزار قباني» -بطريقةٍ درامية يتعالى فيها صوت الأنا- في أحد الحوارت عن سؤال لماذا تكتب، بأنه لم يجد طريقةً أفضل للانتحار، و"لأنني لا أستطيعُ استبدال دمي بعصير البندورة، أكتبُ بالحتميّة ذاتها التي ترتفع فيها السنبلة، ويفيض البحر، ويكتظُّ الثديُ بالحليب، هل يجيبكَ ثديُ المرأة، إذا سألتَه لماذا هو مكتظٌّ بالحليب؟".   


يضيف: "إنني أكتبُ لتصبح مساحة الفرح في العالم أكبر، ومساحة الحزن أقلّ. أكتبُ لأغيّر طقس العالم، وأجعل الشمس أكثر حنانًا، والسماء أكثر زُرقة، والبحر أقلّ ملوحة. إنني أكتبُ حتى أتزوّجَ العالم، حتى أتكاثر، حتى أتعدَّد، حتى أصبح 150 مليون نزار قباني.  


لماذا أكتب؟ لأن بعض طموحاتي أن أغيّر جغرافيّةَ الوطن العربي بالكلمات، قد يأخذ ذلك وقتًا طويلًا وعرقًا كثيرًا ودمعًا غزيرًا، و لكن نقطة شعرٍ من هنا ونُقطة شعرٍ من هناك وينفجرُ الطوفان".



عاوز ألحق قبل ما أموت

في مقدمة الأعمال الكاملة للشاعر «فؤاد حداد» الصادرة عن الهيئة المصرية للكتاب، يذكر حسن فؤاد حداد أن والده كان منذ طفولته يريد أن يصبح شاعرًا, ولمّا سُئل عن السبب أجاب "لأساعد الناس، حتى تكون حياتهم أفضل". ويُكمل "فالشعر عنده ليس موهبة أو هواية فقط بل مبدأ والتزام خُلقي واجتماعي وتطوير مستمر، وقد اختار العامية لغة البسطاء ليكون منهم ومعهم دائمًا". 


في بداية 1977 أصيب «فؤاد حداد» بفوبيا الأماكن المفتوحة، فكان يصاب بدوخة تمنعه من المشي بمفرده في الشارع، لم يجد الأطباء سببًا عضويًا للحالة، فذهب بصحبة صلاح جاهين إلى الطبيب النفسي د. يحيى الرخاوي، فكتب له عددًا من المهدئات منعته من التركيز بالشكل الكافي للكتابة وحاصرت خياله وموهبته. 


استمر الوضع بهذا الشكل حتى أكتوبر 1979، عندما أصيب بجلطةٍ فى القلب، فامتنع عن أدوية الدوخة وأقلع عن التدخين فبدأ يكتب بغزارة قائلًا "عاوز ألحق قبل ما أموت". في خلال خمس سنوات قبل وفاته، أنتج فؤاد حداد ما يقارب من ثلثي إنتاجه الشعري المعروف. فقد كان الشعر بالنسبة له هو الحياة التي يتمنى أن يقضي أكبر وقتٍ فيها، قبل أن تطاله يدُ الموت.



تحقيق التوازن

في رواية شيكاجو لـ«علاء الأسواني»، يصف البطل نفسه بأنه أصبح عدوانيًا وأكثر شراسة ولا يستطيع السيطرة على نفسه والتوقف عن شرب الخمر، وبعد تفكير يدرك السبب الحقيقي لتعاسته، وهو أنه "مضى عامٌ كامل وأنا عاجزٌ عن كتابةِ شطرةٍ واحدةٍ من قصيدة.."، ويعبر عن احتياجه للشعر بأنه عندما يكتب يكون "أكثر تسامحًا وتقبلًا للخلاف، عندئذٍ أشرب أقل وآكل وأنام بشكلٍ أفضل، أما الآن فأنا ضيق الصدر وأميل للتشاجر وأشعر بحاجة للشرب بلا توقف. الشعر هو الشيء الوحيد الذي يعيد إلىَّ التوازن". (ص 169)


يدخل بطل الرواية في حالة من الهذيان ويناجي نفسه "لدي أفكار قصائد تبدو خلابة من بعيد، لكنني ما إن أجلس لتسجيلها على الورق تهرب مني، كأنني ظمآنًا يطارد سرابًا في الصحراء، مرة بعد أخرى بلا نهاية. لا يوجد في الدنيا أتعس من شاعرٍ فقد الإلهام. كان همنجواي أهم روائي في عصره، ولما عجز عن الكتابةِ انتحر". (ص 169)


يقول تي. إس. إليوت: "لا أرى كتابة الشعر تعبيرًا عن النفس أكثر مما هي تخففٌ من عبء النفس". فربما لو كتب بطل الرواية عن حالته هذه بالشعر، لهدأت نفسه وحقق بعض التوازن.


عشان الشِعر يرجع لي

تعددت لقاءات «عبد الرحمن الأبنودي» التلفزيونية في شبابه وهِرَمِه التي تحدث فيها عن حبه للشعر، والتزامه تجاهه. وفي لقاءٍ جمعه والشاعر أمل دنقل في ضيافة الشاعر فاروق شوشة، قال دنقل "منذ البداية، كنت أضع في ذاكرتي وفي تصميمي أن أكون شاعرًا، وكان الأبنودي يضع في ذاكرته وفي تصميمه أن يكون شاعرًا، ولم يكن هناك إخلاصًا لقضيةٍ أخرى غير الشعر".


 خير دليلٍ على هذا الإخلاص من الأبنودي، تنقيبه الذي استغرق ثلاثين عامًا عن سيرة بني هلال، حتى أنه قال في لقاءٍ له في بيت السحيمي، سبتمبر 2008 "لا أزعم أنني جمعتها كلها واكتملت لي، فالملحمة لم تنته بعد، وكل يومٍ اكتشف زاوية خفيت عني طوال العقود الماضية".


بخلاف جَمعِهِ للسيرة من أنحاءِ مصر، سافر إلى تونس 22 مرة ليجمع السيرة التونسية، فلكل شعبٍ طريقته في سرد هذه الملحمة، وسافر إلى السودان ست مرات للسبب ذاته، وجمعها أيضًا في تشاد ونيجيريا والجزائر والمغرب وصحراء ليبيا، فضلًا عما وجده في المتاحف الأوروبية والجامعات الأجنبية من نصوصٍ للسيرة كان قد جمعها المستشرقون. 


كتب «الأبنودي» في الصحافة كثيرًا، ولكنه في فترةٍ ما، صب تركيزه على الكتابة الصحفية أو النثر.. فخاصمه الشعر، وكان يعبر عن افتقاده للشعر بأن يقول لزوجته «نهال كمال»: "الشعر وِقِف، لازم أبطَّل كتابة النثر علشان الشعر يرجع لي".


وعي العالم

لم يكن الشعر -بتعريفه الواسع- منفصلًا عن الواقع والمجتمع باختلاف طبقاته، بل يمارسه العامة في حياتهم اليومية، كما تتسلل الشعرية فيما نرى ونقرأ من فنونٍ وآداب، لذلك لا نستطيع الفصل بين الحياة والشعر الذي يدخل في نسيجها، وبالتالي لم يستطع الشعراء التخلي عن متنفسهم وهوائهم. يقول الشاعر الأمريكي «ألن جينسبرج»: "الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ العالم، هو استعادة وعي العالم. هذا ما يفعله الشعر".


وأولى خطوات استعادة وعي العالم، هو التعرف على الذات الإنسانية وإدراك وعيها، وهذا أيضًا ما يفعله الشعر. 

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات