يوسف الشريف
إن عدد الروايات التي استطاعت الخروج من المحيط الجغرافي الذي يسكن ويعيش فيه المصريون قليلة جداً، فالمصريون يعيشون على مساحة قليلة جداً بالمقارنة بمساحة البلد الأصلية، ولذلك كان غالبية الكتاب والأدباء مقيدين بهذه المساحة التي نشأوا فيها، فمثلاً أديبنا الكبير نجيب محفوظ كانت أغلب رواياته تدور داخل القاهرة ولاسيما حي الجمالية الذي نشأ فيه، وكتابنا الكبار أمثال يوسف إدريس وخيري شلبي ويوسف القعيد وغيرهم كتبوا عن القرية المصرية لأنهم عاشوا فيها.
ولكن الرواية التي بين أيدينا والتي هي من إصدارات دار "العين للنشر والتوزيع" تذهب إلى أرض بكر جديدة، لم يذهب إليها أحد قبل كاتب سطورها علاء فرغلي، حتى الروايات التي ذهبت قبل ذلك إلى عالم الصحراء، كانت لا تنال إعجابي على المستوي الشخصي، وأرى أن هذه الرواية بمقوماتها ولغتها وسردها وتماسكها تكاد تكون الأولى في العالم الخاص بها.
ولأن الرواية التي نحن بصدد الحديث عنها الآن، تحتوي على بعض الأسئلة الإنسانية والفلسفية العميقة إلى أبعد حد لا بد أن نأخذ بخيط كل سؤال يطرحه الكاتب علينا لنناقشه.
وأول شيء طرحه الكاتب في روايته كانت فكرة هبوط الإنسان على الأرض، فبداخل الرواية نرى "الشاهين" بطل الرواية ومكتشف الأرض الجديدة "الدومة"، وهو يناقش تلك الفكرة، فكلنا نعرف قصة سيدنا آدم عليه السلام وهبوطه إلي الأرض، ولكن هل فكر أحد ما هي المشاعر التي كانت تقتحم الإنسان في هذه اللحظة؟ كثير منا سيقول الخوف، ولكن داخل الرواية نرى "الشاهين" وهو يحذر من الشعور بالخوف ليشبه الكاتب العالم الذي نعيش به بالصحراء القاسية القاحلة، أي أن الصحراء بقسوتها وشدتها هي الحياة بعينها، فنرى الشاهين داخل الرواية وهو يقول:
"أما الغريب الخائف حين تقسو عليه الصحراء وتخايله عفاريتها، ويصير عبداً لخوفه لا يري في الأحياء إلا خطراً محتملاً فيتقيه بالغدر والخيانة".
أما عن الشعور الثاني الذي يشعر به الإنسان الهابط على الأرض هو شعور الجوع، ولذلك منذ هبط الإنسان على الأرض وهو يبحث عن مصدر الغذاء، وحتى الآن يسعي الإنسان في الأرض من أجل توفير الطعام لنفسه، وبداخل كثير من الناس خوف دائم من الشعور بالجوع، وأكثر ما يخشاه الإنسان هو أن تأتي اللحظة التي لم يجد فيها اللقمة والزاد، وبداخل الرواية نرى الشاهين يقول:
"من يقتله الجوع لن يخيفه قتل الرصاص. قتل الرصاص هين؛ ينثقب الجسد فيفسح للروح منفذا لتفارق، لكن قتل الجوع يمزق الحشي، ويحرق الجوف، ويذهب العقل ويذل النفس".
وبداخل الرواية يناقش الكاتب فكرة من أهم الأفكار وهي فكرة الطبيعة أو الفطرة التي خلق الله الإنسان عليها، فبداخل الرواية أنت ترى أناس يعيشون في أرض بعيدة لا يسمع ولا يعرف عنها الكثيرون شيء، ولا يعرف أحد أين موقعها علي الخريطة، ولا يشعر أحد بوجودهم من الأساس، ولا يعرفون شيء عن ما خارج واحتهم أو واديهم من صراعات وأحداث سياسية.
ولذلك أنت ترى أناس لا يعرفون عن الحياة إلا الأشياء البديهية الغريزية مثل حاجتهم للأكل والشرب والجنس والشعور بالأمان، وستجد داخل الرواية كيف يتعامل هؤلاء مع المؤثرات الخارجية التي تأتي لهم من الخارج، أو حتي مع الأشياء التي توارثوها مثل المعتقدات والعادات والدين، فأنت تراهم يتمسكون إلي أقصي حد بظواهر الدين في كثير من المشاهد داخل الرواية مثل طريقة تعاملهم مع الأجانب أو حديثهم عن الآخر أو حتي الطريقة التي يصلون بها.
ففي أحد المشاهد نرى الإمام في الصلاة بعد أن لاحظ اعوجاجا في الصفوف وهو يكرر لمرات أن لا بد أن تكون القدم في القدم حتى لا يترك المصلين فرجة للشيطان، فيرد عليه أحد المصلين ويقول له فلنترك هذه الفرجة لكي يقف بيننا الشيطان لعله يهتدي ويصلي معنا.
وبالرغم من تمسكهم بهذه الظواهر إلا إنهم لم يتخلوا عن طبيعتهم الإنسانية والفطرة الإلهية التي بداخلهم وهي التمييز بين الشيء ونقيضه عن طريق العقل، فمثلاً نرى أحد أبطال الرواية وهو يسأل من حوله كيف اكتشف نبي الله سليمان في القصة الشهيرة اختفاء الهدهد؟ ومن ثم يروي لهم قصة خيالية عن كيف عرف النبي وعلم بغياب الهدهد، ولكن عقولهم لم تستطيع تصديق ما قاله بالرغم من إنه يتحدث بخشوع المتحدث عن شيء هام مرتبط بالدين.
وكذلك أيضاً تعاملوا مع بعض المهاجمين المتشددين الرجعيين الذين لا يفقهون شيء في الدين والذين جاءوا كما يقولوا لنشر الدين في بلد يحكمه الكفار، ولعل اسم "زكريا المحراب" وهو واحد من هؤلاء السلفيين الذين جاءوا لتكفير من في الواحة هو اسم عبقري، فعندما يسأله أحد لماذا سمي بهذا الاسم الغريب؟ يجيب زكريا المحراب إجابة تدل على جهله التام بالدين وبفهم النصوص الدينية ولا سيما النص الديني الأهم وهو القرآن الكريم.
هذا عن الجانب الإنساني والفلسفي داخل الرواية ولكن ماذا عن الجانب السياسي التي تتناوله الرواية، لا أريد أن أستفيض في الحديث ولكن سأتحدث عن الجانب الذي أعجبني بشكل خاص، فبداخل الرواية نرى أن أول حاكم مصري اهتم بتلك الأراضي البعيدة الصحراوية التي لم ولن يعرف أحد أن هناك من يعيش بها كان جمال عبد الناصر، وهنا تذكرت كلام قرأته في أحد الكتب وقاله لي أحد أقاربي الكبار في العمر والذين عاصروا فترة عبد الناصر، فقالوا إن عبد الناصر من إنجازاته إنه استطاع وحاول أن يصل إلي المصريين في كل مصر لكي يعيشوا حياة آدمية فكلنا نعرف أن مصر في العهد الملكي كانت تعاني من تجاهل تام بكل من يعيشون خارج المدن الكبيرة مثل القاهرة والإسكندرية، وكان أكثر من نصف عدد المصريين بكثير عبارة عن فلاحين يعيشون حياة غير آدمية يسيطر عليهم الفقر والجهل.
ولكن الكاتب داخل الرواية لا يتناول فقط تلك الميزة التي جاء بها عبد الناصر بل أيضاً يتناول أحد أسوأ ما أتى يه النظام الناصري ولم تتداركه الأنظمة التالية لعبد الناصر وهو خطأ فائض العمل في القطاع العام، فكثير منا يعلم أن في فترة عبد الناصر كان كل حامل شهادة يتعين في الحكومة ويخصص له مرتب شهري، حتى ولو كان لا يفعل أي شيء، وبداخل الرواية نحن نرس أحد الأشخاص الذي عين للرقابة على الآثار ولكنه لا يمارس وظيفته ولا يراقب شيء، ومع ذلك يتقاضى مرتبه أول كل شهر.
أما عن اللغة داخل الرواية فهناك مزج مبهر بين لغة النص الروائي، ولغة شاعرية ممتازة تفيض أحياناً بالحكمة، هذا بجانب بيوت الشعر التي يفتتح بها الكاتب فصول روايته من ضمن هذه الأبيات الأبيات المكتوبة داخل الرواية.
"بكرة نموت ونندفن تحت دار طينة
والدود حياكل حواجبنا وعنينا
وتركب الوجه غبرة بعد زينة"
في النهاية الحديث عن تفاصيل الرواية لن ينتهي، فنحن نتحدث عن رواية تقترب من الأربعمئة صفحة وتفيض بالحكايات الإنسانية الفلسفية، بالإضافة إلى أحداث سياسية بعضها معروف وأغلبها مجهول، وعن علاقة الإنسان بهذه البيئة التي يعيش فيها وغريزته، وتعامله مع المؤثرات الخارجية المختلفة. رواية "وادي الدوم" لعلاء فرغلي رواية بديعة، وعمل فني جديد وممتع وصادق، يتستحق الكثير.. والكثير.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب