يوسف وديع
"إنّها مفارقة فادحة أن تعرف أنّ مكاناً قد وُجد فقط لأنّك رأيت حطامه".. كيف يستطيع الفن محاكاة حيوات وتواريخ الأشخاص؟ كيف للفن على اختلاف أنواعه ومدارسه وأشكاله أن يختزل تاريخ شخص؟ فما بالك بمدينة بالكامل، بتفاصيلها، وشكلها، بل وأيضا في روحها.
قدم الكاتب طارق إمام، في روايته الأحدث "ماكيت القاهرة"، الصادرة عن منشورات المتوسط، تشكيلة غريبة وعالم يختلط فيه الواقع بالخيال، يمتزج فيه الحقيقي بالفانتازيا. فقدم من خلال ثلاثة أشخاص - تتقاطع حيواتهم ومصائرهم وعوالمهم - تجسيد وتجسيم لمعاناة مدينة بالكامل. مدينة تحيا كقاطنيها ومواطنيها، حياة القهر والتخفي بل والتعري في الظل، تظهر بكامل رونقها وجمالها في النور، وبكامل فضائحها وقباحتها في قلب الظلمة.
تحكي الرواية عن ثلاثة أشخاص (بلياردو، ونود، وأوريجا)، كل منهم في قالب زمني مختلف، تتقاطع ارتباطاتهم ببعض ليكمل كل بطل حكاية الآخر. ومن خلال تجسيد كل منهم للون مختلف من الفن يظهر معني وتجسيد لحياته.
ومن خلال (جاليري شغل كايرو) الذي يلعب دور القاسم المشترك والرابط بين الشخصيات، تظهر شخصية "المسز" التي تحاول توجيه كل بطل لإضفاء لمحة من حياته في عمله الفني.
التتابع الزمني في العمل متقن وبارع لأقصي حد، وتماسك الشخصيات كان رائعا، لدرجة تجعل منهم أناس متجسدين أمامك في الواقع، تشاهدهم وتتفاعل معهم. أما عن السرد.. وما أدراك ما روعة أسلوب طارق إمام ومفرداته ومصطلحاته وتعبيراته، فطارق من الكُتاب الذين لن تستطيع أن تَسلى حلاوة وصفهم، ولا رصانة وعظمة سردهم.
"ذات يوم دخل الثائر المقهى وقد غيَّر وضعية الشريط اللاصق، وضعه أفقيا بين جبهته وأنفه، بحيث يُغطي عينيه الاثنتين، بالطريقة التي تضع بها الصحف خطًا أسود على عيون المتهمين في صفحات الحوادث. فكّر بلباردو: لقد تحوّل وجهه من وجه ميت إلى وجه سيء السمعة".
أما عن الافتتاحيات فهي من الأمور التي تبرز ذكاء وموهبة الكاتب، فعلي غرار الافتتاحيات العظيمة لأمهات الأعمال، انتقى طارق إمام ما يمكن ان يجتذب عقل وفضول القارئ، فأستهل نصه بالجملة التالية:
"يتذكر أوريجا أنه كان طفلا حين قتل أباه بهذه الطريقة: ألصق أصبعه بجبهته متخيلا أنه مسدس وأطلق دويا من فمه: بوم"
فأي جنون ينتاب الكاتب وهو ينصب سيركاً أمام قرائه ويجعل منهم مشاركون في مسار الأحداث، ليس فقط مشاهدين، فكل قارئ لنص طارق إمام، متورط بشكل ما في تناول وتحليل الحدث من وجهة نظره.
أخيرا أقول إن هناك كُتاب كُثر يستطيعون كتابة حكاية شيقة، ولكن هناك مبدعون قلائل يمتلكون القدرة علي إشراك القارئ في نصوصهم، وتحويل العمل إلي علاقة تفاعلية بين المُريل والمتلقي.
هناك كُتاب لديهم ملكة السرد والحكي، وهناك طارق إمام بقدرته الإستثنائية علي كتابة نص إستثنائي متفرد، كأنه قطعة من أحجار كريمة تضيف لك وتضيف لها، وتكتمل بقراءتك لها. فنحن أمام كاتب يمتلك لغة سرد متفردة ومتميزة و مفردات ملهمة، وإجمالا نحن بصدد الحديث عن نص قلما يقابله قارئ.
ملحوظة هامة، لا ينصح بالقراءة المتعجلة للعمل، لأنه قيم ومهم وله ثقله. أنا شخصيا كنت أحاول التمهل في قراءته لضمان اكبر قدر من الاستمتاع.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب