"إن كل صحيفة ليس لها كفاح معين تفقد حقها في البقاء" هذا ما قاله سلامة موسى في كتابه "الصحافة حرفة ورسالة" ومن ورائه أقول إن كل صحفي ليس له أسلوب وبصمة يفقد حقه في أرشيف صاحبة الجلالة حتى وإن انتسب إلى نقابتها.
ربما من هذه الرؤية اشتق الصحافي عبد الله عويس، طريقه وبصمته، صحيح أنه يعرف أن للخبر -بلا توجيه- قيمة، كما يعرف أننا لم نعد في عصر الخبر وإنما تكمن أهميته في تحليله وفي وضع عدة أخبار قد تبدو منفصلة في سياق واحد متصل لتكون رؤية مختلفة، وصحافتنا أحيانا -وللأسف- لا تحلل الخبر وإنما تكتفي ببثه على الناس وأحيانا أخرى -وللأسف أيضا- تكتفي باستقباله على البريد الإلكتروني، أغلق عبد الله عويس بريده الإلكتروني ونزل إلى الشارع، حيث صوت الناس ومنشأ الخبر، لم ينقل لنا الأخير (الصورة) وإنما الأول (ما وراءها).
الخبر يقول: تعويم سفينة ايفرجيفن بعد أسبوع من جنوحها في قناة السويس، عبد الله كان في مكان آخر، كان بطلا ثالثا بجوار بطلين، الأول يدعى أحمد عزت عبد الحميد الذي كان يؤدي عمله في إصلاح الأعطال، والثاني عزت عبد الحميد.. والده، أحد مصابين حرب أكتوبر ٧٣، وكان من الذكاء أن يربط بين الإبن والوالد فكليهما نبتا من جذر واحد، حتى الأم لم يتجاهلها، كانت تلوح في الأفق بجملتها الوحيدة "اللى خلف ما ماتش".
الخبر الأبرز هو نقل المومياوات الملكية، "عويس" كان معي في ذلك اليوم لم يحصل على تصريح بتصوير المومياوات، ضايقه الأمر لكنه لم ييأس، بحث عن طريقة ما كي يلتقط صورة، كان يعرف منذ بداية اليوم أن الموقف يتطلب صورة، ما يعيش في ذاكرة اليوم صورة وليس موضوعا صحفيا قد لا يمكث في ذاكرة العابرين، تماما كما فعل عمرو بيومي ووثق نقل تمثال رمسيس من ميدان التحرير بفيديو لا يعرف لماذا التقطه وأين يبثه لكن بعدها بأعوام قدم فيلما وثائقيا رائعا هو "رمسيس راح فين؟"، وعندما كان البعض يسير بجوار الموكب، والبعض الآخر يتابع تاريخ الأسرات الملكية عبر التلفاز، كان الصحافي الشاب الذي لم ينل حقه في التصوير يلتقط صورة أيقونية لأسرة مصرية بسيطة تقف في الشرفة وتلوح للموكب، لم ينشغل "عبد الله"- كعادته- بتاريخ المومياء وإنما بتاريخ الأحياء.. واختزل في صورة واحدة تاريخ الأسرة البسيطة التي لا تختلف عن باقي الأسر المصرية وكأنه اختصر تاريخ الإنسان المصري كله حين عاد بنا إلى أصوله وجذوره الأولى، وكأنه يقول: شعبنا لم يأتي من فراغ، هذي أصوله.
الخبر يقول إنه اليوم الأخير للصحافة الورقية المسائية والجميع مشغول باختبار صحة القرار من عدم صحته، والبعض الأخر اكتفى بالتعليق عليه، والأكثر ذكاءا يحتفل على طريقته الخاصة بالوداع الأخير، فاشترى جميع الجرائد المسائية، ذهب إلى المقهى وطلب فنجانا من القهوة السادة بلا ذرة واحدة من السكر كي تناسب حزن الليلة، ودعه قهوته الفقيد، هذا آخر المساءات ولا مساءا آخر يلوح في الأفق، وربما بكى الجرائد الصباحية هي الأخرى، تلك التي تصارع-في صمت يبدو متفق عليه- من أجل بقاءها، "عويس" كان في مكان آخر، صحيح أنه كان يبكي الفقيد هو الآخر لكن وسط أهله "بائعو الجرائد"، يشد من أزرهم، داعيا الله أن يغسله بالماء والثلج والبرد وأن يثبته عند السؤال.
الخبر هو احتراق عقار على الطريق الدائري ورجال الإطفاء يبحثون عن طريقه لإخماده، ورجال الإقتصاد يحصرون الخسائر، ورجال الشرطة يؤدون واجبهم بتأمين المكان لحين إخماد الحريق أو سقوط المبنى المتهالك، "عبد الله" كان يؤدي واجبه كذلك، يبحث كعادته عن البشر، فذهب إلى مقهى "جمال عابدين" القهوجي الذي استقبل متضرري الحريق بمشاريب بنصف الثمن وبكل الدعم، رجل آخر صورته قد تبدو مختلفة عن صورة الأسرة البسيطة التي تودع المومياوات، الصورة تختلف والجذور عصية على الاختلاف.
عبد الله عويس أيضا لا يختلف، لا في الجذور ولا الصورة، ليس لأنه من التقط كلاهما، بل لأنه يشبه كلاهما، هكذا يبحث الصحافي الشاب عن جذوره في بسطاء الشارع المصري، نجح "عبد الله" لأنه اتجه إلى حيث يجب أن تتجه الصحافة، إلى الشارع، وما أجمله إذا بكي أو فرح أو غضب أو حتى وقع في كارثة!
اتجه إلى البسطاء، وما أجملهم إذا حكوا، نجح لأنه اتجه إلى ما وراء الخبر وما وراء الحكاية، أو بالعامية المصرية (فتشر الخبر)، ترك مكتبه المكيف في موقع "مصراوي" وذهب إلى الشارع المزدحم المتصبب عرقا، وفي ظني أن الصحافي الحق يجب أن يوجد حيث يوجد الناس وأن يتصبب عرقا مثلما يتصببوا بل عليه أن يجففه.
عبد الله عويس من نفس الصلصال الذي صاغ لنا شيوخ المهنة رغم أن الطريق لم يزل طويلا أمامه كي يصبح واحدا منهم، لكنه خرج لنا بعد كل هذه السنوات من تحت زيتونة، كي يكتب لا عن أحلام البسطاء فقط بل عن أحلامه هو، تلك التى تراوده فتظهر في قصة صحفية جديدة، يتعالى في القصة ولو من دون جناح والغريب أنه لا يهوى، وإن هوى- نادرا ما يفعل- يقع في واد ذي زرع.
صحيح أنه يكتب أحيانا بلغة قديمة (أزهرية) قد تفقده حذاءا لكن أبدا لا يفقد قدما، يحتفي بالغرباء الذين نقابل بعضهم فنضحك أو نتهكم على مشيتهم الغريبة، يفضلهم على من يعتقدون أنهم الأصل وما عداهم مسوخ، قرر أن يكون (هو) حيث تكمن جذوره، لا أن يكون شبيها بآخر، ولا شبيها بتنبؤات الأبراج والطالع.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب