ممدوح التائب
ليس من السهل أن تتتبع نصاً لطارق إمام، دون أن ترتبك وتتعثر في متاهات من السرد والتجريب، يسهل معها أن تلقي بالنص، تتمنى محوه، تتخيل سبابتك سلاحاً وتصوبه نحوه، أو نحوك، وتقول ببساطة أن تلك رواية مملة، غريبة، أو ببساطة إنها رواية "بشعة". لكن كل كتاب لطارق يخلق معه قارئه، وكلما طبعت نسخة من كتاب، ظهرت نسخة من قارئ. قارئ يمكن أن نسميه بأنه "قارئ إمام ". هنا أحاول بتواضع طبع/ تفريغ/رش خطوط عريضة، بالتأكيد شخصية وذاتية، لما قرأته في الماكيت.
- القاهرة.. مدينة الدوائر اللانهائية
يعتمد "إمام" على الدوائر داخل النص، ليس فقط كأطر للأحداث والزمن والأماكن، وعلى صفحة الغلاف، بل كحيز للشخصيات ومعادلاتها. فمن نقطة انطلاق الأحداث نرى ثقباً، دائرة، فعلته فوهة وهمية، دائرة، من إصبع طفل في رأس رجل أخذ اسمه من كرة البلياردو، المدورة. داخل جاليري "شغل كايرو" تتكثف هذه الدوائر.
تجلس "المسز" بسلطتها في المكتب "عبارة عن طاولة دائرية، بدت منسجمة مع الدائرة الأكبر التي تمثلها الغرفة / كان الحائط المقوس خلف ظهر المسز شاحباً / علقت داخل إطار دائري صورة.. " ص13. ومن ص55 نقرأ ما تفعله المسز: "بدأت تعبث بقلم رصاص فوق ورقة. رسمت دائرة، وبداخلها رسمت دائرة أصغر، فدائرة ثالثة داخل الدائرة الثانية". وكذلك يعج النص بالأشكال المدورة، القصر (الجاليري)، الميدان حيث يجد العين، مرآة نود، عدسة كاميرا نود، طاولة البلياردو في مكتب المسز وحلم بلياردو، خشبة المسرح الدائرية وغيرها.
ذلك الحضور الواضح للدوائر والأقواس على امتداد النص، يشتق فكرته من البنية الحضرية والتاريخية للقاهرة. فلو نظرت، بعين الطائر، نحو القاهرة سترى حلقات من العمران والتاريخ تحاصر بعضها. فمثلاً، هناك قاهرة خديوية تحيطها قاهرة ما بعد زمن الملكية، تحيطها قاهرة مملوكية وفاطمية، تحيطها قاهرة أخرى بنسق مختلف، وقوسان لدائرة لم تكتمل لحزام من المناطق التي لفظت المدينة إليها الوافدين عليها من الأقاليم. وعلى الهوامش الصحراوية قوس لقاهرة عسكرية كدرع، وحوله حلقة أخرى لقاهرة التجمعات التي تشكل "غيتو" يخص الهاربين من زحام المركز وعشوائية ما خلف الدرع، وكإطار لم يتشكل كاملاً، تنشأ القاهرة البديلة/ الجديدة لتحل محل الأولى، أو لتكون الأولى لها ممراً حسب الماكيت. وداخل هذه الدوائر يمكنك رؤية دوائر أصغر تمارس الحصار نفسه، حي شعبي فقير، يحيطه حي أكبر للأغنياء، يحيطه حي للفقراء، يحيطه حي للأغنياء، وهكذا. لذا فالقاهرة هي مدينة الدوائر اللانهائية، وتصبغ كل معالمها بتلك الهوية. فمثلاً أهم طريق يؤدي إلى المدينة، يطوقها، هو الدائري. حتى الحدث المعاصر الأهم للمدينة كان ثورة في ميدان يأخذ قلبه شكل دائرة. وكما في قانون الدوائر، تبدأ الرواية من حيث تنتهي، والعكس.
نرشح لك: حصريا.. ننشر فصلا من رواية "ماكيت القاهرة" للكاتب طارق إمام
-عزلة الشخوص.. مدينة اليتم والفقد
أكثر ما يظهر على الشخوص الرئيسية في العمل هو عزلتها، انسلاخها من النسق الاجتماعي المعروف للعائلة، لتصبح فروعاً مقطوعة من أشجارها. هذا النسق الاجتماعي تمركز عليه النص في" قصة أسرة واحدة في علاقتها بجاليري شغل كايرو عبر ثلاثة أزمنة" ص394. كان اليتم / الفقد سبباً لهذه العزلة والفردانية، في مدينة مزدحمة باليتامى، ودشن به إمام أحداث الرواية، مانحاً الطفل فرصة لكي يخلق يتمه:
"يتذكر أوريجا أنه كان طفلاً حين قتل أباه بهذه الطريقة: ألصق إصبعاً بجبهته، متخيلاً أنه مسدس، وأطلق دوياً من فمه: بوم" ص11.
جرب أوريجا الفقد مرتين، مقتل الأب واختفاء الأم، وعلى مدار النص تظهر علاقة الفقد بالشخوص. هذا الفقد يظهر فقداً للعائلة، اليتم، كما في حالة نود، أوريجا، بلياردو. أو الفقد كحالة من النقصان الذي ظهر في حالة بلياردو في فقده أولاً لعين بفعل رصاص القناصة، أو للبصر تماماً بعد ذلك. تقلب بلياردو لسنوات في جو اليتم والفقد جعله شغوفاً بالتقاط الأشياء المفقودة من الأرض، وضمها لملكيته، كأنه يعوض بذلك عن الفقد الذي يهيم فيه. ونقرأ من ص32: "كان الفقد هو المعنى الذي لا يمل بلياردو من تأمله ملهماً، ما فقده شخص ليسطو عليه شخص آخر، وما ضاع سهواً ليعثر عليه عن قصد.
"نود" التي شاركتهم يتم العائلة، كانت مشغولة طوال الوقت بفكرة الفقد تلك: "هكذا، وبعد هذه السنوات كلها من بزوغه الأولى، بات أكثر ما يمكن أن يرعب المخرجة الشابة، أكثر من اختفائها هي، أن تقف في يوم من أمام مرآة، فتكتشف أنه _ هو_ من اختفى" ص20.
كانت "نود" تفتقد للحضور المرئي لرجل في مرآة، والإحساس الحقيقي بنفسها كأم، فضلاً عن افتقادها لتحقيق أحلامها كمخرجة أفلام. رجل المرآة نفسه افتقد لوجوده المحسوس خارج المرايا. المسز نفسها، وإن ظهرت كسلطة عليا، دائماً ما ينظر لها بعين من يراها بأنها تعاني فقداً ما، جسدياً للدقة، وهذا الفقد قد يكون بالنقصان كأن يكون جسدها فقط نصفها الأعلى، أو بالزيادة كأن تكون لها قدم ثالثة. الشخصيات الأخرى أيضاً عانت من الفقد، كأن النقصان هو الطبيعي للكائن البشري. فهناك أم بلياردو التي تعيش على كرسي متحرك فاقدة القدرة على الحركة. "الكابو" حيث صاحب مقهى فقد عينه، ليجعل من مقهاه مقصداً لأشباهه في الفقد. شخصية مانجا في التعقيب تظهر مخالفة لذلك، امرأة لها ذاكرتين، وهي بذلك تفتقد لنعمة الذاكرة الواحدة. وعلى مدار النص تتكرر دائماً كلمات من نوع: الفقد، اليتم، النقصان، والتي اقترنت غالبا بمفردة أخرى تجسد درجة عالية من الفقد: الموت.
- القاهرة.. مدينة الاحتمالات اللانهائية
يستهل إمام العمل باقتباس من متن النص نفسه: "الأمكنة تخلق قاطنيها. إن نشأت نسخة جديدة من بيت، ستنشأ نسخة جديدة من ساكن" منسي عجرم. ص7. هكذا ينفتح النص على سمة، لا تميزه فحسب، بل تسم الأعمال الأخيرة لإمام، وهي لا نهائية الأشياء وفقدان الثنائيات. ولذلك تعود المجوعة القصصية البديعة لإمام "مدينة الحوائط اللانهائية" للصورة، ص180، ليس فقط في عنوانها بل كعمل أشير له داخل النص، ربما النص يمتن لها، مثل أم، وبلانهائية جدرانها يرث عنها تلك اللانهائية. في حوار على شاشة التليفزيون المصري ذكر إمام أن للقاهرة تصورات متعددة، بعدد من يسكنها أو يمر بها. هنا تأكيد لهذا المبدأ، فأحداث العمل تأخذ هذا المسار، في تعدد الحيوات التي عاشتها المسز، في النهايات المفتوحة، في تمدد الزمن ومحطاته حول الجاليري، وفي أكثر من مشهد في العمل يحيل لفكرة تعدد الاحتمالات. من بين التقنيات التي استغلها طارق ليخط فكرته مثلا نجد أسماء نود، أوريجا، المسز. هي أسماء تنتمي لسياق النص لكنها غريبة عن سياق المدينة التي حسب وصف الراوي" تعتقد أن الله يتكلم بلغتها". أكد النص ذلك مشيراً لأن لهم أسماء "حقيقية" غيرها. هذه الأسماء في حالة المسز قد تكون مارثا، كريستين، كونداليزا، الخ. لكن مع العائلة نجد دائرة الاحتمالات ضاقت بفعل الإشارة لانتمائهم الديني، مسلمون، وسنعود لمفارقة تلك النقطة لاحقا، فيمكن أن يكون أوريجا هو محمد أو مصطفى أو عبد الله أو "طارق" مثلا، ويمكن لبلياردو أن يكون محمد أو مصطفى أو عبد الله أو ببساطة عبد السميع، ونود يمكن أن تكون فاطمة أو عائشة أو ببساطة أي اسم يمكنه أن يرتدي الحجاب بالغصب، ويخلعه كتمرد. اللانهائية تأتي في الأصل من النقص لا الكمال. كل فقد أو عوار هو احتمال للشخوص وللمدينة، وللنص. ففقدان العين عند بلياردو هو ما فرض له احتماليات أخرى لحياة غير التي كان سيعيشها مكتملا بعينين. فقدان نود للتجسد المرئي لطفلها / رجلها في المرآة وضع احتمالات مختلفة لحياتها لو عاشتها بل رجل المرايا. فقدان المسز، في نظر الآخرين، لتصور كامل عن تاريخها، هويتها، هيئتها، منحهم احتمالات عدة عنها. منسي عجرم الذي افتقد وجوده لسيرة وصورة، حصل على نصيب وافر من الاحتمالات حسب الذين يقرءون له، سواء أحبوه أم كرهوه. كتاب منسي عجرم نفسه هو دلالة قاطعة على هذه اللانهائية، إذ أن متنه يتعدد حسب تعدد قراءه، بل ولدى القارئ نفسه حسب ما يفكر فيه.
- المحو والتشييد
كما سنشير لاحقاً إلى تعاطي النص مع معضلة الثنائيات، نجد الماكيت يستعرض من البداية تلك المساحة اللانهائية بين المحو والتشييد. "أي مدينة لم تتعرض للمحو هي مدينة لم توجد" خورخي خالد، ص7. تعامل النص مع المحو والبناء من عدة جوانب، مثلاً:
القتل
قد ننظر لفعل القتل في بداية الرواية ببساطة أنه فعل إماتة، لكن أليس القتل في حد ذاته محواً؟ هذا المحو، بهدم حياة شخص، وهدم الأبوة، أدى لنشأة يتم شخص وبناء حياة أخرى، واحتمالية، له. نقتبس من ص18: " إن رصاصة متخيلة يمكن، أيضاً، أن (تمحو) شخصياً حقيقياً". يتكرر الأمر مع رجل المرآة الذي محته نود بطلقة من سبابتها، قتلها للجنود ولنود المصغرة، وأوريجا الرجل / الطفل في النهاية كفعل انتحار، الذي هو، بطريقة ما، فعل محو.
طمس الملامح
يفقد بلياردو عيناً، فيفقد بذلك حقه في التقاط صورة شخصية. فقأ العين، تصفيتها، أخذ أيضا شكلاً من أشكال المحو، ماديا ومعنوياً، وتعامل بلياردو مع ذلك كما لو أن وجهه قد محي. تتخذ المسز في أحد المواقف شكلاً بلا ملامح، كأنها قد محيت. وجه لاعب البلياردو الذي محي مستبدلاً بظهره، طمس للهوية. كتاب منسي عجرم الذي كان يمحو أي ملاحظات تكتبها نود، لكن ليس ليطمس هويته بل ليحفظها.
يظهر الماكيت كفكرة نابعة من مجال الهندسة المعمارية، نموذج جبسي / ورقي / خشبي لبناء سيكون. "ماكيت القاهرة: مشروع فني طموح.. يهدف لتشييد ماكيت مصغر للمدينة" ص14. لكن النموذج نفسه يتحول إلى مشروع للمحو، فقابلية أي شيء كي يبنى هي نفسها بدرجة قابليته لأن يهدم. "سيدمر الماكيت نفسه بنفسه أمام الجمهور" ص288. هذا الاقتباس يحيلنا للنقطة السابقة أيضا، كأن الماكيت سينتحر. وعلى مدار النص تتكرر كلمات توحي بفعل المحو مثل: قتل، حذف، طمس، شطب، وغيرها.
على الطرف الآخر يوجد عنصر البناء والتكوين. فهناك مدينة " ستصبح عما قريب عاصمة جديدة، لم يعثروا لها على اسم بعد، صارت القاهرة كلها ممرا لها". ص24. أوريجا نفسه كان عاملاً في مجال البناء ومنه اكتسب مهارته في صنع الماكيتات. بل يحتوي النص الكثير من مصطلحات الهندسة والمعمار، كلمات تخص حتى مواد البناء المعروفة. كل ذلك منطقي في رواية تحمل عنوان "ماكيت القاهرة" المدينة التي أكثر ما يشغلها البناء.. والمحو.
- الرواية كجاليري
يتجسد الفن كثيراً في أعمال طارق إمام. في الماكيت تدور الأحداث حول وداخل "جاليري" الذي هو مكان لعرض الفنون. شخوص العمل هم، بشكل أو بآخر، فنانون: نود مخرجة أفلام، بلياردو رسام جرافيتي، أوريجا صانع ماكيتات، ومانجا رسامة كوميكس. بل حتى الفنون الأخرى وجدت لها مكاناً داخل النص حيث حضور الغناء في صورة حميد الشاعري وتسمية المقهى باسم ألبوماته. تردد المسز جملة " اطبع، فرغ، رش" على إيقاع الراب. أيضاً تزخر الرواية بالكثير من المصطلحات الفنية الخاصة بالجرافيتي والعمارة والتصوير والكوميكس والموسيقى، والكثير الكثير من المجسمات الفنية والصور واللوحات، كما ينبغي للجاليري أن يكون، أسماء لفنانين، متخيلين، وكتاب ورسامين، منحهم الروائي ألقابا تحمل الجناس اللفظي مع فنانين آخرين لكن واقعيين هذه المرة. في مشهد توجد على مكتب المسز مجموعة من المنحوتات والتماثيل. ألوان داكنة تنتشر على خارطة النص : رمادية، زرقاء، داكنة، حمراء، تصف الوجوه والعيون بل حتى الطقس والصمت والفراغ. كل ذلك دعم بثلاثة نماذج "فنية" تخص الشخصيات الرئيسية: الجرافيتي العملاق لبلياردو، مجسم الماكيت لأوريجا، الفيلم الذاتي لنود. وكأي جاليري، لابد من جدران. فالنص يمتلئ أيضا بالجدران التي تكررت داخل النص، حيث الحائط خلف المسز كلما أنزلت عليه البروجيكتور، الجدار الذي عثر بلياردو على جرافيتي يشبهه وبتوقيعه، جدران السجن والحمامات والمسرح والغرفة والبيت والبيوت، حتى الفواصل الرمادية بين الفصول هي، لو فكرنا، جدران عليها لافتات. مدينة من الحوائط اللانهائية تليق برواية هي، بشكل ما، متاهة فعلية ولا نهائية، لكن ممتعة.
- الجسد.. اليد القاتلة
لو كانت هذه أول قراءاتك لإمام، ولم تقرأها بعد، خذ مني هذه النصيحة، توقف. جرب أن تقرأ أولاً "هدوء القتلة" و " طعم النوم". في هدوء القتلة نجد الشخصية الرئيسية شاعراً يكتب بيد، ويقتل بالأخرى، ويبدو أن الفن عند إمام في وجه من أوجهه هو قاتل. في طعم النوم نجد إحدى الشخصيات، ليس فنانا هذه المرة، يقتل لكنه، في سياق بيت يقدم جسد المرأة، يقتل بعضوه الذكري الذي يأخذ، كيد أوريجا، شكل مسدس. نقرأ من ص 11: " بأنانية الطفل الذي خشي أن يفقده الموت لعبته، أعاد على الفور السبابة إلى يده، بالطريقة التي يخفي بها قاتل سلاحه". تلك اليد القاتلة ظلت هاجس أوريجا، وخلاصه في النهاية. ثم تنتقل السمة إلى يد أخرى، اليد المورثة، يد نود. نقرأ من ص 324: " رفعت سبابة يدها اليمنى، تأملتها للحظات مترددة، ثم صوبتها باتجاه الزجاج. أغمضت عينيها، وأطلقت الرصاصة". قدرة اليد على القتل، الذي كما قلنا شكل من المحو، تكررت أيضا مع بلياردو في خنقه للمسز، كما لو أن هذه العائلة عصابة من القتلة، الفنانون بالطبع. ولاحقاً سنذكر المسز كصاحبة ليد هي الأخرى يد قاتلة.
- رحلة العائلة المعذبة
مم تتكون العائلات؟ أب وأم وطفل. هذا الثالوث ترجم في النص إلى "ثلاث" صور: عائلة نود، عائلة بلياردو، ثم عائلتهما معاً. الثالوث العائلي هذا، ألا يوحي بشيء؟ نمط التثليث، حتى في عدد فصول النص الأساسية، حتى في أرجل المسز الثلاث، حتى في عدد نسخ العقود في مكتبها، حتى في صورة مثلث العشق "نود، بلياردو، رجل المرآة"؟ اليوم الفارق في تاريخ العائلة، اليوم الذي تبدأ منه الحكاية، أليس هو يوم " عيد الميلاد " الخاص بأوريجا، الابن؟ بل العمر الذي يشار إليه كعمر شخوص العائلة حسب كل حدث هو عمر الثلاثين؟ ألا يوحي ذلك العمر بشيء؟ تكرار كلمة " معجزة" على مدار السرد فيما يخص غرابة العائلة وعذابها، ألا يوحي ذلك بشيء؟ في أحد مشاهد الرواية، حيث نود تلتقط فيديو لشاب، بلياردو، يستمني ، كخطيئة ما، على فاترينة، نقرأ من ص 133: " سمعت وشاية صوت أنثوي من خلفها:" البت المسيحية دي معاه، وبتصوره" .. بسبب شعرها القصير الملتصق بقفاها، أو سلسلة عنقها التي يتدلى منها مفتاح حياة- يبدو صليباً". لقد اتخذت نود من هذا المفتاح" الصليب" إلهاما لتصنع منه شكل توقيعها، الذي هو جزء من هويتها، ألا يوحي ذلك بشيء؟ في موقع آخر يشير الراوي للوحة داخل الجاليري، واصفاً شكل التقاء يد المسز بيد مانجا، هي لوحة مايكل أنجلو " خلق آدم "، حيث يد الرب تمس يد المخلوق، ألا يوحي ذلك بشيء؟ من ص83 نقرأ وصفاً للمسز حسب تفكير أوريجا: "لم يعد يستبعد أي شيء من تلك المرأة التي تبدو قادمة من واقع آخر، واقع تتبدل فيه الوجوه حرفياً وليس مجازاً، واقع مواز مثل هذا الذي تتحدث عنه بالدقة والبرود الملائمين لــ "خالق" ألا يوحي ذلك بشيء؟ في ص 372 :" هذه المرأة لم تكن مجرد إنسان، إنها سلطة، سلطة نهائية وتامة، لا سبيل للنظر في عينيها.." الأوراق والقصاصات والكتب التي تسقط من السماء إلى الشخوص، وهي قادمة أصلاً من مكتب المسز؟ ألا يوحي ذلك بشيء؟ المسز، بملامحها العجوز كأنها أقدم من الزمن، بشعرها الأبيض وعصاها السحرية التي، بقدرة عليا، كانت تبث الحياة في الجمادات والأموات وتنزعها، ألا يوحي ذلك بشيء؟ في مواقع عدة خلال النص يأتي الراوي على ذكر الكنائس، ويزيح مجسمات كبرج القاهرة ولافتة الجاليري من كونها مجسمات إلى أيقونات تحمل بعداً أبعد من دلالاتها، ألا يوحي ذلك بشيء؟ خلال السرد يطرح الراوي تصوراً عن تدخل نود في اللحظة التي قتل فيها أوريجا والده، حيث حملت هي طواعية وزر القاتل بدلاً منه، أليس هذا فعل تضحية؟ ألا تشير التضحية لشيء؟ في نهاية النص يوجه أوريجا الرجل / والطفل سبابته لينتحر، أليس الانتحار، لو فكرنا، هو نوع من التضحية؟ ألا يوحي ذلك بشيء؟ تبدأ حكايات الشخوص، والماكيت نفسه بفعل هو "خطيئة" لو نظرنا له دينياً، أن تبدأ وجودك بخطيئة، ألا يوحي ذلك بشيء؟ بل الماكيت كنموذج للتكوين، يموت ويبعث، ألا يوحي ذلك بشيء؟ أعرف فيم تفكرون يا كتاكيت.
- الذاكرة
أول كلمة في متن الرواية هي "يتذكر" أوريجا.. وقفت الذاكرة كهاجس ومعضلة بالنسبة لشخوص العمل، ولغويا فالكلمة نفسها تكررت مرارا كفعل وكمصدر داخل النص، خاصة من بداية القسم الثاني، تماهيا مع حالة الفلاشباك التي ارتكز عليها النص. كان أرق أوريجا احساسه بأنه فقد ذاكرته، عكس مانجا التي كانت بذاكرتين. نقرأ هنا مقتطفات من النص عن الذاكرة:
" هل ثمة وجود لحاضر موقعه الذاكرة؟ ص 207
"حتى المحاكاة نوع من التذكر" ص 208
" كان يجد نفسه يتساءل، كفاقد للذاكرة، إن كان فعلاً اقترف ما اقترفه" ص231
" لقد محت ذاكرته تماماً.." ص 234، " بدأ يقرأ الفصل الأول آملاً في استعادة ذاكرته" ص235
وعلى مدار النص تطفو كلمات تتعلق بالتذكر، وعلاقته بالفقد، مثل يسترد ويستعيد وغيره. وفي التعقيب تظهر شخصية مانجا من أول سطر بعبارة:" يملك كل شخص ذاكرة واحدة، لكن مانجا وبخلاف البشر جميعهم، كانت تملك ذاكرتين" ص 383. والتعقيب نفسه مشحون بمعانٍ تدور حول الذاكرة وهواجسها.
- لغة النص والتغريب
مشحونة هي لغة إمام بالتشبيه والمجازات. ستجد اعتمادا صارخا على هذه الـ " كأن" داخل النص، كطريقة لخلق المعادلات. تحتفظ بمزية الموسيقى الداخلية الملحوظة في أعماله للفقرات الطويلة غالبا، والتي يمكن أن تصيب قارئاً غير صبور بالملل. هنا نلحظ الكثير والكثير من المفردات التي هي من خارج متن العربية، لكنها في سياق النص نفسه. بدءاً من أسماء الشخوص الرئيسية ( المسز، نود، بلياردو، أوريجا، مانجا) وكلمات عديدة احتفظت بإيقاعها الأجنبي مثل : جاليري، كايرو، الإنترفيو، دوبلاج، كوميكس، ماكيت، ستريتش، ديسكتوب، كوأوردينيتر، ولولا كم الخطوط الحمراء التي وضعها مصحح الوورد أمامي الآن لأكملت البقية.
أيضاً الحوارات داخل النص أخذت شكلين، حيث شكل الحوار الفصيح بين الشخوص والمسز، في مقابل الحوار العامي خارج الجاليري. بالمناسبة متى يستخدم الناس الفصحى للحوار؟ أمممم!! مع شخص يملك تفوقا ما و.. قداسة ربما! اللغة نفسها داخل النص أيضاً كانت هاجساً فيما يخص علاقتهم بالمسز، ومن خلالها كانت تبروز علاقتهم بها.
تعقيب
يُعرف عن طارق إمام نزعته للتجريب، والمغامرة في كل عمل جديد. قد يخرج قارئ يعترض "ما تجيش تجرب فيا" ببساطة، عائداً لمنطقة الكلاسيكية الآمنة، وهذا حقه. هذا التجريب المفرط صراحة من السهل أن يحجم جمهور القراء للكاتب، ليس القصد أن يكون الأمر نخبوياً، بقدر ما هو نوعي. لكن قارئاً اعتاد على هذا الأسلوب قد يتجاوب مع النص حتى لو لم يقرأ لإمام من قبل، وربما يصدم الأمر قارئاً قرأ له أعمالاً سابقة. عند إمام شغف واضح بالمدينة، ففي رواية "هدوء القتلة" ذهب إلى قاهرة أخرى، إحدى احتمالاتها، حيث الأطراف، وفي "طعم النوم" إلى مدينة أخرى (الإسكندرية) ولم تكن المدن مجرد أرضية صلبة للحدث، بل كانت أيضا موضعا للنقاش والتأمل. وكحالة أخرى من الفقد، فالنص الواعي بذاته أقر أنه رغم أن العنوان يشمل كلمة القاهرة، لكنه نذر نفسه للمركز، لوسط البلد، فاتحا المجال لماكيتات أخرى للأطراف، للعشوائيات، للقاهرة الناشئة، وكل قاهرة ستبنى وتهدم في الماضي والحاضر والمستقبل.
يطرح النص أفكاره مواجها الأضداد، الثنائيات، ومفترضاً الألوان الرمادية والمتعددة كنسق حتمي لكل شيء. لكن هذا الطرح، للمفارقة، مر من خلال التسليم بثنائيات أخرى. فالمتخيل ضد الواقعي، الموت ضد الحياة، الطفولة ضد الشيخوخة، الأبوة ضد اليتم، الأصل ضد النموذج.. وهكذا ثنائيات عدة. لكن أيضا هناك براح الرمادي والتعدد، حيث قوس قزح يظهر في الخلفية.
الطرافة مضمونة عند "إمام" دوماً. فرغم الكآبة والرمادية والسماء المعتمة لكن فيها قمر يضيء بخفر، تتسرب الكوميديا والمفارقات خلال النص، كتخفيف لحدة الأحمر والأسود والأزرق والقاتم والكالح. تتركز هذه الطرافة أكثر عند الخروج من الجاليري إلى الشارع، إلى المقهى تحديداً حيث الكابو وزبائنه. بل إن مشهداً مأساويا في الأصل هو مشهد بلياردو مع أبيه وهم في طريقهم لدفن جثمان مانيكان، يوصف بطرافة بديعة لكن مؤلمة في الوقت نفسه. وكل ما يتعلق ببيت بلياردو مشحون بهذه الكوميديا السوداء، التي تسبقها لافتة: "ابتسم، أنت في القاهرة".
يمكننا الآن أن نقول إن رواية ماكيت القاهرة، الصادرة عن منشورات المتوسط، هي رواية من طبقات متداخلة من المعاني والتأويلات والحبكات، تمنح لكل قارئ تصوراته الخاصة عن النص، الذي ظهر واعيا بنفسه تماما. وكما في كتاب منسي عجرم الذي يقرأه كل شخص من زاوية مختلفة، أو زوايا، يحمل الماكيت ميزة أن يقرأ على الدوام، لو أحبه القارئ، لاكتشاف الجديد وهي ميزة تحتاج للكثير من الجرأة والموهبة ليحصدها. أعود لأذكر بروايات إمام السابقة (هدوء القتلة – طعم النوم) ومجموعة مدينة الحوائط اللانهائية، لتقريب المسافة بين النص الحالي واحتمالات التأويل.
كلمة حق يجب أن تقال في حق منشورات المتوسط، سواء تنسيق العمل من الداخل أو الغلاف للشاعر الفنان خالد سليمان الناصري.. غلاف الماكيت من أجمل الأغلفة التي خرجت مؤخراً صراحة، ليس فقط في تفاصيله البصرية الأخاذة، بل في تماهيه مع فكرة النص من الداخل، ليستحق أن يكون باباً يليق بالماكيت. الاعتماد على الفواصل باللون الأسود بين الفصول كان اختيارا ذكياً، كما لو كانت ستائر مسرح تسدل بين فصول المسرحية الثلاث.
كل ما سبق لا ينفي عن النص كونه ما يزال محتفظاً بأسراره داخل طبقات من المعاني والأفكار. فهناك الهوية، القمع السياسي والأمني (السجن في حالة نود)، الثورة، مصابو الثورة (بلياردو وزبائن مقهى عيني)، الطبقية، الطائفية، الموت والحياة، الكبت الجنسي (ركز في حالة بلياردو والبائعات في الفتارين) وأفكار أخرى أراهن أنها مع قراءة أخرى تتكشف لي أو قد تنهدم التأويلات السابقة. لكنك مع طارق أمام في تحدٍ، بسبب لانهائية الاحتمالات، في مدينة الاحتمالات اللانهائية.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب