القائمة الرئيسية

الصفحات

محمد سمير ندا يكتب: فواز حداد يجتاز "خطوط النار" ليعاين بلاء الزمان

 



لا شك أن الروائي السوري فواز حداد هو أحد أهم الكتاب العرب المعاصرين، إلا أن الملاحظة التي أشار لها الصديق الكاتب والناقد اللبناني فايز غازي خلال مناقشتنا لرواية "خطوط النار"، منذ أيام، دفعتني إلى استهلال قراءتي لهذه الرواية بإلقاء الضوء على الكاتب قبل المكتوب.


نحن أمام قامة أدبية سامقة مُلاحَقة بالتعتيم لأسباب أجهلها. لم ينل هذا الرجل ما يستحقه من الاحتفاء في الأوساط الثقافية العربية سواء خلال إقامته في سورية حتى ٢٠١٢، أو حتى بعد اضطراره مغادرتها.


على سبيل المثال، وجدت أن روايته الرائعة "المترجم الخائن"، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر ٢٠٠٩، هي الأقل من حيث المقروئية في موقع جودريدز من بين أعمال القائمة القصيرة في تلك السنة، وكذلك روايته "جنود الله" والتي وصلت للقائمة الطويلة للبوكر ٢٠١١. الأغرب أن عملًا روائيًّا فذًا مثل "الشاعر وجامع الهوامش" نال ١١ تقييمًا فقط على موقع القراءة الأكثر انتشارًا! ورواية "خطوط النار" حازت قرابة ٦٦ تقييمًا، أما الأمر الذي ضاعف من غيظي، وأكد لي صحة ملاحظة فايز، وربما انحراف بوصلة القراءة، فقد كان ما يخص روايته قبل الأخيرة (تفسير اللاشيء)، تلك الرواية البديعة المتفردة، إذ لم تنل سوى ٦ تقييمات على جودريدز!


أعي جيّدًا أن موقع جودريدز ليس هو المصدر الأهم أو الأمثل لقياس درجة الانتشار والمقروئيّة، لكن لا يمكن بأي حال إنكار إنه مؤشر واضح، أو أحد المؤشرات الدالة على انتشار رواية ما. سوف تختلف الآراء حول قيمة مؤشر جودريدز ومصداقيته، ليكن ما يكن، ولكن: الحقيقة الوحيدة التي يجب أن تظل مؤكدة هي أن هذا الأديب الكبير الذي نشر روايته الأولى بعدما طوى عقده الرابع، يستحق المزيد بكل تأكيد؛ المزيد من القراءة، المزيد من العرض والتناول النقدي، المزيد من الترويج والتوزيع في مختلف العواصم العربية، والمزيد من الاحتفاء والتكريم.


(مثلًا: عندما يبحث القارئ المصري عن روايات فواز حداد في مصر، وهي على ما أذكر ١٦ أو ١٧ رواية، لن يجد سوى رواية أو روايتين على الأكثر)


الأمر ذاته ينسحب على كثير من كبار الأدباء العرب، مثل رشيد الضعيف وحبيب عبد الرب سروري وطارق الطيب وجبور الدويهي وأمير تاج السر وغيرهم... فلماذا لا يقرأ العرب لهؤلاء المبدعين؟ لماذا تظل أعمالًا بعينها في بؤرة الضوء، وتتراجع أعمالًا فائقة القيمة والمضمون إلى مؤخرة صفوف الرواج والمقروئيّة؟


هذا في ما يخص الكُتّاب غير المصريين، أما ما يخص كبار الكتاب المصريين ودرجة المقروئيّة التي ينالونها، فالأمر صادم بدوره..

 

في روايته "خطوط النار"، يعود الروائي السوري المهموم بالشأن العربي إلى العراق بعد "جنود الله". ويبتكر هنا مدخلا سرديًا مميّزا، فيقيم بنيان الحكاية على لقاء عابر يجمع بين الكاتب/السارد الرئيسي وطبيب نفسي أميركي، عمل في فترة سابقة مع القوات الأمريكية إبان الحرب العراقية.


 

إنه لبلاء الزمان، حينما العميان يقودهم المجانين


يهتم الكاتب بما اختزنه الأميركي من حكايات ومشاهدات من غزو العراق، ويتردد الطبيب كثيرًا حيال قبول مقترح الكاتب/السارد بقص حكايته في العراق في قالب روائي، خصوصًا حين يروي الأميركي عن فتاة عراقية كُلّف بعلاجها وتحويلها من مشروع إرهابية انتحارية (حسب رؤية قادته) إلى فتاة محبة للحياة.


ينتهي هذا الاستهلال الجاذب باتفاق بين الطرفين على كتابة مشتركة، يروي فيها الأميركي حكاية لم تغادره، يقصّها حسب اعتقاده ووفق منظوره، بينما يتدخل الكاتب العربي/السارد كراو شريك يوضح ما قد يغيب عن فهم الأميركي. في نهاية الاستهلال يتفق العربي والأميركي على سرد مشترك، وقد كان أولهما يبحث عن نص روائي جديد يستمد مصداقيته من مأساة عربية أخرى، بينما الثاني يرمي إلى التخلص من أعباء الحكاية، وربما التطهر من مشاركته في جريمة لم ينكرها، ولم يقر بها... وهكذا؛ اتفق الساردان على تجاوز خطوط النار، فما يعرفه الأميركي كاشف للكثير من خبايا الغزو، فاضح لعقلية الإدارة الأمريكيّة.


ولطالما تفرد فواز حداد في تتويج فصوله بعناوين جاذبة، هكذا هي أغلب رواياته، بل إنه قد يمنح فصل واحدًا عنوانين، أو مجموعة من العناوين الفرعية. (يوم الحساب وتفسير اللاشيء نموذجًا). وفي خطوط النار، يُعنون الكاتب فصله الأول بعبارة كاشفة عن مكنون الحكاية، معبّدة الطريق أمام انسياب السرد في ما هو قادم من الفصول: هل يمكن تحويل فتاة إرهابية تسعى للموت إلى فتاة مسالمة تحب الحياة؟


على ذات المنوال، سوف يقف القارئ أمام عتبات فصول تعلوها لافتات هامة، ممهِّدة ومعبّرة، على غرار: (الموت أنشودة تنتظر من يطلقها)، و(كم تعتقد أنني أساوي في سوق الخطف؟)، و(ماذا تكون هذه الإنسانيّة؟)، و(لماذا كان العار أشد عذابًا من الاغتصاب؟)، و(كيف تأتّى كل هذا القتل من قلب ذاك الركود الروحاني؟)، و(نحن الجنون الذي سيصنع العالم الجديد)، ونهاية بــ (ما دام الظلام يسترني).


هنا مربط الفرس، فالقالب الرئيسي للرواية يتمحور حول حادثة اغتصاب تقوم في ظاهرها على اغتصاب مجموعة من الجنود الأمريكيين لفتاة عراقية هي "بثينة"، بينما يتسع الإطار العام ويتمدد حتى يصوّر مشهدًا جنائزيًّا جليًّا لاغتصاب وطن بأكمله. ثم تنزاح الطبقة الأولى من الحكاية، لتكشف عن الإطار الحاوي للسؤال الأشد خطورة؛ هل يمكن تبرير الاغتصاب، وتمريره كحادثة عابرة لها أسباب وتفاسير تقوّض من وقعه وأثره؟ من الضروري هنا وضع السؤال بين قوسي يجمعان بين بثينة والعراق في تناص واضح، فإن نجح الطبيب في تبرير الاغتصاب، هل ينطوي ذلك على ثمّة تبرير للاحتلال؟


نتعرف خلال أحداث الرواية على ثلاثة أشخاص محوريين، الطبيب "كيللي"، والفتاة المنتهكة "بثينة"، والمترجم العراقي "أبو سعيد" الذي ينبري لترجمة الحوار المتبادل بين الطبيب والضحية. كان أبو سعيد يترجم الحوار بداية، لكنه مع تعاقب الفصول، راح يترجم الأفكار والقناعات ويفند الاختلافات بين ثقافتين متعارضتين. وفي رأيي أن فواز حداد قد أجاد رسم الخطوط العريضة للشخوص، لم يهتم كثيرًا بتظليل أبطاله بحيث نتعرّف على الخلفيّات التي شكّلت القناعات التي تحرّك كل منهم اليو. على سبيل المثال نحن لم نعرف الكثير عن التاريخ الشخصي للطبيب الأميركي، وربما أراد الكاتب أن يمنحه بهذه الضبابيّة درجة من العمومية والشيوع، فهو فقط نموذج للأميركي الذي يعمل في العراق مع قوات الاحتلال، إلا أن الطبيب (كيللي) سوف يشرع في مراجعة كل نظرياته وقناعاته الإنسانيّة والعلميّة بصور تصاعدية تتسق طرديًّا مع اقترابه من "بثينة"، وتعرفه على تفاصيل مأساتها. 


برع فواز حدّاد كثيرًا حين تفادى شيطنة الأمريكان في العموم، فهو كما قدم النماذج الفاسدة في صفوف القادة والجنود، قدم لنا أميركيًّا يقدر على فهم الاختلاف وإعادة صياغة أفكاره، تمامًا كما قدم لنا شخصيّة الجندي "بيرنز" الذي انتُدب الطبيب أساسًا لعلاجه من ميول انسحابيّة وانتحاريّة نعرف أنها تتفشى بين الجنود الغزاة؛ فقد كانت القسوة والوحشية التي يمارسها الغاصب ضد المواطنين تجاوز قدرة التحمل لدى الكثيرين. أظهر فواز حداد المحتل الأميركي كجسد له عقل فاسد، وأطراف قاسية جامدة، لكنها -تلك الأطراف- لا تلبث أن تتراخى وتتحارب رافضة الامتثال لكل الإشارات التي يبثها الدماغ.


أما بثينة، فهي الوطن الذي اجتاحته أجساد الغرباء، هي التي تستقبل مُكرهة غزو الجياع القادمين من الغرب المتحضّر في ظاهره. هي الفتاة العربية التي تجرجر أذيال العار وتحار في تفسير مسميّات الإنسانية ومبررات العيش حتى تقف أمام عرش الرب مستجوبة إيّاه عن أسباب تخلّيه عنها. "بثينة" هي السؤال المحوري الذي تطرحه الرواية؛ هل تقدر الفتاة/الوطن على مواصلة الحياة بعد كل ما كان من اجتياحات وانتهاكات؟ 


من خلال بثينة؛ نشهد انصهار قشرة الحضارة الزائفة فوق جسد الضحيّة المثخن بالغدر، فتفوح روائح الزيف من سوائل الغزاة ورؤوسهم المحشوّة بنزعة عَظَمة كاذبة. 


وفي رأيي؛ كانت شخصية أبي سعيد هي الأفضل من حيث البناء والدافع والتطور والتحول، فعلى الرغم من أن حبكة الرواية الرئيسية تدور حول جريمة إنسانيّة في حق فتاة لا يقبل عقلها الرضوخ والاستسلام لهذا الانتهاك، فإن تعاطفي كقارئ انتحى تدريجيًّا إلى أبي سعيد، حتى قبل الفصول الأخيرة. أحببت هذا الرجل الذي تعاون مع الاحتلال على مضض بغية توفير قوت بناته؛ تفهمت دوافعه. ثم أدهشتني محاولاته لإيجاد صيغة تفاهم بين الغاصب والمغتصب، وأعجبني انحيازه إلى الجانب الإنساني في النهاية، حتى بلغ من مراتب التنوير والإدراك ما أهّله لاتخاذ قرار مصيري حاسم. الأمر الذي ترك أثرًا كبيرًا في نفس الأميركي الحائر والمتبدّل، وجعله يغادر بغداد شخصًا مختلفًا عن ذاك الذي نزل بها.


من خلال المترجم أبي سعيد، يسبر الطبيب "كيللي" أغوار الحياة في العراق، ينغمس في حياة مدهشة زمخيّرة في تفاصيلها الروحانيّة والعقائدية والثقافية والحياتيّة، ويلامس المعتقدات بكل بداوتها وقداستها. 


بتعاقب جلساته مع بثينة، ينزع الطبيب عباءة الغازي، ويقترب إنسانيًّا من فتاة يُراد منه إقناعها بمواصلة الحياة، ولو من خلال تبرير الاغتصاب والتسفيه من آثاره النفسيّة المدمرة، يشاهد الجريمة التي تنساب تفاصيلها بصعوبة من عيني الفتاة الصموت، يدرك حجم المأساة التي اشترك مع قادته في رسم خططها. يحب أبا سعيد، يقترب منه، يتصادق الرجلين رغم كل المشاحنات التي اعترت لقاءاتهما الأولى، وينتهي به الأمر إنسانًا، مجرد إنسان بلا هويّة سياسيّة أو دينيّة أو قوميّة، محض إنسان يُفجعه موت صديق بات مُقرّبًا، فيقضي الليل إلى جوار الجثمان، ويمرر ساعات الانتظار في تفنيد المُجريات والأحداث، وإعادة ترتيب حقائب ذاكرته التي اكتظت بالدم والبارود خلال الشهور الأخيرة، وتلك الأفكار التي هبط بها في بغداد، قبل أن يغادر مدينة شارك دون قصد في نهبها وقهرها، بعد أن يبدّل كل حقائبه.


تنقل الرواية عبر صوتين متداخلين في النسيج السردي، متوازيين على الصعيد الفكري، مواجهة هامة وضروريّة بين ثقافتين، ثقافة الغرب المحتل، وثقافة الشرق الواقع بين فكوك الغزو والطائفية والتعصب والتناحر. بيد أن هذا النص يصوّر ببراعة محاولة الغاصب تبرير الاحتلال وسوق الدوافع والأسباب التي من شأنها اعتبار الأمر عابر ووارد غير عميق الأثر من خلال محاولة الإدارة -عبر الطبيب "كيللي"- تبرير اغتصاب بثينة وإقناعها بالتغاضي عن الأمر وقبوله تحت شعار وتحويلها من فتاة راغبة في الموت - كمشروع انتحاريّة- إلى فتاة راغبة في استكمال الحياة. 


لغة الرواية بسيطة وإن حملت العديد من الأسئلة الفلسفية التي تستجوب المفاهيم، عن الوطن، والحق، والإنسانيّة، والموروث الروحاني، والتعصب، والتحليل والتحريم، وإلباس الباطل ثوب الحق.


كانت الإدارة الأمريكيّة تسعى جاهدة إلى تحويل دوافع الانتحار من دينيّة إلى إنسانيّة. أن تجعل الأمر مرتبط باعتلال نفسي لا غيرة على دين أو عرض أو أرض. 


وبذات المنطق البراجماتي الغربي، كانت هذه الإدارة تخشى أن تنتشر أنباء تفشي اليأس وشيوع الانتحار بين جنود الغزو، كانت تسعى إلى علاجهم، أو إعادتهم، ولا تمانع موتهم إن تم خارج خانة الانتحار. لا يهتم القادة لو مات الجندي "بيرنز"، لكنهم يهتمون بتبرئته من جريمة اغتصاب "بثينة" رغم اعترافه به ورغبته في التكفير عن ذنوبه.


أحببت كثيرًا هذه الرواية، كما أحببت كل ما قرأت لفواز حداد. رواية مختلفة لكاتب سوري يغوص في مأساة العراق، ينسج حكايته على نول المأساة، لكنه لا يرمي إلى كتابة نص رثائي عامر بالبكائيّات، بل يمضي إلى قلب المعضلة، يفند الأفكار المتعارضة والمتناحرة، يجرّم الحرب، يدين الجائر والمتخلف، ويتعاطف مع الضحايا كلهم دون انتقائية أو انحياز. عمل روائي أتمنى أن تتم ترجمته إلى ما اللغات ليوسع نطاق معرفة العالم بهذه البقعة المنكوبة من العالم. 


عن تزييف الواقع، عن تبرير الكارثة وتمرير الجرم المشهود، عن صناعة المشهد الإعلامي، عن الغاية التي تقتل كل منطق وتبرر كل طرائق الشر، عن استباحة وطن تحت مسمى التحرير؛ حكى لنا فواز حداد حكاية "بثينة"، الوطن الذي انتُهك، الأرض التي حاولوا اقناعها بقبول اجتياحها، لكنها تفرز من رحم الظلمة نورًا، فبثينة سوف تقرر الحياة، ستقرر أن تعيش، ستظل فتاة ناقمة، غاضبة، لكنها أبدًا لن تتحول إلى انتحارية.


رغم كل شيء، ستواصل بثينة العيش، دون الحاجة إلى العلاج الأميركي.. وهكذا سينجو العراق...


اقرأوا لفواز حداد، كرّموه، واحتفوا بالأدب الحقيقي الذي يقدمه منذ عقود... تعرّفوا على المترجم الخائن، على الشاعر وجامع الهوامش، على جنود الله والسوريون الأعداء، عودوا إلى دمشق ٣٩، وتياترو ٤٩، طالعوا تفسير اللاشيء، واستشرفوا يوم الحساب..


للتواصل مع الكاتب من "هنا"

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات