القائمة الرئيسية

الصفحات

في محراب محمد إسماعيل.. "باب الزوار" ومدخل إلى تشرذم النفس


خميلة الجندي


نكتب لنهرب من الواقع، ونكتب لنواجه المستقبل، ونكتب لأن في الكتابة ترياق للنفس العليلة، ونكتب لنجعل للأشياء معنى، ونكتب لنؤرخ، ونكتب لنسافر لعوالم تراثية أو عجائبية، لكن نادرًا ما نكتب وترسخ كلماتنا في نفوس القارئ، وتُحدث في نفسه فارقًا، وتضيف لعلمه أبعادًا، وتجعل وجدانه روحًا شفافة نافذة إلى الآخر. نادرًا ما نلتقي بكاتب يدفعنا إلى قبول الآخر، بل والتعاطف معه، وأحيانًا مناصرته. وإلى هذا الآخر قدمنا محمد إسماعيل عمر في روايته الأولى "ما حدث في شنجن"، إلى آخر شرقي، ربما أكثر شرقية منا، ولكن لِمَ لا نقبله؟ 


في الدراسة الأكاديمية يؤكد الأساتذة ويشددون على البحث عن الأسئلة ثم إيجاد الإجابات، فلا نقدر أن نطرح سؤالًا دون إجابة، ولا داعي لطرح سؤال مكرر. لكن في الأدب نرتاح أكثر لطرح الأسئلة دون الإجابات، وعلى القارئ الإجابة، أو ترك السؤال عالقًا للأبد. وعلى تلك الأسئلة تحديدًا يعوّل إسماعيل في حبكته الأولى. أما الثانية.. البديعة، جملة، وموضوعًا، رواية "باب الزوار"، الصادرة حديثا عن دار العين، فلا يمكن الحديث عنها باقتضاب. 


تدور أحداث رواية "باب الزوار" في الجزائر، بلد المليون شهيد، التي لا نعرف عنها الآن أكثر من العداء الأزلي بين جماهير الكرة المصريين وأقرانهم الجزائريين. ربما بعضنا له من الثقافة ما يكفي ليعرف عنها المزيد من أيام حرب الاستقلال في الستينيات. ولكن حديثي هنا اختص به - ولا أعمم - الشريحة الكبرى التي لا تعرف الكثير عن بلد عربي. الحبكة في "باب الزوار" تستهدف الحديث عن حقبة منسية من تاريخ الجزائر، حقبة لم أسمع عن التعرض لها من قبل في الكتابات، وخاصة أن الكاتب المصري والعربي يهتم أكثر إذا تحدث عن غير موطنه، أن يكتب عن فلسطين وقضيتها الكبرى المسيطرة على الوجدان العربي منذ عقود. 


من هنا نفذ إلينا "إسماعيل"، من فترة التسعينيات القاتمة، وما لحقها من تبدل كامل في صميم الوطن الجزائري، وفي وجدان شعبه. تلك الفترة التي تشبه في مصائبها ما شهدته لبنان في الحرب الأهلية المريرة، وتتسق تقريبًا مع ما تكابده سوريا الآن في سنوات اللاسلم واللاحرب. أما البديع في الحبكة، فيُذكرني بأمين معلوف الفرنسي اللبناني، ويُذكرني ببراعته في تمرير الأحداث التاريخية والسياسية.


يقدم لنا إسماعيل قصّ تاريخي من الدرجة الأولى، ولكنه يرفل في حلة اجتماعية بهية، وهكذا تصبح روايته ليست مرجعًا تاريخيًا ممل - خاصة وأن الرواية التاريخية دائمًا ما تثير البلبلة ما إذا كانت مرجعًا للتاريخ، أم مجرد عمل أدبي لا يصح الاستناد إليه. وترتقي براعته إلى حد يجعلني أؤمن أننا أمام انطلاقة جديدة لكاتب سيصير يومًا من "صائدي الجوائز"، حين تُمعن التحليل السريع للرواية فتفكر كيف كثّف إسماعيل تلك الحبكة الطويلة، كيف ربط بلجيكا، بالجزائر، وبقت فرنسا في الخلفية لا تختفي، كيف أظهر الشخوص العديدة دون أن يفلت من بين أصابعه خيط لشخص واحد، ليقدم لنا في تكثيف مثالي، ووتيرة لا تهبط فتحبطك، ولا تتصاعد فتحبس أنفاسك، هذه الوجبة الدسمة، وهذا اللقاء البديع مع لمحة من لمحات التاريخ تشي لك بحقائق أفضل ألّا أعرضها وأترك لكل قارئ استنباطها، ولكن على الأقل حقائق ثابتة ثبات الزمان، ومتكررة دائمًا لأنه - الإنسان - لن يتعلم قط من أخطاء التاريخ. 


في "باب الزوار" التي هي بلدية من بلديات الجزائر العاصمة، يصحبنا إسماعيل مع بطله المصري وبطلته الجزائرية، إلى قلب صراع نفسي عتيد. أمامنا المصري الذي يطرح سؤالًا - دون قصد - غير مباشر: ما هو الوطن؟ وكيف نحدد هويتنا؟ ماذا دفع بطل إسماعيل ليختار العودة للجزائر في أيام الخوف والاضطراب، بينما وطنه آمن؟ مزيد من الأسئلة، وعندها تدرك أن محمد إسماعيل "مشروع مخضرم" وليس كاتب هاوٍ. أديب يعرف جيدًا أن يتسم بمميزات يتفرد بها عن البقية. فتجده يكرر أنماط بعينها، ليس فقط نمط المزج بين جنسيات مختلفة، ربما بعضها لا يقبل الآخر، ولكن أيضًا نمط التساؤل. لماذا؟ كيف؟ والأهم أيمكن أن أعيش في رداء أحد أبطاله ذات يوم؟ في مقارنة سريعة أعقدها بين المصري في "شنجن" والمصري الآخر في "باب الزوار" أجد كلاهما متخبط، رغم أن كلاهما ينتمي لجيل ومرحلة عمرية مختلفة وبالتالي فكر مختلف. مع ذلك، كلاهما يبحث عن شيء. 


وفي رحلة بحثه يتعثر في المزيد من الأسئلة. أنا لم أفهم أبدًا حتى الصفحات الأخيرة لماذا هجر البطل حياته بأكملها المستقرة في مصر، وعاد إلى الجزائر؟ وربما البطل نفسه لا يفهم، ولكن ألسنا نحن البشر نعتزم - كثيرًا - فعل أمور لا نفهمها؟ وأليس البطل على الورق هو - بالتأكيد - جزء لا يتجزأ من النفس البشرية الحية بيني وبينك؟ ثمة صراع آخر في نفس بطلتنا الجميلة، تعاني منه جُل البنات تقريبًا في زمننا هذا، وتمتلئ صفحات التواصل الاجتماعي لأساتذة علم النفس الكِبار بتعليقات في هذا الصدد: ما جناه عليّ أبي. لكن هنا.. وهنا تحديدًا نقطة بديعة أخرى لا يمكن ألّا تترك في نفس القارئ أثر طويل ربما سيلزمه للأبد: أكان الجاني أبي؟ أم أمي؟ وفي كلتا الحالتين فالتمزق الواضح في نفس البطلة قدّمه لنا إسماعيل بألفاظ وأحداث رشيقة، والتبدل الجلي في المواقف - والتي اتسمت به أغلب الشخوص - لم يكن صافعًا، بل مُهّد له، كما تُغلى القهوة على نارٍ هادئة. 


تلزمني الضرورة ألّا أحرق على القارئ متعة قراءة هذا العمل الجديد الفذ، لذلك سأعزف تمامًا عن ذكر ما رأيته من رمزيات في العمل لأنني ببساطة بهذه الطريقة سأؤدي لكشف أوراقه أو كما نقول "هحرقه"، ولكن لا يمكن ألّا أمر، ولو مرورًا عابرًا على ذكر ما قدمه لنا "إسماعيل" من رمزيات. حين تدلف من "باب الزوار" لن تقابل فقط رمزية القديس الماجن، أو العاهرة الشريفة، أو النفوس التائهة، بل هناك رمزيات أعمق وأجلّ، رمزيات مجهولة يقدمها لك هذا القاص المجهول، الذي أود - لو كان في وسعي - لو عرفت اسمه على الأقل، والذي سيضنني بما قدمه لي من معلومات، وما مثله لي من رمزيات غيّرت الكثير في فكري، وألقت الضوء على مجاهيل كثيرة لم أفهمها لسنوات، وها هو مجهول إسماعيل يكشف لي إياها بوضوح وقح صفعني دون هوادة. 


أما عن الكاتب، فكما يتسم بالتكثيف البديع، سأقول عنه بتكثيف - لن يرتقي لمهارته - أنه مشروع فذّ، وكاتب هائل المعلومات، بديع الصياغة والسرد، فطن لجوانب النفس البشرية، موجز القص عن الوطن ولكن بإيجاز كافي لإرباكك، يشبه كثيرًا قارئه، يعرف عن الدول ما يكفي ليقدم لنا سلسلة بديعة من الحكايا، وأخيرًا يعرف جيدًا لماذا يكتب. 



author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق
  1. ريفيو محنك ومشوق جدا للرواية كما هو العهد بكاتبتة .. أحسنت أستاذة خميلة

    ردحذف
  2. اهتمي اكثر بسلامة اللغة استاذة خميلة. وليس هناك عداء بين جماهير الكرة المصريين والجزائريين بدليل مساندة المصريين لهم في كاس افريقيا التي جرت مؤخرا، وقبلها جرت كاس افريقيا ونالتها الجزائر في مصر نفسها وفي اجواء اخوة.

    ردحذف

إرسال تعليق

شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب