القائمة الرئيسية

الصفحات

"اللعبة القديمة".. قصة جديدة لـ شيرين فتحي

 


لا تعرف ما الذي جعلها تتذكره الآن، لم تره من قرابة عشر سنوات. لكنها شعرت بحاجة ماسة لممارسة تلك اللعبة القديمة التي طالما لعباها معا أيام الطفولة. حصلت على رقم هاتفه من صديقة قديمة.. كانت متأكدة أنه لم يكن لينساها بسهولة على أية حال. 


بالفعل تذكرها بمجرد ما نطقت باسمها الأول في بداية المكالمة، اتفقا بسهولة على موعد للقاء بعد تبادل أسئلة كليشيهية عن الحال والأهل، لم يجد صعوبة في الوصول إلى بيتها القديم الذي طالما عرج إليه في طريقه إلى مدرستهما المشتركة، التي ظلا فيها حتى نهاية المرحلة الثانوية. تغير مدخل البيت قليلا، اختفى إصص الزرع ورائحة الريحان التي طالما أنعشته حتى من قبل محاذاته للباب كل صباح. رغم نظافة الدرج إلا أن الدرجات فقدت لونها الأصلي، ربما لم تتكوم فوقها طبقات إضافية من الأوساخ، لكن على العكس فقدت طبقات لامعة من طبقاتها الأصلية فبدت ذابلة وهشة، حتى أنه شعر ببعض الذنب لضغطات حذائه فوقها.

 

وصل أخيرا إلى الطابق المعنيّ، تذكر الباب الذي طرقه مرتين أو ثلاث في الصغر، الباب الأول على يمين الدرج، كان يعرفه من رسوماتها الطفولية التي ضاع أثرها تماما مع تفتت القشرة الخارجية للباب، الذي انفتح بمجرد ملامسته للجرس.


ـ تفضل.. قالت مزيحة إحدى ذراعيها للخلف كعلامة ترحيب


لم يتخيل أنه سيشعر بكل هذا الارتباك الذي ألمَّ به بمجرد الدخول، رغم أنها عاملته بألفة كما لو أنهما لا زالا يتشاركان الطريق ذاته إلى المدرسة.


حملت صينية عليها فنجانا مضبوطا من القهوة كما طلبه.. بعد فترة من الصمت.. قالت له بنبرة شديدة الجدية: أريد أن ألعب لعبتنا القديمة، تحرك كفه تلقائيا متحسسا أحد جانبي وجهه قبل أن ترتسم الدهشة على بقية ملامحه.

ـ أتذكر؟ سألته مبتسما

في العاشرة من عمريهما كانا.. حين سألته في مرة عما يعكر مزاجه

ـ لا أستطيع أن أبكي

ـ ولماذا تريد أن تبكي أصلا؟ سألته

ـ مررت بيوم سيء ليلة أمس.. انتهى بكوابيس مزعجة طاردتني حتى الصباح

وكنت كلما واجهت أمرا سيئا أختلي بنفسي وأبكي قليلا، حتى يتحسن مزاجي وأعود لاستئناف الحياة كأن شيئا لم يكن.

ـ بوسعي أن أجعلك تبكي

ـ كيف؟

سأصفعك حتى تبكي


صفعته ثلاث صفعات في مدخل البيت قبل أن يركض ويختفي تماما من أمامها. لم يشكرها في الصباح التالي وتعمدا أن يتجاهلا الأمر كأنه لم يحدث.. حتى لجأت له في مرة لنفس السبب.. بعد عدة أشهر كانا يتصافعان مرتين في الشهر على الأقل ومن يبكي منهما أولا فهو الخاسر.. لم يحسبا أبدا، من منهما ربح أكثر من الآخر... لكن ظلت اللعبة أكبر سرٍّ تقاسماه معا.


ـ ما رأيك؟.. أعادت عليه السؤال أكثر من مرة كي تفيقه من الذكريات التي أخذته بعيدا عن الموقف الذي هما بصدده الآن.


نحى الفنجان جانبا.. قام متباطئا من مقعده حتى اعتدل واقفا قبالتها بالضبط.. بدأت تذكره ببعض قوانين اللعبة خشية أن يكون قد نسيها.


ـ لا كلام أثناء الصفع. اضرب بكل قوتك.. الضارب لا يتكلم

ـ المضروب فقط بوسعه الكلام

ـ لا أحد بوسعه الانسحاب قبل انتهاء اللعبة

ـ تنتهي اللعبة بمجرد البدء في البكاء


بعد ثلاث صفعات لم يهتز لها جفن ولا شفاه.. كانت كما هي بالضبط قبل دقائق.. ثابتة تماما كما لو أنها شجرة نبتت في جوف غرفة المعيشة.

الصفعة الرابعة: بدأ يرتبك، لكن قوة كفه صارت أفضل

في الخامسة بدأت تتكلم:


ـ فقدتُ أبي قبل سبعة أعوام.. انقلبت به السيارة.. ظل ينزف لستة أيام متتالية.. كنا نتبرع له بالدم بالتبادل أنا وأقاربي وبعض المعارف لكن دون جدوى.. ظل لونه يشحب حتى انطفأ تماما.. لا أزال أشعر بغضب لا أول له ولا آخر لأنه مات.

- في السادسة لم تبكِ

في السابعة: وأمي الآن بدأت تموت أيضًا.. منذ عامين بالضبط وهي تموت.. فقدت أعضاءها واحدا تلو الآخر.. ضعف النظر ثم السمع.. فقدت قدرتها تماما على الحركة.. تتلقى الطعام في أنبوب تغذية يمرر الطعام المهروس إلى معدتها مباشرة دون أن تشمه أو حتى تتذوقه.. حتى الكلام بالكاد تنطق، لم أعد أعرفها.. تحولت إلى هيكل هش كل ما أرجوه أن يظل يتنفس بانتظام.

- من الثامنة للعاشرة التزمت الصمت

في الحادية عشرة: لا أريد أن أمر بتلك اللحظة مجددا

في الثانية عشرة: لا أريدها أن تظل تتألم

في الثالثة عشرة: ولا أريدها أيضا أن تموت

في الرابعة عشرة: لماذا لا أموت أنا؟


في الخامسة عشرة تكلم هو:

منذ ثلاثة أعوام كنت مسافرا للعمل بالكويت.. بعد سفري بعدة أشهر أخبرتني شقيقتي عن مرض أمي المفاجيء.. لكني لم أتمكن من الحصول على إجازة لتنقلي المتكرر ما بين عدة شركات.. أصيبت بالزهايمر.. الأطباء أخبروا شقيقتي أن المرض لا شفاء منه، وأن الأدوية لن تعيق تقدمه.. لكنها فقط تبطيء من سرعته في إتلاف خلايا الذاكرة والمعرفة.. حصلت على إجازتي أخيرا بعد خمسة أشهر.. لكن المرض كان قد مضى بها أسرع مما تخيل الأطباء.. من يومها وطوال تلك الأعوام الثلاثة وهي لا تريد أن تصدق أنني عدت ورغم أنني لم أتركها ولو ليومٍ واحد، إلا أنها لا تزال تحلم بعودتي كل ليلة.


- في السادسة عشرة لم تبكِ

في السابعة عشرة بكى وانصرف دون أن يعرف أنه كان سيربح لو تمالك نفسه للصفعة التالية لأنها بعد الصفعة الثامنة عشرة كانت ستبكي بعدما تخبره أنها في حاجة ماسة للعناق.


- خسر اللعبة وانصرف ولم يعرف.


للتواصل مع الكاتبة من "هنا"، أو من خلال التعليقات

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات