القائمة الرئيسية

الصفحات

حظر نشر.. ضحايا التحرش بين قسوة المجتمع ونفوذ المتحرش

 


زهراء إسماعيل


طبقًا للإحصائيات فإن مصر تقع في مرتبة متقدمة بين  الدول التي تكثر بها حالات التحرش، تخبرنا الإحصائيات ذاتها أن غالبية المتعرضات للتحرش يتجنبن الإعلان عن وقائع التحرش، سواء ببلاغات رسمية للجهات المختصة أو حتى كنوع من الشكوى والمشاركة المعنوية أو بحثًا عن المؤازرة، فالمجتمع جاهز دومًا لوصم الضحية بأنها المتسببة في هذا الجرم، مجتمع يصم الضحية بعار شبه أبدي، فكان السكوت خيارًا أمثل لغالبية الضحايا.


حتى أن السكوت طال الألوان الأدبية التي يفترض أن تعبر عن قضايا المجتمع أيا كانت، حتى أتت هذه الرواية المميزة للكاتب هيثم دبور، والتي تدور أحداثها كاملةً عن القضية الأصعب.. "التحرش"، دون خوف من تقييمات قاسية أو إدانات بإثارة الجدل للدخول في عش الدبابير ومناطحة السلطة.


فبطلة الرواية "الدكتورة منى"، الجامعية المرموقة ذات العقل المستنير، والمستقبل الواعد، والمبشر للغاية بكل ما هو جميل في حياتها، والتي تسير حياتها بوتيرة هادئة بين الاستعداد لزواجها من المصور المشهور "مازن"، وبين رعاية والدها رجل القضاء المتقاعد، والذي تفتك به أمراض الشيخوخة وأبرزها "الزهايمر"، بالإضافة إلى أنها مجتهدة ومثابرة، وتعمل في إحدى الوزارات المهمة والحساسة بالنسبة للمجتمع، تعرضت لحادث تحرش.. ومن الوزير ذاته!!


وهنا يبدأ الصراع مع أولى صفحات الرواية، فالوزير بطبيعة الحال يمثل الحكومة، بسبب تقلده وزارة ذات ثقل لدى البسطاء "نتعرف عليها ضمنيًا حيث لم يسمها الكاتب"، فكان لا بد من التكتم الشديد ومعالجة الأمر بمنتهى السرية، ولو وصل الأمر إلى قرار من النائب العام بحظر نشر كامل للقضية بعد بلاغ من الضحية التي تنتمي إلى طبقة البسطاء، في سابقة معتادة ولكنها ذات توقيت قاتل للضحية، فدكتورة منى قررت المواجهة والإبلاغ عن الوزير بأبسط وأصعب طريقة ممكنة في آن، وفي المؤتمر الصحفي الذي يعلن فيه الوزير عن واحد من أهم اكتشافاته، وصلت رسالة إلكترونية لجميع الصحفيين في المؤتمر، وكانت الصدمة للجميع والفضيحة العلنية الأكبر وغير المتوقعة تمامًا.

 

تدور أحداث الرواية في خمسة أيام لا غير، نرى فيها بعيون الشخصيات انهيار وتغير عالم كل منهم في سويعات قليلة، فدكتورة منى تواجه حربًا شرسة من المجتمع، وأولهم "حماتها المستقبلية"، التي تدافع عن ولدها، وتفند اختياره، وتقرر عدم دعم منى ولو بالتضامن النسوي، منى التي تجد نفسها فجأة في مهب الريح سوى من القلائل، كان منهم أحد رؤساء التحرير الذين عملت معهم مسبقًا، يقرر نشر شهادتها كاملة قبل أن يفاجئه قرار حظر النشر، العقوبة جاهزة بالسجن لمن يجرؤ على خرق القرار، منى التي تحاول بكل الطرق الوصول إلى حل يبعد عنها وصمة المجتمع، ويعيد لها حقها طبقًا لقانون لا يرى ما يحدث في الغرف المغلقة، في الوقت ذاته تحاول درء التهمة الجاهزة لضحية التحرش من مجتمع "متدين بطبعه"، تهمة "التحرر والتشجيع"، فكان الحل بسيطًا ومركزًا، ومفاجئًا للجميع.


و"مازن"، خطيب منى المصور الناجح الذي يشار له بالبنان، يجد نفسه فجأة في مهب رياح قاسية بين صدمته لما حدث لمحبوبته، ومحاولته السريعة لإصلاح الأمر والمساندة بطريقته الخاصة، الحرب الشعواء والدنيئة التي شنها الوزير عليه بمعاونة "صابر"، اليد القذرة له طوال فترة عمله، كيف يواجه مازن الذي انهار عالمه في يوم واحد كل هذه الضغوط؟ وما هو المخرج من كل هذا؟


الأسوأ من اليوم الذي لم تعد الحياة بعده كما كانت من قبل.. هو أن يكون الغد أيضاً كذلك.. وبعد الغد.. توهم المرء بأنه لن يمر عليه أسوأ مما مر، فيلوح له الأسوأ بيده مبتسماً إبتسامة عريضة.


الوزير "عبد الله"، الذي نتعرف على أبعاد شخصيته كاملة عبر أحداث الرواية، نرى تقلب شخصيته من النقيض للنقيض على مدار السنوات، كيف وصل إلى منصبه؟؟ كيف يواجه التهمة المنسوبة إليه ولو صدر لها قرار بحظر النشر؟ هل تسانده الحكومة أم تتركه في مهب الريح؟ ما هو تأثير كل ما يحدث على بيته وأسرته؟


العديد من الشخصيات الرئيسية والفرعية، أجاد الكاتب وصف أبعادها النفسية، وأهم الأحداث في حياتها بدون تطويل زائد أو اختصار مخل، مستخدمًا أسلوب "الفلاش باك" في مشاهد محددة توجز الأمر، في نقطة قوة للراوية التي جاءت مركزة وسريعة في آن، جاءت بعض المشاهد درامية للغاية بعضها تقف أمامه سويعات للمتعة، سويعات للتفكير كما حدث في مشهد د.منى مع ساعي الوزارة، لن أنسى ما حييت مشهد الأب في لحظة تجلي وصحوة مفاجئة مساندًا ابنته الوحيدة في أزمتها، يبقى الأب هو بطل ابنته الأول ولو أقعده المرض وأفقده الزهايمر أغلب ذكرياته، يبقى دومًا مساندًا طوال حياته.


كما جاء مشهد المؤتمر الصحفي الأخير مهيبًا "ماستر سين" كما يجب أن يكون، بين تردد مازن وخوف منى من الهجوم المتوقع عليها، لحظات الطمأنينة الأولى والختام المثالي للمؤتمر، مشاعر إنسانية متباينة ومتلاحقة بحق، مشهد رائع.


جاءت لغة الكاتب سلسة بسرد فصحى قوي وحوار أغلبه باللهجة العامية المصرية يشوبها بعض الفصحى، اعتمد الكاتب أسلوب التشويق على طول فصول الرواية فأجبرني على التهام فصولها للوصول للنهاية غير المتوقعة تمامًا فحافظ على تركيزي الكامل من أول لآخر صفحة، أجاد الكاتب ربط الرواية المعاصرة بأحداث "ألف ليلة وليلة"، ببراعة شديدة وبدون حشرها، بل جاءت بشكل طبيعي ومتناسق مع الأحداث.


ربما أهم ما يميز الرواية من وجهة نظري كفتاة، هي اهتمام الكاتب وإجادته الشديدة لوصف مشاعر الضحية، صدمة الحدث الأولى في ظل عدم توقع تام من منى بأن يصدر مثل هذا الفعل الدنيء من شخص بعقلية وقامة الوزير المبجل، رد الفعل الأول بالصراخ الذي كُتم سريعًا، الحيرة وكره الذات، التخبط بين قرار الإعلان ومواجهة عار مجتمع وتهمة جاهزة أو السكوت وكره جسدها لما تبقى من حياتها، صدمتها في شريك حياتها المستقبلي، عالمها الذي ينهار  بشكل مفاجئ، حتى حيرتها أمام دموع ابنة الوزير وتشتتها الكامل بعدها، ومشهد المؤتمر والختام.



 مشاعر عاصفة وضغط نفسي وصفه الكاتب بشكل مبهر وأخيرًا، من أبرز نقاط قوة الرواية هو خلوها بالكامل من أي مشهد فج، رغم مناقشتها لقضية شائكة وموضوع حساس للغاية إلا أن الكاتب استطاع  مواراة المشهد الرئيسي وأسهب في وصف مشاعر الضحية والتركيز على وضعها النفسي والاجتماعي بدون أن تنقص الرواية شيئاً ما، فجاءت رواية قوية بدون مشهد قد يجرح الكثير من ضحايا التحرش أو يثير غريزة البعض، رواية اجتماعية بامتياز، استمتعت بها للغاية.


للتواصل مع الكاتبة من "هنا"، أو من خلال التعليقات

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات