القائمة الرئيسية

الصفحات

اغتيال نجيب محفوظ.. عندما طرق الموت باب منزله فأنقذه ضعف السمع

 


فاطمة عاهد

في تمام الخامسة من مساء يوم الجمعة الموافق 14 أكتوبر 1994، ارتفع صوت رنين هاتف منزل الأديب الراحل نجيب محفوظ، ليعلن عن اتصال هاتفي من صديقه الطبيب البيطري جمال هاشم. مكالمة لم تستغرق دقيقة واحدة مفادها استعداد الأخير للمرور بمنزل "محفوظ" الكائن بالعجوزة؛ ليأخذه إلى الندوة الأسبوعية مع "الحرافيش" بكازينو قصر النيل كعادته.


بسيارة "فيات" 128 حمراء اللون وصل الدكتور جمال هاشم أمام مدخل العمارة التي يقطن "محفوظ" بالدور الأرضي فيها بشارع النيل بالعجوزة. ارتفع صوت "كلاكس" السيارة معلنا عن قدوم "هاشم" الذي انتظر لحظات قليلة، حتى خرج الأديب راسما ابتسامة لطالما لازمته حتى في أحلك أوقاته، محاولا تخطي العقبات المتواجدة حول مكان سكنه بسبب الإنشاءات والكتل المتناثرة جراء إجرائها، ليمشي إليه صديقه بخطى واسعة، ويمسك يده ليساعده في الوصول إلى باب السيارة المجاور لمقعد القيادة.


ما إن استقر الأديب داخل السيارة ونظر بجانبه، فلاحظ شاب نحيف ذو بشرة سمراء يهرول ناحيته، فابتسم الأول بود؛ ظنا منه أنه أحد معجبينه ممن يرغبون في توقيع إحدى رواياته، أو تبادل أطراف الحديث معه، فرفع كفه استعدادا ليصافح الشاب الذي كان في أواخر العشرينات، لتستحيل ابتسامته إلى دهشة بعدما أخرج الشاب من ملابسه "مطوة" وضرب بها "محفوظ" بسرعة بالغة، وبانتقام ظهر على ملامحه، واستقرت في عنقه وصرخ بدوره متألما، ليفاجئ صديقه بلون الدماء الأحمر يغطي كل شيء.


لم يتمكن الشاب الذي نفذ خطة اغتيال "محفوظ" من غرس السكين أعمق مما فعل، بسبب ملاحظة رواد المقهى الكائن بجوار مكان الحادث لصرخة "الأستاذ"، وإسراعهم إليه، بينما كان المجرم يفر هاربا نحو سيارة صفراء، يقودها شخص آخر؛ لينطلقا بسرعة فائقة، وسط ذهول صديق الأديب، الذي تسببت المفاجأة في تيبس أطرافه وشلت تفكيره لثوانٍ مكنت مرتكب الجريمة من الهروب، وسالت خلالها دماء صديقه وغطت ملابسه، بينما سكن تأوهه.


 كانا ضعف بصر وسمع نجيب محفوظ سبب نجاته من موت محقق أثناء محاولة اغتياله، فقد تغيرت خطة أعضاء التنظيم الإرهابي الذي أحل سفك دمه لأنه "سب الله ورسوله وأمهات المؤمنين" في قصة من تأليفه، من التقليد إلى التجديد، حيث كان البطل في تنفيذ المحاولة "سلاح أبيض" بدلا عن "قنابل وطبنجات" تلفت الانتباه إليهم؛ ليستطيعوا الهرب لتنفيذ قائمة من الاغتيالات لشخصيات اعتبروها معادية للدين ولتطبيقه.

 ‏

بحث منفذو محاولة الاغتيال عن سلاح لا يصدر صوتا يشد الانتباه لهم، كما أشركوا باقة من الزهور ضمن خطتهم، بشرائها لتقديمها للأديب داخل شقته، حيث تخفي أحدهم ويدعى "باسم محمد خليل" في زي خليجي، بحجة أنه من قراء "الأستاذ" ومحبيه، وطرق باب شقته، وفتحت زوجة الأديب مؤكدة أن "محفوظ" ليس بالمنزل، ولم تستضيفهم؛ لأنها لم تعتد ذلك، بحسب حديث ابنته أم كلثوم.


كان لوالدي "برنامج أسبوعي من  ضمنه الندوة المقامة كل جمعة بكازينو قصر النيل، بدأ بعدما ضعف سمعه وبصره؛ رغبة في تسلية وقته، إلا يوم السبت المخصص للحوارات التي كانت تجرى داخل منزلنا في أغلب الأحيان".. هكذا تحدثت نجلة الراحل عن الأنشطة الأسبوعية التي كان يؤديها والدها رفقة أصدقائه، في محاولة منه لسد فراغه، حيث تسبب ضعف سمعه وبصره في ملله؛ لأنه أصبح غير قادر على القراءة، لذا كتب برنامجا أسبوعيا يقضيه خارج حدود المنزل.


فكان ذلك البرنامج سبب فشل محاولة اغتيال "محفوظ"، فلولاه لتمكن الإرهابي من دخول المنزل، ونحر عنق الأديب الراحل وزوجته، دون الحاجة إلى الإسراع خوفا من ملاحظة المارة لفعلته، خاصة مع عدم تواجد ابنته أم كلثوم في ذلك الوقت، حيث راقبت الجماعة منزلهم لعدة أيام استعدادا للحدث الجلل بقتل من تجرأ على الرسول وزوجاته، تنفيذا لفتوى أباحت مبدأ سفك دماء من تحدث عن النبي وأهل البيت بالسوء.


تتذكر نجلة الأديب الراحل عبس ملامح وجه والدها عندما علم وهو في المستشفى، أن من حاول قتله شاب زار منزله قبل تنفيذ العملية بعدة أيام وعرف نفسه على أنه خليجي يرغب في رؤيته، وتيقن من أن القدر أنقذه هو وزوجته من موت محقق، كما رق قلبه لما وصل إليه حال الشاب، لأنه تعرض لعملية خداع بسبب جهله، مؤكدة إنسانيته "كان إنسان أوي وميحبش يزعل حد وزعل على أن الشاب دا اللي اتضحك عليه، وشال كل الذنب لوحده".


تأثر جسد "الأستاذ" بتلك الطعنة الغادرة، حيث تضررت أعصابه على الطرف الأيمن العلوي من الرقبة بشدة إثر نفاذها لمنطقة الرقبة، كان لهذا تأثيرٌ سلبي على عمله، حيث أنه لم يكن قادرًا على الكتابة سوى لبضع دقائق يوميًا، واضطر للاستعانة بشخص آخر يكتب له.


كانت خطة الجماعة الإرهابية منفذة محاولة اغتيال نجيب محفوظ هي إقامة خلافة إسلامية في مصر بالقوة، عن طريق تفجير قاعات السينما ومحال الخمور واغتيال عدد من الشخصيات الهامة والمسؤولين، باستخدام قنابل وأسلحة يشترونها من صندوق تبرعات يضع فيه أعضاء الجماعة أن أموالهم، لسفك دماء كل من يحول دون تنفيذ مخططهم، عن طريق الجناحات العسكرية للتنظيم في كل المحافظات.

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات