في لحظةٍ ما تتمنى لو أن لنا مِن بين كل القدرات التي خصّنا الله بها، قدرة على انتزاع الشر مِمَن نحب. أن نبدل معهم مخزون أحزانهم ونهديهم ما قُسِم لنا مِن فرح. أن ننزع عنهم الألم، أو أن ننزع عن أنفسنا القدرة على الشعور بآلامهم، أو ننتزع الحب مِن قلوبنا نزعاً.
ليته الحب يخفف مِن آلام مَن نحب، ليته يفيد؛ إنما يحرق، بل يزرع بداخلنا أبشع درجات الألم، ألم يتوالد بلا توقف، لكنه لا يُحمَل بداخلنا عنهم، أو ينزع عنهم شيئًا بالمقابل.
اليوم أتممتُ الثامنة عشرة مِن عمري، وتَمُرّ سنة على وفاةِ مُنى..
التحقتُ بكلية الآداب قسم علم النفس؛ كما تمنَّت هي، وها أنا أستمر في العيش بالمؤسسة، كأخت وأم للفتيات، وقدمتُ طلب لعضوية الهيئة التي تدعمنا وتعمل بها أستاذة رُقيّة.
تمنيتُ لو أن مُنى معي تشاطرني بداية تحقيق الحلم. وددتُ لو تعلم بأن كل شيء سيسير على ما يرام، وبأنها ستحقق كل ما تتمناه، وستصير أعظم أخصائية ومعلمة في التاريخ. ليتها عَلِمَتْ أنها الأجمل والأرق والأطيب على الإطلاق، وأن " الفجر آية للحالمين؛ أن النور يولد مِن رَحِم الظلام " كما كانت أستاذة رُقيّة تقول دوماً، وتدوِّنها مُنى في مُفتتح كراستها المفضلة. لكن القول، والإدراك بعد القول: مِنحة. مِن الصعب أن تأتي للهاربين على الدوام - مِن واقعهم ومِن أنفسهم - الهروب أشرّ ما يفعل المرء بنفسه؛ كما فَعَلَتْ مُنى. الحياة ملء وتفريغ، وأن تمتلئ حتى تجثم المآسي على أنفاسك، ثم تُحكِم الغَلق؛ حتمًا مصيره الموت اختناقاً.
غربت بلا رجعة، تلك التي تشرق شمس الصباح في مؤسستنا بضحكتها. منذ ذلك اليوم المشؤوم وانطفأت مُنى التي عاشت ببصيص نور لا يتعدّ ثقب إبرة، لكنها قررت أن تهتدي به حتى لو بآمال زائفة، ترفض دائمًا الانصياع والاستماع والاستسلام، لا تتحدث، تدّعي دومًا الثبات والصلابة، لا تبكي، بل أن ابتسامتها وسيلة التعبير الوحيدة عن كل شيء. تعاني الفَقد فتبحث عن أحد كي تشبعه فقده؛ فتمنحه مِن مخزون روحها وقلبها المُستهلَكين، المُتهالكين تماماً. تسامح وتسامح وتحب كل مَن أذاها. أملها الضعيف تجاه أمها ما أبقاها في عِداد الأحياء، حتى أضاعت هذه المرأة آخر حبل يصلها بالحياة..
أشد الناس عرضة للقسوة مِن الآخرين: هم مصطنعو القوة؛ الثابتون في الظاهر، مَن لا يجاهرون بالشكوى أو يعترفون بضعفهم. يرهقهم تصديق الناس لتلك القوة الزائفة أكثر مِن كتمان الألم. ثم الاكتئاب: مرض معقد، لا يفهمه الكثير، يظنه الناس قليلًا - أو كثيرًا - مِن الحزن سيزول بالوقت أو بالهدايا أو المناسبات الزائفة. كنتُ مِمّن يظنون ذلك أيضاً، حتى عرفتُ كيف يكون، ومِن آخر إنسانة أتخيل أن أعرفه عن طريقها؛ مُنى.
"إنه يسحب المرء ما تبقى له مِن طاقة. يمتص ألوانه ويتركه باهتاً.. ميتاً.. أنفاسه لا تزيده إلا اختناقاً.. حتى نعمة الحواس تُحال نقمة.. لا يستسيغ بها الحياة.. بل تمسي منافذ لاستشعار الموت في كل شيء.. فوهة حينما يسقط المرء فيها لا يُكتَب له خروج أبدًا.. وكيف الحياة في قاعٍ مظلم.. وحيداً.. تمر الحياة حولك في شاشة تلفاز مشوَّشة.. بلا تفاعل.. تدرك في ذلك الوقت أن آلامك كلها في كفّة، وهذا الشعور الخانق والموت ينحشر في حلقك في كفةٍ أخرى.. كأكلة مسمومة يحتفظ بها جسدك ويودّ لو يلفظها ولا يستطيع..
حينها.. لا تهتم بجرح أصابك.. أو بحصولك على الدرجات النهائية.. لا تُعير لمشكلاتك بالاً.. ولا يكون للطعام معنى.. كل ما يجول بخاطرك: لماذا لازلتُ هنا؟ في هذا العالم الوهمي.. لماذا أظل بينهم رغم أني لست منهم؟ ليس لي مكان وسط أحزانهم وأفراحهم.. هذا الطعام الذي ينتظره الجميع رائحته تخنقني.. كالعلقم لا يمر مِن الحلق.. وهذه الأنفاس التي يستجديها العالم ويتصارع مِن أجلها.. لا تزيد إلا مِن وقت موتي.. هذا العالم يظل يسخر مِنّي؛ حينما يقدم لي حياة ليست لي، ويجبرني على الصراع مِن أجل موتٍ في صورة حياة.. ويجلدني إن لَم أفعل...
لِمَ التظاهر بالقوة؟ لمَن ولأجل ماذا؟ إنْ لَم يعِرِ الآخرون الاهتمام سوى بما سيجنونه منك؟ فلا أحد يعيرك جلّ اهتمامه.. هؤلاء لن يحبونا بقدر أبنائهم.. كيف ولَم يحبنا آباؤنا وأمهاتنا ذاتهم؟ ماذا بعد الركض والمعافرة؟ ماذا سيخسر العالم أو يجني بوجودنا أو غيابنا؟ ولِمَ التشبُّث؟ لماذا نخاف مِمَ يخافه الآخرون، رغم أنهم لَم يعيشوا حياتنا؟ مخاوفنا ليست واحدة.. هم يخافون الموت؛ لأنهم يحيون.. ونحن نخاف الحياة؛ لأننا ميتون.. لا وجود لنا.. عالة.. وعار.. مرفوضون مِن أهلينا.. ومِن مجتمعنا.. ميتون..."
كلماتها الأخيرة كانت مِن نصيب عيني. انتصبتُ مشدوهة منذ قرأتها. ظللتُ هكذا حتى وقت دفنها، أُمسك بالورقة أضمّها على قلبي، ولا أبكي. كأن كل المشاعر التي عاشتها احتلت عقلي وقلبي وتملّكَتني، وأحسَستُ بكل شيء يحدث كشريط في شاشة تلفازٍ مشوَّشة كما وَصَفَتْ، رأيتُ حياتينا تمران بعينٍ أخرى، عين مُنى التي كتبت هذه الكلمات. لَم أعُد وقتها أسمع، ولا أرى، لَم أتكلم. حتى اليوم الرابع حينما دخلت أستاذة رُقيّة بثوبها الأسود، فانفجرتُ بالبكاء في حضنها. ظللتُ ألومها؛ لغيابها عني وعن مُنى، ضربتها في صدرها، ظللت هكذا قرابة الساعة. حتى أدركتُ أنها ما لبثت أن أنجبت ابنها الأول، في نفس يوم وفاة زوجها بعد صراع طويل مع السرطان..
أحسستُ بغضب الدنيا يعتريني، وكرهتُ هذه الحياة التي أنجبتنا لتعذيبنا. إنها سلسلة طويلة مِن مُتألّم يداوي مُتألماً، والظَّلَمة ينعمون في رغد. ظللتُ أسب وألعن بألفاظٍ لَم أتخيل أن ينطقها لساني. أغضب وأشكو الله.. أشكوه وأشكو له. أسال رُقيّة أين رحمته التي أخبرتِني عنها وها أنتِ المُعَذَّبَة تداوين وأنتِ بحاجة للدواء؟! كنتُ أهيج حتى أنام وأقوم أفزع مِن نومي وأستمر في الصياح، حتى زال صوتي. وزوال الصوت في الحقيقة لهو أهون مِن أن تصرخ في أحلامك -بل كوابيسك- ولا تجد مَن يسمعك. تظل تصرخ بلا أمل للإنقاذ. حتى في إحدى المرات تَصمُت، وحينما تصمت، وتغمض: تسمع أكثر، في البدء: صخب يفتك بروحك، وظلمة كقبر.
لكن تلك الرحلة مِن العذابات المُتكررة بلا توقف: لا يوقفها أحد
رواية "شروق وغراب" للكاتبة منار عادل، صادرة عن دار إبهار
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب