من خلال قراءاتي تأكدت أنه لا يوجد أبدًا ثلاثية أدبية كتبها أكثر من أديب، والثلاثية الأدبية، هي رواية أو حكاية تدور أحداثها في زمان أو مكان أو بطل واحد، وتنقسم إلى ثلاث أجزاء، يكون بينهم عوامل مشتركة، ودائمًا ما يكون الكاتب هو شخص واحد.
ولكن نحن هنا أمام ثلاثية من نوع خاص، بطلها الأول ومضمونها وجوهرها الإنسان، ولكن كتبها ثلاث كتاب، الأول الياباني ياسوناري كاوباتا في روايته "الجميلات النائمات"، والثاني كولومبي هو غابرييل غارسيا ماركيز، وروايته "ذاكرة غانياتي الحزينات"، والثالث المصري طارق إمام، ورائعته "طعم النوم".
الثلاثية في جوهرها تحاكي الإنسان وغريزة الجنس، ولكن أيضًا الثلاثية تجتمع في عدة نقاط مثل العوالم المتشابهة والأحداث المنفصلة المتصلة، المنسوجة المكملة المساهمة لجوهر الحكاية الكبيرة التي هي حكاية الإنسان المعذب بشهوته تلك.
الجميلات النائمات.. الذاكرة وملاذ الحكي
في الرواية الأولى "الجميلات النائمات" لكاواباتا، يبدأ الكاتب في طرح أسئلته من الصفحة الأولى، وعن طريق جمل شديدة الدقة والإيجاز، يستطيع من خلالها تلخيص روايته، وهموم بطله هذا الكهل الذي يذهب إلى بيت دعارة، ولكنه بيت من نوع خاص، له شروط وقواعد محددة، بيت دعارة لا يمارس فيه الجنس، ولكنه يحاكي الغريزة الإنسانية، حيث الكهل الذي يدخل الغرفة ليجد فتاة عذراء مخدرة ونائمة نوما يبدو أبديا، فيبدأ هذا الكهل باستعادة كل ذكرياته، وكأنه يهرب من الوحدة إلى ملاذ آخر حيث الحكي ولو حتى أمام إنسان عارٍ نائم، أو الهروب من الوحدة لمحاكاة ذكرياته مع الطرف الآخر.
تلك الذكريات التي تمثل لرجل عجوز على مشارف السبعين حياة كاملة، أو حياة موازية، فما الحياة أو العمر سوى مجموعة من الصور والمشاهد التي تخزن في ذاكرة الإنسان لتمثل له الحياة بذاتها.
هكذا الذاكرة هي واقع البطل وليست مجموعة من الخيالات، ولذلك فالبطل يرفض أن يكون مثل باقي أصدقائه من كبار السن الذين لا يستطيعون التواصل الجسدي مع الأنثى، فيبدأ في تذكر لحظات اللذة التي حصل عليها في حياته هنا يكمن التأمل الشديد خلف السطور في جملة مثل:
"ربما الخلط بين العادات المتبعة والإبقاء على النظام هو الذي يعمل على تمويه معنى الشر".
ولكن أيضًا نحن أمام استعادة الذكريات التي هي الحياة تحت عنوان الجنس الذي هو سبب الوجود الإنساني.
هذا التأمل المصاحب لكل سطر في الرواية ما ينفك أن يعود في الرواية الثانية.
ذاكرة غانياتي الحزينات.. وسؤال الحياة
أما في "ذاكرة غانياتي الحزينات" لماركيز تبدأ من ذروة الأسئلة التي تركها كاوباتا ولم يكملها، فأنت هنا تبدأ أول ما تبدأ في مرحلة الانتقال من البطل الذي كان يرغب في ممارسة الجنس كفعل حيواني غريزي، إلى البطل الذي يبدأ بطرح أسئلة الجنس.
البطل يقول إنه لا يدرك كيف أصبح عجوزا، كيف وصل إلى التسعين من عمره؟ هنا هو سؤال الحياة بذاته، كيف يمر الوقت والإنسان لا يدري، فنراه يقول في موضع آخر:
"إن حس الحياء الاجتماعي كان، منذ طفولتي المبكرة، أفضل تكونًا لدي من حس الموت".
ومن أهم ما تطرحه الرواية هو أين تكمن المتعة؟ هل المتعة واللذة في الممارسة، أم في التأمل، والتشابك والانسحاق الإنساني وتأمل التفاصيل الصغيرة، التي تطل منها على عمق وجوهر الإنسان.
وفي المجمل تأتي رواية ماركيز لتكمل وتضيف جزءا من النقطة التي انتهى عندها كاوباتا، لتطرح أسئلة مغايرة، لا تنفصل عن جوهر الحكاية ومضمونها، ولكنها تضيف وتعمق أسئلة تلك القضية حتى تفضي بنا إلى الرواية الثالثة.
"طعم النوم" وعالم طارق إمام الروائي
في "طعم النوم" أنت أمام نص مغاير تمامًا، للنصوص السابقة، فبطل الرواية هي الفتاة وليس الرجل، هي الأنثى التي أرادت بيع جسدها في رواية ماركيز مقابل بيت، وكان أبوها يقبل تخفيض ثمنها. والتي قال عنها كاوباتا:
"أفلا يمكن إذاً اعتبار الجميلات النائمات من هذه الوجهة إلهات مثل بوذا ونابضات بالحياة فوق ذلك؟ أليست رائحة فتاة شابة وبشرتها تكفيراً للعجائز التاعسين وتعزية لهم؟".
أنت هنا أمام الأنثى التي بسببها حدث كل هذا، هي جوهر ليس فقط الثلاث روايات بل هي جوهر العالم ذاته والحياة، حيث قررت بطلة طارق إمام أن تكتب هذه الحكاية لا لتنجو بل لكي تموت.
أنت هنا أمام رواية تبدأ من حيث الحدث الأهم في تاريخ مصر المعاصر وهو نكسة 1967، وعلى عكس كاوباتا وماركيز، يضيف إمام إلى روايته كل الأسئلة والهموم سواء التي تتعلق بتاريخ مصر السياسي والاجتماعي في تلك الفترة وحتى الآن، مرورًا بالأسئلة الفلسفية والوجودية التي لم يكملها كاوباتا وماركيز.
فالأول والثاني وضعوا القضية الإنسانية ككل نصب أعينهم دون الالتفات إلى الأحداث السياسية والإجتماعية المتعلقة بجغرافيا معينة ولكن طارق إمام يوضح أن تلك الأحداث الإجتماعية المتعلقة بشعب أو مجموعة معينة من البشر، هي ايضًا إضافة لأسئلة الإنسان وهمومه ولا تنفك وتنفصل أبدًا عن الحكاية الكبيرة.
طارق إمام لا يتناول كل قضية بإطناب ومماطلة بل يضعك لتواجه السؤال مباشرة بالإجابة لينقلك إلا سؤال جديد، بداية من انتهاء عبد الناصر مع سقوط الراديو الذي صنع دويا هائلا، وتلك الإشارة الصريحة لعصر يجب أن نترك ما فيه من شعارات أو حتى كما قال صلاح جاهين في عودة الابن الضال الأفراح والأشباح، وصولا إلى التناقض الذي ضرب أعماق الشخصية المصرية، عن طريق الفتاة نفسها التي تعمل عاهرة في بيت دعارة من نوع خاص حتى لا تفقد عذريتها وأيضًا دون أن تتخلى عن الحجاب أمام الناس.
أنت هنا أمام قضية في غاية الخطورة وهي اضطراب الشخصية المصرية، عاهرة وفي نفس ذات اللحظة تحاول الحفاظ على عذريتها المسماة بالخطأ الشرف، وأيضًا محجبة أمام المجتمع والناس، هذه قضية خطيرة ولكن حين يطرحها الكاتب لا تأخذ أكثر من سطر واحد.
إن التحدي والمغامرة التي فعلها إمام في روايته جديرة بالإشادة، بحيث أنه لم يكتفي فقط باستخدام ثيمات الروايتين السابقتين، وأضاف فقط أسئلته، بل غير وصنع وأضاف الروايتين إلى عالمه هو، وطبق شروطه وأفكاره على هذا العالم.
خلاصة القول إنك مع الثلاث روايات أنت أمام ثلاثية روائية مكتملة، تعيد مفاهيم إنسانية وتحاكي أسئلة الإنسان وغرائزه ولا سيما غريزة الجنس، يربط بين الثلاث روايات عوالم متشابهة وأشخاص متشابهين، ولكن يبقى السؤال الخالد الذي من المؤكد كان يؤرق الثلاث كتاب وهو سؤال الكتابة نفسها والتي حاول طارق إمام الإجابة عليه حين قال:
"الكتابة انتقام أيضًا، وهي لذلك تشبه الحب، وتشبه القتل، وتشبه الحلم، ففي أحلامنا فقط نقتل جميع من اضطررنا لمصافحتهم في الواقع.. وكل يد تهم بالكتابة هي في الوقت ذاته، وبالقوة نفسها، يد تهم بالقتل".
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب