نهى شوقي
في الثامن عشر من إبريل 2020 نشر موقع quite interesting تغريدة طريفة بأن معظم الناس يستشعرون الأرقام الزوجية كإناث، والفردية كذكور! فوجئ المتابعون بتغريدة أكثر طرافة من الأديبة الشهيرة چي. كي. رولينج حيث أجابت: "حسنا. هؤلاء الناس مخطئون؛ لأن الأرقام الفردية مؤنثة حتما، لم يبق سوى أن تزعم أن يوم السبت ليس فضيا" !! وهو ما استقبله مجتمع الحس المرافق بسعادة، وتداول المتحمسون دلائل من سلسلة هاري بوتر على كون رولينج من ذوي الحس المرافق، وأن هذا هو سر تميز كتاباتها وسحرها. اعتذرت رولينج عن التعليق على الأمر لانشغالها بمبادرة هاري بوتر في المنزل على موقعها الخاص لمساعدة الآباء والمدرسين والأطفال على تجاوز فترة العزل المنزلي.
نرشح لك: بخصم 50%.. storytel تقدم عرضا لمحبي الكتب الصوتية خلال رمضان
إن بدت لك الفقرة السابقة مثل لغز كبير فلا تجزع رجاءً. فهذه الظاهرة القديمة قدم فيثاغورث(500 ق.م.) ظلت حتى عشرين عاما مضت مثار جدل كبير في الأوساط العلمية. تقول د.چوليا سيمنر الباحثة في جامعة إدينبرج في تصريح لها للجارديان:" كنت قبلا أتحدث عن الحس المرافق فلا يصدق 96% من الحضور حقيقة وجوده، بينما يعتبر باقي الحضور(ذوي الحس المرافق) أن الأمر بديهي ولا يحتاج إلى استدلال.تضيف سيمنر:" والآن بعد أن تجاوزنا مرحلة الإثبات؛ نحن جاهزون لاستكشاف الأسئلة التي يتوق العلماء إلى سؤالها حقا".
ومنذ ذلك الوقت أنشئت جمعيات الحس المرافق في أمريكا، وألمانيا، وانجلترا، وغيرها. وتوالت الأبحاث لاستكشاف آليته وأنواعه حيث صنف العلماء ما يقرب من ثمانين نوعا من الحس المرافق، وقدرت نسبة ذوي الحس المرافق ب4% من تعداد البشر (Cytowic,Eaglman)
*وإن كانت هذه النسبة تحتاج إلى تدقيق؛ لأن جميع الاختبارات أجريت على عينات غير عشوائية لمتطوعين تقدموا بأنفسهم لاختبار الحس المرافق.
ولكن ما هو الحس المرافق؟
كلمة synesthesia مشتقة من الكلمتين اليونانيتين؛ (syn)وتعني معا، و(aisthēsis) وتعني الحس. ويمكن شرحها ببساطة كظاهرة إدراكية يؤدي فيها تحفيز حاسة ما (السمع مثلا) إلى تجارب تلقائية لا إرادية في مسلك حسي ثانوي آخر؛ واحد أو أكثر (البصر أو الذوق مثلا). أصحاب الحس المرافق الحرفي اللوني يرون الحروف ملونة بطبيعتها، وتكون الكلمة ملونة بلون أول حرف فيها. أما اصحاب الحس المرافق الرقمي المكاني فإن كل رقم عندهم له مكانه المحدد في الفضاء. غريب أليس كذلك؟
رسمان باليد يوضحان تجربة اثنين من ذوي الحس المرافق.د
في الصورة الأولى مثال للتسلسل المكاني spatial sequence synesthesia ، وفي الصورة الثانية مثال للحس المرافق الرمزي اللوني grapheme color synesthesia
في الواقع إن تغريدة رولينج التي ذكرناها سابقا تؤهلها بجدارة لتكون من أصحاب الحس المرافق من نوع (التجسيد اللغوي الترتيبي) ordinal linguistic personification =OLP وهؤلاء ترتبط عندهم الأرقام المتسلسلة بجنس أو شخصيات معينة (الأرقام الفردية مؤنثة)، وغالبا ما يتمتع أصحاب هذا النوع بحس مرافق لوني أيضا (السبت الفضي). اعترفي سيدة رولينج!
ألقاه العلم فالتقطه الأدب
ربما تندهش حين أخبرك أننا اعتدنا استعارة حاسة للتعبير عن حاسة أخرى طوال الوقت؛ فهذا الجمال صارخ، وتلك نظرة باردة، أما ذاك الرجل فصوته خشن. ثم إننا ألفنا مثل هذه التراكيب حتى صارت أدمغتنا تترجم المعنى دون التفات إلى الألفاظ التي ولّدته.
تخيل الآن أن يزعم أحدهم لك أن هذا الجمال يصرخ فعلا، أو أن صوت الرجل له ملمس خشن يزداد خشونة كلما صاح!! هل كنت لتصدق؟ كان هذا بالضبط هو رد الفعل الأول الذي استقبل به العامة الحس المرافق فعرفوه بأنه تفكير استعاري أو إفراط في التخييل. ورغم انه ظهر في الأوراق العلمية منذ عام 1812 وقطع في الربع الأخير من القرن التاسع عشر خطوات حثيثة داخل مختبرات الأبحاث حتى ثلاثينيات القرن العشرين إلا أن صعوبة معايرة وقياس التجارب الفردية الداخلية، وبزوغ مدرسة الفكر السلوكي Behaviorism -التي ازدرت النزعات النفسية الداخلية- أوقفا حركة البحث بشكل شبه كامل حتى الثمانينيات، وتُرك الحس المرافق لانطباع الأدباء والفنانين.
عدد الإصدارات البحثية لدراسة الحس السمعي - اللوني على مدى مائة عام
أنا الذي ابتدع لحروف العلة لونًا
تلقف شعراء الرمزية ( أمثال شارل بودلير وآرثر رامبو) الحس المرافق، و أسس بودلير لفكرة أن الحواس يمكن بل يجب أن تتداخل بعد أن شارك في تجربة للحشيش أشرف عليها الطبيب النفسي چاك چوزيف مورو!
بينما أنشأ رامبو مفاخرا في إحدى قصائده "J'inventais la couleur des voyelles!" أو أنا اخترعت لون الحروف المتحركة. وبذلك يعد بودلير ورامبو في طليعة الأدباء الذين احتفوا بالحس المرافق رغم أنه لم يعرف عنهما اختباره حقيقة. على عكس فلاديمير نابوكوف الذي استثمر تجربته الشخصية مع الحس المرافق في عدد من أعماله وجعلها سمة رومانسية لبعض شخصياته يتصدون بها لوحشية العالم مثل: فيودور في رواية الهدية. ثم تناولها بشكل أكثر تفصيلا في سيرته الذاتية "Speak,Memory" .
ولم يقتصر الأمر على الأدباء فالكثير من الموسيقيين والمصورين أوجدوا علاقات بين النغمات والألوان بناءً على تجربتهم الشخصية ومنهم من ادعى الحس المرافق كذبا.
كيف عرفنا أنه محض ادعاء؟ عندما عاد الحس المرافق إلى المختبر مرة أخرى!
ما لون حرف الألف عندك؟
في ثمانينات القرن الماضي ومع صعود الثورة الإدراكية Cognitive Revolution التي ردت الاعتبار لمناقشة الحالات الداخلية و دراسة الوعي؛ نشط العلماء لدراسة ظاهرة الحس المرافق المثيرة والعصية على المعايرة بقيادة لورانس إي. ماركس وريتشارد سايتويك في أمريكا و سايمون بارون كوهن وچيفري جراي في إنجلترا. وتركزت معظم الاختبارات على الحس المرافق الحرفي اللوني grapheme-color synesthesia أكثر الأنواع شيوعا و أطوعها للدراسة. واستنتج سايتويك معايير تشخيصية عامة (3) منها:
- أن الحس المرافق فعل تلقائي لا إرادي.
- حس ثابت وذاتي: التعرض للمثير يعطي نفس النتيجة في كل مرة و هذه النتيجة خاصة بهذا الشخص وقد تختلف من شخص لآخر. فمثلا فإذا كنت ترى حرف الألف باللون الأحمر فإنك تراه هكذا دائما وقد يراه غيرك باللون الأخضر مثلا.
- بسيط غير مركب: كرؤية خطوط أو ألوان لا صور معقدة لشجرة أو شخص مثلا.
- لا تُنسى وقابلة للاستعادة .
وبفضل هذا الاسلوب العلمي التشخيصي؛ تحولت نظرة الأدب للحس المرافق تحولا جذريا من مجرد تفكير استعاري أو نزعة رومانسية إلى حالة مرضية كما نرى في رواية the whole world over لچوليا جلاس؛ حيث تعاني البطلة من الحس المرافق على أثر إصابة دماغية. أو أن تدمج النزعة الرومانسية مع الحالة المرضية لتنتج حالة مجيدة من المعاناة كما في رواية The sound of blue لهولي باين حيث يختبر البطل الحس المرافق الصوتي اللوني كمقدمة لنوبة الصرع. أتساءل كيف كان وقع هذا التوجه على ذوي الحس المرافق!
ابتسم فأنت شخص عادي
رغم تعريفه كحالة عصبية؛ لم يدرج الحس المرافق في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية DSM-IV وكذلك لم يتضمنه التصنيف العالمي للأمراض ICD بما أنه لا يتعارض مع الأداء الطبيعي للأشخاص، خاصة أن معظم من يمتلكون حسا مرافقا يصفون الأمر كتجربة ممتعة او محايدة على أقل تقدير. لذا سواءً أكنت من ذوي الحس المرافق أم لا؛ تهانينا فأنت شخص عادي! الفارق بينكما كالفارق بين سماء تتوهج بالشفق القطبي وسماء زرقاء صافية؛ كل منهما طبيعي بطريقته الخاصة. هل بدا لك المثال مفرطا في التخييل؟ ولكنها قد تكون الحقيقة.
لازالت آلية حدوث الحس المرافق غير مؤكدة ؛إلا أن ريتشارد سايتويك أحد رواد هذا المجال يعزي الأمر إلى أن التداخلات العصبية CROSSTALKS في دماغ أصحاب الحس المرافق تكون أكثر استثارة. وهذه التداخلات العصبية –والكلام لازال لسايتويك-طبيعية في جميع البشر، وإليها يرجع قدرة الإنسان على إيجاد العلاقات بين الأشياء التي تبدو للوهلة الأولى غير متشابهة مثل قدرة الأدباء على خلق الصور الاستعارية وقدرة القراء على استيعابها(Ideaesthesia). بمعنى آخر فإن التفاعلات نفسها تحدث في الحالتين إلا أنها تكون حسية وواعية لدى ذوي الحس المرافق جاهزة للتحفيز من أقل مثير، في حين يختبرها غيرهم لا شعوريا.
كالعادة تأثرت الكتابة الأدبية بهذه النظرة الجديدة وظهر الحس المرافق في عدة مؤلفات كمؤشر للصحة والاتزان النفسي كما في رواية چاين ياردلي Painting Ruby Tuesday ، ورواية ويندي ماس A Mango-shaped Space. أبطال هذه الروايات يفقدون ملكة الحس المرافق إثر التعرض لصدمة عاطفية، وبعد التعافي يستعيدون حاستهم المميزة كدليل على استعادة الصحة والاكتمال.(4)
هل الحس المرافق للجميع فعلا؟
في دراسة أجراها علماء معهد ماكس بلانك على ثلاث عائلات ينتشر الحس المرافق بين أفرادها؛ ورغم اختلاف المتغيرات الجينية بين العائلات الثلاث إلا أن رابطا مشتركا جمع بينها وهو الوفرة في الجينات المسئولة عن تخليق الموصلات العصبية(axonogenesis) وهجرة الخلايا(cell migration). وهذا الكشف يدعم نظرية cross-activation theory التي تعزي الحس المرافق إلى وفرة في التوصيلات العصبية غير الاعتيادية بين مناطق الدماغ مع ملاحظة أن المناطق الجدارية parietal regions (المسئولة عن معالجة البيانات) مثلت وسيط دائم بين المناطق المختلفة في كل التجارب.
فرضية أخرى في آلية عمل الحس المرافق ترجع النشاط غير الاعتيادي للدماغ إلى خلل في آلية التثبيط بين منطقتين أو أكثر من مناطق الدماغ Feedback Disinhibition theory وهذه الفرضية تفسر اكتساب بعض الأشخاص لملكة الحس المرافق عقب التعرض لإصابة دماغية أو تناول العقاقير المخدرة مثل LSD. فهل يمكن اعتراض آلية التثبيط بطريقة ما كالتأمل أو التنويم مثلا لمحاكاة أثر المهلوسات؟ وبم يفيدنا كل ذلك؟
يفيدنا الأمل.. فلو كان العامل الوراثي هو المؤثر الوحيد لاكتفينا بتأمل الظاهرة ودراستها تماما كما نتأمل الشفق القطبي. أما وإنها تظهر في ظروف مغايرة كالمرض والإصابة وتختلف قوتها من شخص لآخر؛ فربما لن نستطيع توليد شفق قطبي عند خط الاستواء، وكذلك لا نستطيع خلق حس مرافق أصيل ولكننا حتما نستطيع محاولة محاكاته. و دعنا لا ننكر أن جاذبية الحس المرافق تفرض نفسها على المختبرات؛ خاصة مع ما اشتهر به أصحابها من القدرة على الخلق الفني، والأهم من ذلك ما اشتهروا به من قوة الذاكرة . لذا فإن محاولة تقريب الحس المرافق من رؤوس الجميع يعد عملا نبيلا مع وجود مرضى الألزهايمر والأطفال الذين يعانون من صعوبة التعلم وتراجع القدرة الذهنية لكبار السن. والأبحاث التي تجرى حاليا على هذه الفئات لتمرينهم على ربط حاستين بهدف تحسين قدرتهم الذهنية هي أشبه بتعلم لغة جديدة وربط رموز الحروف بأصواتها ولكن مع مسحة من اللون أو نغمة تضفي بعد السحر . خاصة وأن عناصر الاختبار يلقون صعوبة في تعلم علاقات جديدة والربط بينها؛ مما دفع العلماء للتوصية بأن يبدأ كبار السن التدريب منذ سن الخمسين و كذلك مرضى الألزهايمر مع بداية نُذُر المرض وربما قبلها إذا اتضح قابليتهم للإصابة. والآن لنتأمل كيف يدق الأدب باب المختبر حاملا لعبة جديدة.
لعبة الروائح
في رواية كحل وحبهان يتناول عمر طاهر قصة مراهق شاب له ذائقة خاصة للأطعمة والروائح، يمارس لعبة الروائح مع خاله. والكلام على لسان بطل الرواية:
" كنا نفكر في تحليل لرائحة محمد علي باشا، وخطر لنا سؤال: كيف هي رائحة المشاهير الذين لم نلتقهم يوما؟
قلت لخالي: فلتبدأ.
قال: جمال عبد الناصر
بعدها انفتح باب اللعبة ولم ينغلق، نسلي بها أنفسنا في أوقات الملل. كانت تمرينات خيال ممتعة، علمتني أن أدقق في أثر الرائحة دائما، وأنضجت موهبة الكلب البوليسي الكامن في قلبي. تجولنا كثيرا بين الأسماء المعروفة، وكنا عادة نخرج شبه متفقين على النتائج التي وصلنا إليها: رائحة الزعيم جمال عبد الناصر هي خليط من رائحة السجائر وكولونيا 555 ومعجون الحلاقة الذي يستخدمه أبي. إسماعيل يس رائحته تشبه رائحة رف الشاي والسكر في دولاب خزين جدتي. فريد الأطرش رائحته قمر الدين، وليلى مراد رائحتها فانيليا.........".
لم يشر طاهر إلى الحس المرافق من قريب أو من بعيد ولكن الرواية ككل أشبه بتدريب مكثف لحاستي الشم والذوق . ومن يدري؟ ربما تجد لعبة الروائح طريقها إلى المختبر يوما، وربما لا. ولكن في كل الأحوال لا يُطلب من الأدب أكثر من هذا؛ أن يبقي الحواس حية ويثير الجدل بين العامة بما يكفي للتوسع في الاختبار. أن يرى المتشابه في غير المتشابه (Ideasthesia) كصورة من صور الحس المرافق. وأخيرا أن يطرح الأسئلة التي يجب على العلماء الإجابة عليها ؛ كيف يُكتسب الحس المرافق؟ وهل يُفقد؟ هل يمكن التدريب عليه؟ هل چي.كي. رولينج من ذوي الحس المرافق؟ وهل يفيدنا أن نعرف؟
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب