القائمة الرئيسية

الصفحات

حصريا.. ننشر فصلا من رواية "رجل الكوخ" للكاتبة نيرة نجدي

 



وضعت زهور اللافندر أمامهم، خرجت إلى الطريق مجددًا حيث يقبع مكان استضافة بعض من لوحاتي. 


كنت ابتسم بتألق؛ إذ لطالما أردت تحقيق أهدافي واحدًا تلو الآخر، دخلت إلى المعرض بخطى واثقة، وشعور رائع غمرني بأن يمتلك المرء ذاكرة حيّة ملونة. 


تجولت بين الحضور حتى وصلت إلى ممتلكاتي وثروتي الصغيرة التي بدأت بجنيّهم بعد التخرج مباشرةً؛ أي منذ أربعة أعوام كاملة. 


كالعادة تجمهر البعض أمام لوحة "رجل الكوخ"، قدر ما أسعدني الأمر، قدر ما تملكني الغضب عندما علمت بأن الهيئة المنظمة للمعرض أخطأت ووضعت أسفلها ثمن لوحة أخرى، حتى كاد رجلُ وقور الهيئة يشتريها لولا قلت بهدوء حذر:

-عذرًا سيدي.. هذه اللوحة ليست للبيع!

-إن ثمنها مدون. 

-أعتذر كثيرًا، حدث خطأ وسيتلافاه المنظمون فورًا. 



لم يهمني كونه ناقدًا هامًا، استرعى انتباهه تفاصيلها الدقيقة، لكن حديثي قاطعٌ وإن خسرت شوطًا مهمًا في حياتي المهنية. وغادرت مسرعةً بعدما انتهى المعرض حاملة تلك اللوحة إلى سيارتي الزرقاء الصغيرة. 


****************


بعد يومين عاد الرجل الوقور مجددًا، إلى المتجر الذي أعمل به، لا أعلم كيف وجدني! تطلع حوله ورأيت اهتمامه باللوحات المعلقة بالجدران، وجه بصره نحوي ثم سألني مباشرة:

-لا أنكر الأمر، فأنا أريد معرفة قصة هذه اللوحة. 

سألته بلباقة مصطنعة:

-أحترم صراحتك، ولكن ليس هناك قصة محددة، فقط لوحة غالية أحتفظ بها وأعرضها بالثلاث معارض التي شاركت بهم دون عرضها للبيع، ما حدث كان خطأ المنظمين بالمرة الفائتة. 

-اسمعي، لن أشتريها، لكن أريد معرفة السر الكامن ورائها، حتى يجعلكِ تحتدين غضبًا لمجرد ذكر أمر بيعها. 

طالعت الساعة بيديّ وكانت تشير للتاسعة مساءًا، نظرت نحوه بهدوء وقلت:

-عذرًا، لكنه موعد إغلاق المتجر، ربما إن أتيت مجددًا سأعرضها عليك. 

-حسنًا، يبدو أننا  قد اتفقنا بالفعل. 


صافحني بنظراته المتحدية، ثم غادر وغادرت بعده بعدما أغلقت المتجر، وأوصدت الأقفال، ذهبت إلى البيت أنشد الهدوء والراحة، رغم أن هذا لم يحدث بتاتًا.


وعندما حل صباح اليوم التالي، تناولت الفطور، وبدأت في السير إلى العمل، اعترتني الدهشة فقد كان ينتظرني أمام المتجر في التاسعة صباحًا، لتبدأ الأمواج الهادرة تضرب عقلي بقوة شديدة!


*****************


كنا في حزيران، الجو مشمس والطيور تحلق نحو آفاق السماء الزرقاء تجول وتصول بحرية حتى تجد رزقها، تركت أمي تحضر الحقائب منذ المساء وبقيت بمفردي في الشرفة بجوار كتابي الذي ابتعته بالأمس. 



لم أدرِ سببًا لعصبية أمي المفرطة منذ صباح أمس، لطالما كانت امرأة رقيقة، حساسة، تنبذ العنف والصراخ المستمر، تميل للهدوء مثلما تميل ملامحها القمحية الفاتنة.


كنا على ما يرام حتى المساء، عندما أطفأتْ التلفاز وعادت بجواري تخبرني بصوتها الناعم:

-سنغادر بيتنا في الصباح الباكر، استعدي. 

-إلى أين يا أمي؟ هل سننتقل إلى بيت جديد؟ 

-لا، بل إلى الوطن. 


صدمني ردها كثيرًا، بل الأكثر أنه ربما زادت رغبتي في الاختفاء بعيدًا عنها لا لسبب غير أنني سأغادر موطن طفولتي منذ سبع سنوات مضت وكل ذكرياتي القليلة، والباقية من الماضي. 

-هل ليّ أن أعرف السبب؟ 

-إعلمي بأننا كنا سنعود يومًا ما، والآن حان وقت عودتنا. 



الحقيقة أنني شعرت بأن أسبابها واهيّة، نهضت وتركتني بمفردي، تأكدت أكثر بأن هناك لحظات لا تود بها البقاء؛ وتبقى أعز رغباتك أن تتبدد وتختفي من الوسط، كنت أشعر برغبتي هذه تتزايد دون رادع خلف ظلال أمي المتوارية وراء باب غرفتها. 



لم أستطع التفوه بأي شيء، بقيت أشبه بظمآن نظره معلق بسراب الماء في الصحراء، والأصح أنها لم تدع ليّ شيئًا يقال بعدها!  


نهضت من مكاني وتبعتها، أخذت أشاهدها تلتقط الثياب المترامية بأصابع مرتعشة تثنيها باستعجال ثم تكومها داخل الحقيبة بعدما أنزلتها من فوق خزانة الملابس. 


راودني شعور أنها تود الحديث، أو ربما تود أكثر أن تبكي معانقةً إيايّ كما اعتدتُ. لكنها لم تفعل، وأنا لم أبقى كثيرًا إذ توجهت لغرفتي أودع عالمي الصغير ولا أعلم إن كنت سأعود فيما بعد. 


******************



جلسنا فوق مقعدينا بالطائرة ننتظر الإقلاع من المطار، أصبح قرص الشمس يتوسد عنق السماء، وكنت أغادر طفولتي ظنًا مني أن الأمر لن يطول، أردت أن ينقلب ظني إلى حقيقة.. وبقي الأمر بعيدًا بصمت أمي العجيب. 


كانت شاردة طوال الرحلة ولم تتفوه بأي شيء؛ فقد ربطت ليّ حزام الأمان ومسدت ببطء كأنها تتردد فوق غطاء رأسي الأزرق ثم مجددًا غاصت بقوقعتها الصامتة. 


شاهدتُ السحاب من نافذتي التي ألهتني عن التفكير أكثر بما يحدث حتى غلبني النوم. 


استيقظتُ عندما أخذت أمي تمسح فوق ذراعي بلطف، ابتسمت لها وأنا أحاول فتح عيناي على اتساعهما، كنت أظنني بمنزلنا الدافئ حتى خاب ظني، بهتت ابتسامتي قليلًا بينما لم تهتم وهي تخبرني:

-هيا استيقظي، الطائرة على وشك الهبوط. 


اعتدلت في مقعدي ولم أقّل شيئًا، فتحت زجاجتي أرتوى ببضع رشفات من الماء ثم وضعتها داخل حقيبتي، وبقي الصمت حليفًا لأمي حتى أخذتُ حقيبتي الظهرية وهبطنا من الطائرة، لتبدأ رحلتنا داخل وطننا المهجور منذ عشرة أعوام. 


**************


احتلني الفضول بعد خروجنا من أرض المطار، استقللنا عربة أجرة إلى أقرب مطعم، اخترنا ما نود تناوله وحينها تحدثتُ معها بوضوح وسألتها:


-أما زلتِ لا تودين الحديث؟ 

رأيتها كيف طالعتني كأن بداخلها صراعًا فتاكًا، ضمت كفيها سويًا ثم قالت:

-حان وقت عودتنا للوطن، وقد عدنا الآن. 

-لم أقصد هذا أمي! 

-هناك ما يتحتم أن تعرفيه الآن.. لقد فقدت وظيفتي منذ أسبوعين. 

كان صوتها يبدو ثابتًا في ظاهره، إلا أنني لمست ارتجافه خافتة خفية، صمتُ لتكمل حديثها لكنها فعلت المثل كأنها تبارزني بالأطول منا سكونًا، حثثتها على الاستمرار أكثر بسؤالي:

-لكنكِ لم تخبريني، وكأنني ما زلتُ في السابعة من عمري وليس في السابعة عشر، لماذا أمي؟ 

وضعت يدها فوق كوب الماء بينما بدأ النادل بوضع الصحون فوق مائدتنا وقالت:

-لا أعرف، فقط أردت ألا أخبرك، ظننت أنني سأحطم ما تتوقعينه منيّ!

سألتها بصوت منكسر:

-أتخالين أنكِ لم تفعليها الآن؟ ألم نقسم أن نساند بعضنا حتى بأحلك الأوقات يا أمي! 

أمسكت الكوب بيدها وتجرعت ماءه دفعة واحدة، وما إن وضعته فوق المائدة حتى قالت بضيّق:

-لماذا لا تفهمين؟ كان علىّ ترك العمل بأسرع وقت، حتى إنني لم أمتلك الوقت لجمع كل أشيائي الخاصة بالمكتب. 



صمتُّ وبدأت بتناول فتات خبز لم تستطع حنجرتي إمرارها لجوفي، حاولت ألا أضغط عليها أكثر، ثم همستُ بجدية بعد فترة:

-حسنًا، سنواصل حديثنا في وقت لاحق، أما الآن فمن فضلك أخبريني عما سنفعله وقد عدنا إلى وطننا الأم. 

بللت شفتيها وقالت بابتسامة يشوبها بعض البهتان:

-الآن سنذهب إلى مسقط رأسي حيث خالي إدريس. 

زويت ما بين حاجبي وسألتها:

-خالكِ إدريس؟ لم أعرف أبدًا أن لديكِ خال!

ابتسمت بتؤدة وقالت:

-إنه ما بقي من عائلتي الصغيرة. 

بادلتها الابتسام، وفي غضون لحظات رطبت شفتاي بلساني ثم سألتها:

-جيد، إذًن هل سأتمكن من زيارة أبي؟ 

تلاشت ابتسامتها على الفور وقالت بصوت أصابته بحة:

-لنقل أن الأمر يعتمد عليه لا علينا.

لم أرفع نظري إليها، قررت أن أتغاضى عما قد يؤرق عودتنا سالمتين إلى الوطن المهجور، وبدأت أتناول الطعام مستمتعة بأجواء المطعم وقد بدأ الزبائن يتوافدون. 


*****************


وصلنا بعد ثلاثة ساعات من وقت أداء صلاة العشاء إلى منزل الخال إدريس، كان العقار قديم الطراز مكونًا من أربعة طوابق؛ ثلاثة منها علوية وآخر طابق سفلي.


صعدنا إلى الطابق الثاني وأخذت أمي تطرق الباب حينًا ومرة أخرى تدق الجرس، لكن جميع محاولاتها باءت بالفشل عندما لم نحصل على جواب، تنهدت بملل وسألتها بصوت متعب:

-إذن ما العمل؟ يبدو أنه لا أحد هنا. 



تأففت أمي بإحباط شديد وكدنا نحمل حقائبنا ونغادر لولا أن انفتح باب بالطابق العلوي في اللحظة الأخيرة، ودنت من الدرج سيدة عجوز بيضاء البشرة، ويلتف حول شعرها الأشيب غطاء رأس منقوش بورود ملونة، وممتلئة الجسد سائلة بصوت قويّ:

-منْ يطرق الباب هكذا؟ 

اقتربت أمي من حافة الدرج ومدت رأسها للخارج ناظرة إليها وقالت:

-إنني أثيلة ابنة أنيسة أخت الخال إدريس. 



هبطت المرأة الدرج بخطوات بطيئة، كانت قصيرة القامة، اقتربت منا، دققت النظر بملامح أمي ثم قالت:

-سبحان الله، لم تتغيري كثيرًا منذ زواجكِ. 

لم يبدو بأن أمي تتذكرها جيدًا؛ إذ إن الزمن لابد أنه من خط تلك الخطوط الكثيفة حول جفني عينيها الضيقتين، ولكنها حتمًا غضبت من ذكر أمر زواجها، أردفت المرأة حديثها بحزن واضح:

-لقد ترك خالكِ إدريس البيت منذ خمس سنوات. 

بهتت ملامح أمي ورددت بتشتت:

-ماذا.. خمس سنوات! 

ضمت المرأة شفتيها حزنًا ثم قالت بآهة:

-نعم، منذ توفيت زوجته الغالية، رحمها الله. 

بدت أمي متفاجئة بشدة عندما سألتها بحدة نوعًا ما:

-كيف توفت الخالة أصالة؟ 

تفحصتها المرأة من رأسها حتى أخمص قدمها ثم عادت لوجهها ثانيةً وقالت بصوت نزق:

-الموت واحد وإن تعددت أسبابه!

بلعت أمي ريقها وقالت:

-لم أقصد هذا، فقط لم يخبرني أحد بوفاتها. 



اقتربت من أمي وأمسكت بذراعها وقبل أن أتفوه بشيء قالت المرأة بذهول:

-أهي ابنتكِ؟ تبارك الله.. لم أعلم أنكِ أنجبتِ، فخالكِ كما تعلمين لا يحب الحديث عن أي شيء كعادته.

وضعت أمي يدها فوق ذراعي تتشبث بيّ قبل أن تهمس بصوت مبحوح:

-إنها ابنتي.. غزل. 

ثم استطردت تسأل:

-إذن هل تعلمين أين ذهب خالي، أو حتى رقم هاتفه؟ 

انفرجت أسارير المرأة وقالت:

-انتظري سأنادي زوجة ابني، تعطيكِ رقم خالك من هاتفي. 

ثم صعدت المرأة الدرج بخطوات بطيئة مثلما هبطت وقالت بتذمر:

-لم أعد أرى كالسابق، ووهنت صحتي. 

حينها همست لأمي بنبرة قلقة باللغة الفرنسية:

-هل سنبقى بالخارج في هذا الجو؟ 



بدت أمي فاقدة الحيلة، نظرت إليّ قبل أن تضمني في عناق لطيف بصمتها الذي اتخذته عادةً مؤخرًا، انتظرنا وقتًا بسيطًا حتى عادت فتاة شابة وبيدها ورقة دُون عليها الرقم والاسم. 



شكرتها أمي ثم أمسكنا حقائبنا وبدأنا نهبط الدرج، كدنا نخرج من البناية عندما عادت المرأة العجوز بصحبة زوجة ابنها وقالت بنبرة مؤنبة:

-إلى أين ستذهبان في هذا الوقت؟ اصعدا معيّ وبيتا ليلتكما ثم انطلقا إلى حيث تريدان. 

اعترضت أمي بتهذيب وقالت:

-شكرًا لكِ، لا نريد أن نصبح ثقلًا عليكِ. 

ابتسمت المرأة بود وقالت:

-كانت أمكِ رحمها الله صديقتي، هيا بنتي اصعدي، ولا تخافي من أي ثقل، فابني سيعود من عمله بعد ساعة وسيغادر إلى بيته مع زوجته، فأعود وحيدة من جديد. 



كان الجو بديعًا في الليل، لكن إرهاق السفر حال دون استمتاعي، صعدنا برفقة المرأتين، أدخلنا الحقائب جوار الباب، واستقرينا بغرفة الصالون، بينما قامت زوجة ابنها بتقديم المشروبات الباردة برفقة قطع من البسكويت الطازج. 



سألتني العجوز:

-هل تناولتِ الطعام صغيرتي؟ 

أومأت برأسي مع ابتسامة صغيرة دون أن أتحدث، بينما قالت المرأة بابتسامة صغيرة:

-حسنًا، ولكننا سنتناول العشاء عندما يأتي ابني، هناك ما يكفينا جميعًا من الخبز، الفلافل والجبن. 

لم أعقب بأي حديث، وبقيت عيناي تتأمل الجدران مختبئة من فضول العجوز وكنتها. 



**************** 



ذهبت للنوم بعد العشاء مباشرةً، لم أحتمل الصمود أكثر بقليل وجسدي ينشد الراحة، تركت أمي بمفردها مع الجارة العجوز بعدما غادر ابنها وكنتها. 



كان طلاء الجدران متصدعًا كحال البيت القديم، بينما أغطية الفراش والوسائد نظيفة وزاهية، خلعت حجابي وأبدلت ثيابي بمنامة صيفية للنوم وغرقت بنومٍ عميقٍ. 



وفي الصباح الباكر، كانت أمي ترتدي ثيابها المهندمة وتوقظيني بهدوء هامسة بنعومة:

-استيقظي غزل، لقد تجاوزت الساعة الثامنة. 

لم يكن فرق التوقيت بين البلدين كبيرًا، لكن تعبيّ كان ذو أثر عظيم حتى شعرت بأن عظامي مسحوقة مثل البارود، أبعدت غطاء الفراش بكسلٍ وأنا أتثائب قائلة:

-صباح الخير يا أمي. 

برهة مضت حتى استطعت فتح عيناي جيدًا، تمطعت بذراعي بأريحية ثم أمعنت النظر في هيئتها، سألتها وأنا أنهض بتكاسل من فوق الفراش:

-هل سنذهب الآن يا أمي؟ 

أمسكت حقيبتها الشخصية الصغيرة بعزم قائلة:

-سأذهب لقضاء أمر ما ثم أعود سريعًا، وحينها نذهب إلى الخال إدريس. 



سألتها بدهشة:

-هل ستتركينني بمفردي هنا؟ 

كانت نظراتها ثابتة فوق صفحة وجهي مثل حروفها التي خرجت ثابتة:

-لم تعودي صغيرة غزل، بات عليكِ الاعتماد على نفسكِ بشكل جيد! 



صمتُ وأنا أعلم بأننا على حافة جدال ما، يضاف لقائمة أكثر ما أكرهه من تصرفات أمي، بينما أردفت كأنها لم تقل شيئًا ثقيلًا قبل لحظات:

-لقد ذهب الخال إدريس إلى القرية، وسيكون في انتظارنا كما أخبرني منذ دقائق. 

أنهت حديثها وألقت نظرة خاطفة على المرآة لتتيقن من هيئتها ثم خرجت من الغرفة، بينما بقيت بها بمفردي أتوجس مما هو آت، لا أعرف أي شيء عن الجارة التي أقبع بإحدى حجرات شقتها.. ولا أعلم عن الخال إدريس سوى اسمه فقط. 


حتى والجوع يقرص معدتي لم أجرؤ على التحرك لتناول الطعام، ارتديت ثياب الأمس وأمسكت كتابًا أحاول القراءة قليلًا لعلني أتشاغل عما تفعله أمي، ولكن بعد نصف ساعة سمعت طرقًا خفيفًا على الباب، فكانت العجوز صاحبة البيت التي قالت ما إن أبصرتني:

-صباح الخير، هيا لتناول الفطور. 

واقتادتني إلى الصالون لأشاركها طعام الفطور أثناء مشاهدة البث الحي للأخبار. 


*************


وصلنا  وجهتنا وقت العصر، ورأيت بيت الخال إدريس أقرب ما يكون للكوخ، دخلت أحمل حقيبتي وراء أمي والتي وقفت طويلًا تنظر إلى خالها قبل أن تركض إليه تعانقه وتقبل يديه، كان رجلًا أسمرًا، شعره رمادي أقرب للأسود ومجعد يلتف على نفسه مثل الحلزون، طويل القامة، حاد النظرات، ذو تجاعيد خفيفة حول عينيه، نحيل الجسد قليلًا ورغم ذلك تظنه رياضيًا سابقًا، يغلب اللون الداكن على ثيابه الكلاسيكية. 



أعتقد بأن عاطفية أمي تطغى على تصرفاتها في معظم الأحيان؛ والحقيقة أنني أشبهها في هذا المضمار وإن لم تكن تدري بهذا الشبه. 



إنه يشبه أمي في صمتها العجيب، فلم أسمعه يتفوه في كل سؤال طرحته أمي سوى بضعة كلمات بسيطة، فمثلًا عندما سألته لماذا لم تخبرني بوفاة الخالة أصالة؟ أخبرها بهدوء شديد كأنه يتحدث عن أحوال الطقس:

-لم يكن أي شيء ليتغير. 

جلسنا فوق مقاعد خشبية تبدو للوهلة الأولى متهالكة، إلا أنها فاجأتني بمتانتها، وعدت مجددًا أتأمل ثنايا الكوخ الغريب، طاولة خشبية، ومستديرة في منتصف الغرفة فوقها غطاء بالي لكنه نظيف، يعلوه هاتف أرضى ذو القرص الدوار، وبجواره نظارة طبية مع قلم وبعض الأوراق البيضاء. 



ابتسمت أمي بسعادة شديدة كأنها عادت طفلة صغيرة، الحقيقة أنني سعدت بهذا التغيير في ملامحها المقتضبة طوال رحلتنا الصغيرة حتى هنا، سألته بحنين:

-ألم تشتاق إليّ خالي؟ 

ابتسم ثلث ابتسامة وقال بنفس هدوئه:

-بالطبع أثيلة، هل أكلتم شيئًا ما؟ 

سأل ببساطة قبل أن ينوي النهوض، بينما أجابته أمي:

-تناولنا، حمدًا لله، لم تتركنا الجارة في العقار دون أن نتناول شيئًا قبل المجيء إلى هنا. 

-حسنا فقد فعلت جيدًا. 

قالها بصوت قرير ثم نهض مردفًا:

-هناك بعض العصائر المنعشة، سأحضرها للصغيرة. 

ضحكت أمي برقة وقالت:

-إن غزل في السابعة عشر من عمرها خالي. 

أدار ظهره يتمشى إلى غرفة المطبخ الصغير قائلًا:

-لا يبدو عليها! 



أصابني الغيظ الشديد منه، لم أحبّ أي شخص يخبرني بأنني أبدو صغيرة الهيئة، أشعر كأنه ينقص مقداري، ويقتنص منيّ شيئًا مهمًا، ولم ألجأ سوى إلى صمتيّ؛ خير الرفيق مثل الكتب. 



عاد الخال وبيده صينية العصائر، أخذت كوب عصير الليمون بالنعناع المثلج وبدأت أرتشف منه القليل، ثم وضعته فوق المنضدة القريبة، واستأذنت أمي في الخروج لأرى ما يحيط خارج الكوخ، إلا أن الخال كان من تحدث بهدوء شديد:

-اخرجي ولا تبتعدي كثيرًا. 

تركت حقيبة ظهري فوق الأريكة ثم خرجت ليتحدثا بمفردهما، وتركت العنان للرئتين في استنشاق الهواء النقي. 


******************


توارى قرص الشمس في السماء الزرقاء، مرّت نسمة هواء عليل حملتني إلى ذكريات طفولتي ببلاد المغرب العربي، انطباعي الأول بأن الطقس مشابه، وربما الأناس كذلك وإن اختلف اللباس العام. 



كان الكوخ محاطًا بالعشب الأخضر كأنه يحميه، وبالخلف منه توجد حديقة صغيرة مزروعة بالفلفل الأخضر، الباذنجان، الخيار، البندورة وبعض أنواع الخضراوات التي تؤكل في السَلطة، كُل مقسم في صفوف طويلة داخل السياج، بينما على الجانبين اصطفت بعض أشجار الليمون والتفاح. 



بدا أنه مولع بالزراعة كثيرًا، ويعتني بمزروعاته جيدًا.

لكن رغم ذلك كان الكوخ معزولًا عن أي مباني سكنية بمسافة طويلة، مما أوحى بأن صاحبه يكره الاختلاط، ويميل للعزلة. 


الحق أنني لم أهتم كثيرًا لأن لا شيء سيعنيني عن شخصية الخال إدريس غريب الأطوار. بعد وقت قليل عدت إليهما ووجدت أمي تفرش أوراق جرائد قديمة فوق مفرش الطاولة، ابتسمت ما إن رأتني وقالت:

-هيا ساعدي خالي وأحضري الصحون من داخل المطبخ ورصّيها جيدًا. 

ذهبت صوب المطبخ، كان ما زال يعطيني ظهره ويضع بعض الخل فوق السلطة، أخبرني بينما استدار بهدوئه:

-إن الصحون بالرف العلوي، خذيها ثم تعالي ثانيةً لأخذ الطعام. 


كان بطريقته شيء ما يوحي بالصرامة، أثار فضولي أكثر من تلك الجارة العجوز، ربما لأنها فضفاضة الحديث وليست بهدوئه القاتل! فعلت مثلما قال حتى تجمع ثلاثتنا حول الطاولة نتناول الطعام في صمت شديد إلا من صوت المذياع على إذاعة القرآن الكريم.



فصل من رواية "رجل الكوخ" للكاتبة الشابة نيرة نجدي، الصادرة عن دار دريم بن




author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات