القائمة الرئيسية

الصفحات

كيف تكون أديبًا عالميًا؟.. الإجابة جمال الغيطاني


يوسف الشريف


يقال إن المحلية هي أو طريق العالمية، قليلون من أدركوا هذه الحقيقة، معنى الجملة إنك إذا أردت الوصول بفنك إلى العالم أجمع، عليك بدراسة وتحليل وتفكيك البيئة التي نشأت فيها.


فعلى مستوى الأدب ومع جمال الغيطاني، والذي تحل اليوم 18 أكتوبر الذكرى السابعة لرحيله، كان هناك أدباء أدركوا هذه الحقيقة على رأسهم نجيب محفوظ الذي اتخذ حي الجمالية وتجربته الشخصية قاعدة له للانطلاق نحو العالمية، وفي عالم السينما نرى المخرج يوسف شاهين الذي اعتبر الإسكندرية هي نقطة انطلاقه نحو العالم ونحو المهرجانات والمنابر الدولية.



أما جمال الغيطاني فلم يكتفِ فقط بهذه الحقيقة، بل جعل فنه وسخر قلمه ليكون معبرًا وناقدًا لنفسه ومن ثم لمجتمعه. وهو ما يطلق عليه الكتابة عن الذات أو الكتابة الذاتية، والتي كانت من الأسباب التي جعلت الأديبة الفرنسية آني إرنو تفوز بجائزة نوبل للعام الحالي.


منذ العمل الأول للغيطاني حيث المجموعة القصصية "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" تستطيع أن ترى كل ذلك، من العمل الأول نجح الغيطاني في تحديد معالم وخيوط عالمه الروائي الذي سيستمر حتى العمل الأخير، فأغلب القصص تدور في نفس الجغرافيا التي تدور فيها أغلب أعماله، حي الجمالية حارة درب الطبلاوي تحديدًا والتي تعد في أدب الغيطاني بمثابة مركز الكون كله، قصص لشخصيات يعرفها الغيطاني ويراها في الحي والحارة، وبعد ذلك حين يتحدث الغيطاني في باقي أعماله عن حياته الشخصية ستدرك أن المجموعة القصصية كان الغيطاني أحد أبطالها.



فهو يكتب عن نفسه، وعن أسئلته، عن عالمه الذي يعرفه جيدًا، لا يتردد في أن ينتقد نفسه بقسوة في "دفاتر التدوين"، وأن يعري ذاته ويكشف ما خفي من جوانب نفسه وتفاصيل حياة أسرته واحلامه في أحد أهم أعماله وهو كتاب "التجليات".


بجانب اعتباره أن نفسه وبيته هم مركز الكون ونقطة الانطلاق في عالمه الروائي، أعتبر الغيطاني أن التراث العربي بكل ما فيه من زخم وثراء وقوة يمكن أن يكون أساس جيد لبناء سردية عربية لا مثيل لها في العالم تصلح كنموذج وكمدرسة جديدة.





من هنا تأتي وتتأسس ما أطلق عليه الرواية العربية الجديدة، التي كان الغيطاني ومن بعده صنع الله إبراهيم أول من أسسوها في ستينيات القرن الماضي، كل هذه العناصر والعوامل.. سواء التراث، تعرية الذات، البيئة شديدة المحلية، عند الغيطاني تدخل لتنصهر وتخرج في سبيكة واحدة، هي عبارة عن نص محكم.


هذا النص لا ينفصل عن الحاضر بل يشارك فيه لحظة بلحظة، فهو ليس المثقف الذي يجلس في برج عاجي يؤلف الحكايات ويمزج العناصر ببعضها، بل هو الثوري المتمرد المشارك في الحروب وفي الأحداث والمعلق على كل ما يجري بالفعل والقول والعمل والكتابة.





نراه في عصر ناصر يكتب "الزيني بركات" روايته الأشهر والأعظم، لينتقد الجناح الأمني للعهد الناصري والذي كان سببًا في اعتقاله، ويتنبأ بأن هذا الجناح الأمني سيتسبب في انهيار النظام الناصري وهو ما حدث بالفعل.



وفي عصر السادات نراه وفي كل الكتابات وعلى رأسها "رسالة البصائر في المصائر" يوجه انتقاد لاذع لكل ما يجرى داخل البلاد من تحولات اجتماعية وسياسية خطيرة، وينتقد رؤية النظام التي أدت إلى الانفتاح، وخروج جماعات الإسلام السياسي الإرهابية، والتي ستغتال رأس النظام نفسه بعد ذلك.



مع مرور الوقت يدرك الغيطاني أن التغيير الحقيقي يحتاج إلى فعل أكثر قوة من الكتابة، فيقرر تأسيس مجلة أخبار الأدب، التي أخرجت لنا كل نجوم وكبار الأدباء الذي يعيشون بيننا الآن. هنا الغيطاني يدرك قيمة الفعل والاستثمار في الثقافة والفكر، والرهان على الأجيال القادمة، وأن كل شيء يمكن مواجهته بالفكر والثقافة.




بجانب كل هذه الإنجازات الثقافية والأدبية، لا يكتفي الغيطاني بذلك بل يقرر الذهاب إلى مناطق سردية جديدة ليكتشف عوالم أخرى لا يتخلى فيها عن العناصر الثلاث التي تم ذكرها.


فنراه يكتب "التجليات" وهو كتاب تشتبك فيه لغة التراث مع نقد الحاضر السياسي والاجتماعي للكاتب، مع نقد حياة وشخص وعائلة الكاتب نفسه، وهكذا في ثنائية "حكايات المؤسسة" و"حكايات الخبيئة".


الغيطاني الذي شارك في كل ذلك، كان من الطبيعي على شخص جسور ومتمرد مثله أن يؤرخ للحرب التي عاشها وشاهد تفاصيلها وشارك فيها كمراسل حربي، أن يؤرخ للعزيمة المصرية التي لم تنكسر أو تنحني بعد هزيمة 1967، لتبدأ إعادة الحسابات والصفوف والطريق إلى حرب أكتوبر 1973، بعد أيام قليلة من الهزيمة تبدأ حرب الاستنزاف، الغيطاني لا يؤرخ فقط لحياة الجنود والضباط، بل يؤرخ لحكايات الأشخاص والأماكن كما أعتاد. فنراه يكتب "الرفاعي" و"حكايات الغريب" وغيرهم ليعبر عن كل هذا.





الحديث عن الأديب الفريد والعظيم جمال الغيطاني والذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم، لا يمكن ان ينتهي، فنحن نتحدثعن قيمة إنسانية وثقافية وفنية شاهقة. ولا شك أن أحد أهم إنجازاته الثقافية والأدبية، التي لا تنفصل عن إنجازاته الوطنية، هي أن كتابته حافظت على الهوية المصرية وجعلت العالم أجمع يتعرف على أصالة الشخصية المصرية، وعلى التراث العربي كلل، وعلى عظمة وعمق حضارة مصر.


author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات