حوار: أكرم محمد
بين تداخل النصوص، وتداخل الواقع والخيال، وتداخل الثنائيات تربض نصوص إبراهيم فرغلي. نصوص أدبية لبنية فلسفية تكمل بعضها البعض للبحث عن الإنسان، في واقعه وسجيته، وفي موقعه وسط المجتمعات العربية، عن طريق الهروب للفن.. الهروب للخيال والكتب، التي تتسلل إلى نصوص الكاتب بروحها، مهما اختلفت قصصها وحكاياتها.
تتميز نصوص الكاتب الكبير إبراهيم فرغلي، بطرحها للعديد من التساؤلات الفلسفية حول التناقضات التي يعيشها الإنسان، وكيفية التعاطي مع الثنائيات، من خلال لعبة سردية ممتعة تمزج بشكل ساحر بين الواقع والخيال، والحقيقة والوهم.
بعد صدور روايته الأحدث "الفتاة الإلية" عن منشورات تكوين، تحدث الروائي إبراهيم فرغلي إلى مدونة "مكتبة وهبان"، حول عوالمه الروائية، وسبب اهتمامه بأدب اليافعين، وكيف يرى التطرف الديني من وجهة نظر أدبية، وغيرها من الموضوعات من خلال الحوار التالي:
- لماذا أنت منشغل في كتاباتك بثنائية الواقع والخيال؟
قبل سنوات، ربما في بداية التسعينات كنت أعمل في مجلة روزاليوسف، واحيانا كنا ننزل من المجلة أنا والفنان عمرو سليم، فنان الكاريكاتير، لنتمشى في القصر العيني أو لتناول الغداء. وفي مرة أوقفني وبطابعه المبالغ كان يمسكني من ذراعي ويقرب فمه من أذني ليوجه انتباهي لرجل يقرأ الجريدة على الرصيف ويقول بجدية شديدة "شوف الراجل ده هيقع دلوقت"، والحقيقة الرجل كان طبيعيا لكن عمرو كان يراه يترنح وسيقع، وكان هذا ينتقل لي كعدوى أو هاجس ويجعلني أرسم سيناريو سريعا في رأسي للاحتمالات وما يمكن أن أفعله في حال وقع الرجل أمامنا.
هذا الموقف هو فهمي للعلاقة بين الواقع والخيال في الأدب. الواقع نراه بحواسنا، وهي حواس محدودة، ونتأمل الواقع باعتباره حالة وحيدة، رغم أنك لو شاهدت مثلا مباراة كأس العالم من الدرجة الأولى وأحرز اللاعب الهدف على يمينك، فستظل الصورة التاريخية عالقة في رأسك بهذا الشكل بينما المشاهد في الدرجة الثالثة المقابلة سيرى الهدف ويسجله في عقله من الجهة المقابلة، ودور الأدب أن يريك الهدف من كافة الجهات، وأيضا احتمالات بل وتشكيكك في أن الهدف دخل المرمى من الأساس.
في دون كيشوت يقول سرفانتس في البداية أن دون كيخوتة هو أصلا رجل نبيل فقد عقله بسبب القراءة المتوالية لشهور حتى جف عقله، وأن اسمه هو ألفونسو أو أو السيد كيخادا، أو ألونسو كيخانو. والحقيقة أن هذه الجزئية الصغيرة وحدها تقدم بعض تفسيرات ما ذكره كونديرا عن علاقة سيرفانتس بالحداثة، لأن هذه الإشارة تطرح مفهوما سرديا ثوريا يتعلق بفكرة الشك، بأن ما نعرفه ليس بالضرورة هو كل الحقيقة، وبأن دور الأدب هو أن يقدم لنا الأسئلة التي يطرحها الشك، وليس ما يتوهم أنه الحقيقة. دور الرواية هو إثارة الشك وليس اليقين.
- كيف أثرت قراءاتك على نصوصك الأدبية؟ وما هي المساحات بين ما نقرأ وما نكتب؟
أنا بداية أعتقد أن الكاتب حصيلة ما يقرأ، خصوصا عندما يستمر في الكتابة ويطور مشروعه الأدبي، أو يحاول تجويد أفكاره وإعادة طرحها بأشكال مختلفة، وبين الأسئلة التي أهتم بطرحها في أعمالي غالبا فكرة المعرفة في العالم العربي التي تعاني وتوصف بأنها فقيرة، أو موجودة ولكن لا يراها أحد، تماما كما نرى آثار مصر القديمة ولا نفهم النقوش المكتوبة عليها، أو ألا نقدر مدى أهميتها ودلالاتها. ولهذا افترضت فكرة اختفاء كتب نجيب محفوظ في "أبناء الجبلاوي"، وبالتالي كان لا بد من الاستعانة بفقرات كثيرة من النصوص المفترض اختفاءها، وإن كانت الرواية ترمز ضمنيا أيضا إلى أن محفوظ نفسه لم يًقرأ ويُفهم بشكل جيد رغم الكثير من الكلام الذي يدور حوله. وفي "معبد أنامل الحرير" يتولى السرد في النص "مخطوط رواية" عنوانها المتكتم يقرأها من تقع في أيديهم، وهي تحكي ما يدور من حولها، وأيضا تستدعي سيرة كاتبها المختفي، ومتنها يتضمن نصا حول مدينة تحت الأرض هرب إليها الناس خوفا من قوى تحرم الكتابة والفن والحرية، وهناك انضم مجموعة نساخين لكتابة النصوص التي أحرقتها القوى الظلامية وبالتالي كان لا بد من الاستعانة بنصوص عديدة. أما "مصاصو الحبر"، وهي موجهة للناشئة، فهي تقريبا تتناول الموضوع نفسه من زاوية ثالثة في أجواء رعب وفانتازيا وتشويق وعصرية، لكن النصوص أيضا تحضر فيها لنفس السبب، وبيان أثر القراءة على البشر.
- في المشهد الأول من رواية (قارئة القطار) تمثل تحرر الإنسان من السلطة، وتأثير الماضي عليه، وركضه وراء أحلامه، وتبدأ في تقديم شخصية البطل وبداية أحداث الرواية..فهل تنشغل بالافتتاحية الروائية؟
تختلف بدايات الأعمال الأدبية بشكل عام، حسب عوامل كثيرة، وطبيعة النص، والموضوع الذي يعالجه، وأحيانا يكون المسرح الذي تدور فيه الرواية، خصوصا لو كان محدودا مثل ان يكون داخل قطار قطار، يكون من اللائق تقديم الفكرة الرئيسة مبكرا، مثل فقدان الذاكرة المرتبط بدخول القطار والذي أوّلته أنت بالتحرر من سلطة الماضي، وفي بعض الأحيان قد أجد في نص منشور في كتاب سابق مقدمة مناسبة لكتاب كما فعلت في "كهف الفراشات"، فالرواية تبدأ بآخر قصة منشورة في كتابي القصصي الأول وكان عنوانها "فراشات". فكل نص يفرض عوامل تقترح الافتتاحية المناسبة له من وجهة نظر الكاتب.
- لماذا سيطر التطرف الديني على مجتمعاتنا العربية؟ وكيف ترى دور الفن في محاربة التعصب والتشدد؟
هذا الموضوع مرتبط بفكرة غياب المعرفة أو محاولة وأدها، وفكرة التطرف الديني عالجتها في ابتسامات القديسين، وثلاثية جزيرة الورد بشكل عام، لأني أعتقد أنه موضوع من أخطر ما يواجه المجتمعات العربية ومصر خصوصا، ويحتاج لجهود جبارة تعمل على استعادة العقل المصري من غيبوبته، واستعادة العقلانية التي غيبتها ظروف الإهمال المرعب للتعليم والإعلام طوال عصر مبارك، وقلة الاهتمام بالعلوم وحاليا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أصبح نشر الجهل والتخلف أسهل بكثير من محاولات نشر الوعي واستعادة الوعي والعقل، ولا أمل إلا بالفنون والتعليم والثقافة. ستجد الهاجس نفسه في أشباح الحواس، وهي مجموعة قصصية كان بها تركيز على فكرة أوهام الحواس وعلاقتها بغياب العقل النقدي شيوع العقلية الغيبية. وهي كلها موضوعات وثيقة الصلة باستلاب العقل وتقييده بما يعطله عن تحريره بالفكر والعقلانية.
- في روايات مثل "قارئة القطار" و"معبد أنامل الحرير"، يتأثر البناء الفلسفي بفكرة بيع الوهم والتسويق له .. فكيف ترى هذه المعضلة؟ وكيف ترى تأثيرها على البناء الفلسفي لرواياتك؟
أحاول منذ فترة وخصوصا خلال السنوات العشر الأخيرة فهم التغيرات المرعبة التي طالت الشخصية المصرية، والعنف المثير للأسى الذي أصبح سمة ملازمة لكل الفئات، وتبينت أن جزءً كبيرًا مما يحدث له علاقة بغياب النقد الذاتي، واستسهال انتقاد الآخر. المهم أن تكون المشكلة بعيدة عني، وهذه السذاجة والمراهقة في التعامل مع العالم تبدو لي نتاج عدم نضج لشخصيات تنتقد القمع ولكنها تمارسه على غيرها وبسلاطة، وتتحدث عن الحرية من دون تمييز للفروق بين الحرية والعقلانية والفوضى، وهذا الاستسهال يجعل الفرد يتبنى أوهاما ويصدقها ثم يسير خلفها باعتبارها الحقيقة والحيدة ويظل سائرا خلفها بلا أي مراجعة. ومنذ اندلاع ما أسمي الربيع العربي، وما شهدناه بعدها، من تحولات كبيرة قضت على بعض الدول تقريبا، وتسببت في متاعب كبيرة لدول أخرى، كان واضحا أن المشهد كله يحتاج لإعادة تأمل لكل شيء وإعادة فهم كل ما كان مستقرا بما في ذلك فكرة الحرية والديمقراطية والثورة والتغيير، وما آلت إليه الأوضاع كشف في جزء منه خططا غربية وخارجية، وتحول مشروع الثورة من أجل الحريات إلى ثورة من أجل الهوية الواحدة والوحيدة!! كما كشف زيف وادعاءات الكثير ممن ركبوا الموجة. ولهذا في أوضاع كهذه على الأدب ان يحاول الاقتراب والفهم، وإعادة طرح السؤال من نحن؟ ما هي هويتنا الحقيقية؟ ما هي أوهامنا عن ذواتنا وعن العالم؟ وما أسباب أن يعيش مجتمع في الوهم ولا يحاول أن يقترب ويرى نفسه في مرايا الآخر؟ والأهم كشف فكرة الزيف النابعة من تبني الأوهام لأن المزيف مقلد، يقلد آخرين طول الوقت، يقلد ثوارا قرأ عنهم في كتب التاريخ، يقلد أشحاصا شاهدهم في الأفلام، يقلد أشخاصا يتمنى أن يعيش مثلهم، والنتيجة مسوخ مزيفة لا ترى مدى قبحها خصوصا وهي تدافع عن مثاليات وأخلاقيات وهي أصلا مزيفة. وهذا بالفعل كان بين ما اهتميت بتناوله بشكل فني في الروايتين المشار إليهما في سؤالك.
- كتبت عدة روايات لليافعين، مثل "مصاصو الحبر"، و"مغامرة مدينة الموتى"، وروايتك الأحدث "الفتاة الآلية".. فما سر اهتمامك بأدب اليافعين؟ ولماذا لا يوجد اهتمام كبير بذلك اللون من الكتابة؟
الكتابة لليافعين ليست مهملة فقط بل تكاد تكون معدومة. الأعمال الموجهة لليافعين عربيا تكاد لا تكون رفين في مكتبة، وهو في تقديري تعبير عن نقص فادح في المكتبة العربية، وكاشف للكيفية التي ننظر بها لهذه الفئة العمرية وإهمالها. الرائج منها هو الأعمال المترجمة، وخصوصا لو كانت منقولة للشاشة، وبشكل عام تغيب لدينا ثقافة كتب اليافعين، ولا تزال هناك التباسات في الأعمار المناسبة التي توجه لها هذه النصوص. ولو تأملنا العدد الرهيب الذي يصدر من الأعمال الأدبية لهذه الفئة في الغرب والمعروف تصنيفها بـ Young Adults لتبينا مدى فقر مكتبتنا العربية في النوع الأدبي والفئات والخيال والأفكار. ومحاولاتي للكتابة لليافعين تعبر في مجموعها عن محاولة فردية لإلقاء حجر في بحيرة راكدة، فحتى لو تحمست وكتبت فلن تجد دارا تتحمس لنشر الكتاب، وإن تحمست فلن تولي أهمية لإخراجه فنيا بشكل لائق، والتعامل معه بشروط هذا النوع من الأدب والترويج له بالشكل الواجب. ولهذا أنا سعيد جدا بصدور الرواية الأخيرة مع منشورات تكوين لتفهمهم لهذه الشروط كلها وبسعة صدر.
- دائما ما تتداخل النصوص في رواياتك، لتخلق بنية روائية تقوم على الثنائيات، سواء الفلسفية أو خطوط الحبكة.. فكيف ترى موقع تداخل النصوص في الأدب؟ و هل تهتم أن يكون الخط الأول من العمل تمهيدا للآخر؟ وكيف ترى اللحظة المناسبة لتداخل النصوص؟
صحيح. كانت الفكرة بدأت مع أولى رواياتي "كهف الفراشات"، فبعد عشر سنوات من كتابة القصة القصيرة لأجل إنتاج مجموعة قصصية تعبر عن صوت خاص بي ولا يشبه صوتا آخر، وهي الفترة التي قضيتها لأنشر أول كتبي "باتجاه المآقي"، كنت أتهيب جدا كتابة الرواية، وحاولت عدة محاولات قبل أن أقع على خط المزج بين الواقع والخيال فيما يشبه نصين متوازيين في متن واحد، وبعد "كهف الفراشات" التي تدور بين عالمين أحدهما خيالي داخل كهف أسطوري والآخر في الواقع المعاصر في مدينة شرم الشيخ؛ بدأت أفكر في استثمار هذا الشكل ليكون سمة في أعمالي.
ولكن عادة ما أبدأ بفكرة واحدة وأكتب فيها وأنتظر الخيط الذي يمكن منه أن أنطلق في تكوين عالم آخر ثم البحث عن المفاصل الرمزية أو السردية التي أربط بها بين العالمين. في ابتسامات القديسين كان صوت عماد القادم من عالم الموت كراو هو الحيلة التي لجأت لها، وفي "أبناء الجبلاوي" استخدمت أصوات القرين المتعددة كنبرات سردية تتصارع على حكي النص، ثم وضع هذا كله في إطار فانتازي واعتبارها رواية داخل رواية، وفي "معبد أنامل الحرير" كان هناك رواية تتحدث عن نفسها وعن كاتبها، ثم يمسك بها أشخاص وتتوالى قراءة المكتوب بها وهكذا.
- في تمهيد روايتك (أبناء الجبلاوي) ذكرت جملة الأديب ماريو يوسا، في حوار أجراه مع الصحفية، والشاعرة جمانة حداد "الرواية لا تروي الحقيقة، وإن أوهمت بذلك، فهي مملكة من الخيال و الفانتازيا والكذب".. فكيف يرى (إبراهيم فرغلي) موقع الرواية من الواقع .. وكيف يرى تأثير الواقع على الأدب و الفن عامة؟
الرواية هي فن اختبار الواقع وفهمه. ولذلك فهي ليست نقلا للواقع أبدا وإلا غدت تقريرا خبريا أو وثائقيا، بل هي محاولة لفهم الواقع بحثا عن الحقيقة. محاولة اختلاق عالم فوق واقعي، يشبه الواقع ولا يشبهه، يحوم حوله ولا يقلده أو ينسخه، محاولة التسلح بعين روائية تشبه أجهزة المسح أو الأشعة لرؤية وتشخيص الوعي الفردي وتحليله وفهمه. ولذلك فكل مثلا ما يقال اليوم عن أدب محافظ أو مهذب أو البحث عن الحدوتة باعتبارها رواية، أو كثير من الخرافات المتداولة هي محض عدم فهم لمعنى الرواية الحقيقي، التي تعد فن الكذب السردي لأعلى قدر من الاحتراف من أجل الوصول إلى الحقيقة الروائية أولا وتتمثل في مقاربات فهم الواقع من العقل البشري القاصر الذي يسلم نفسه للغرائز بدلا من أن يسيطر عليها لأجل إنسانية حقيقية.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب