القائمة الرئيسية

الصفحات

"بداية ونهاية".. بين قسوة الواقع وخفايا النفس البشرية

 


مينا سعيد


فإذا وقفت أمام حسنك صامتا

فالصمتُ في حَرَم الجمال جمالُ 

كَلِماتُنا في الحُبِّ.. تقتـلُ حُبَّنَا

إن الحروف تموت حين تُقــال


بنفس ذلك المنطق الذي كتبه نزار قباني، أتساءل كيف لي أن أكتب رأيًا في عمل من أعمال الأديب نجيب محفوظ؟! ولكن إن كان كثيرون من النُقاد والأدباء والقُراء المخضرمين قد تناولوا أعماله بشكل أكاديمي فما هذة المراجعة إلا توثيق لرأي شخصي من قارئ متواضع لتسجيل تجربته مع النجيب وليبقي الأمر محفوظًا.


في تحفته الفنية؛ "بداية ونهاية" قدم لنا الأديب الكبير نجيب محفوظ لوحة أدبية تنتمي إلي الروايات الإجتماعية الواقعية وقد صدرت عام ١٩٤٩ وهي مستوحاة من قصة حقيقية. 




وتبدأ الأحداث بنهاية حياة موظف وعائل أسرة من الطبقة الوسطى، أسرة مكونة من زوجة وثلاثة أبناء؛ حسن وحسين وحسانين علي الترتيب وأختهم "نفيسة" التي لم تحظى بأي قدر من الجمال مثلما حصدت النصيب الأكبر من الدمامة.


یذهب ضابط إلى مدرسة حسنين وحسين لإبلاغهما بوفـاة والدهما ليعودا منزلهما في حزن مُغلف بالتعجب فقد تركاه صباحًا في صحة جيدة، وهذا الأمر تتبعه تدريجيًا انهيار إقتصادي عانى منه كل أفراد الأسرة، لنجد الأم ذات الشخصية القوية تواجه هذه الضائقة المالية بأن تبيع أثاث منزلها قطعة بعد قطعة وفي إسقاط ذكي من الأديب الكبير يجعل الأم تهبط بأولادها إلى البدروم دليلا على سقوط الأسرة من الطبقة الوسط، وهكذا تنقلـب الحياة الميسورة إلى ضيـق بل أن القارئ يجد الألـم والوجـع يخترق كل جوانب العمل كما تري الفقر يطل بوجهه القبيـح من بين كل سطر؛ فقر مادي وأخلاقي.


نرشح لك: تبدأ بـ 5 جنيهات.. تعرف على مبادرة بيع الكتب المخفضة بـ مكتبة وهبان


 فنجد حسن الابن الأكبر والذي ترك التعليم واتجه للعمل كمطرب، ولكنه فشـل في ذلك أيضًا، فأتجه لأعمال البلطـجة وتجارة المخدرات، وساعده على ذلك بنيته القوية، وهيئته الضخمة، ومع الوقت يصبح حسن مجرم مطلوب من العدالة.


 أما حسين الأخ الأوسط فكان الأكثر تضحية والتزامًا عكس أخيه حسنين الأخ الأصغر الأنـاني الذي لايضحي وأكثر أخوته طمـعًا وحبًا لذاته والذي يستغل رقة قلب أمه تجاهه كابنها الأصغر، ويستغل كرم أخلاق حسين وتضحيته بعدم استكمال تعليمه ليُفسح المجال لأخيه الأصغر لإكمال البكالوريا، كما يستغل أخيه الأكبر حسن ماديًا ليلتحق بمدرسة الضباط، حتي أخته نفيسة والتي أصبحت تعمل خياطة للمساعدة في مصاريف البيت، لم تسلم من استغـلاله المادي. 


مع مرور الأحداث الشيقة جدًا، تسير الأحوال من سـئ إلى أسوء؛ فبعد أن أصبح حسنين ضابـطًا وبدأت أحوال الأسرة في التحسن ماديّا نجد الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن؛ فيتفاجأ حسنين بما وصلت إليه نفيسة من فسـاد حتى أنه تم القبض عليها كإحدي فتـيات الليل فيقرر قتـلها، ولكن نفيسة كان لها رأي آخر، وحدثت المفاجأة في نهاية حوارهما؛ مفاجأة في مصيـرهما، مفاجأة لـــ حسنين ونفيسة وللقارئ أيضًا.


يُلاحظ القارئ المدقق ثنائية متضـادة طوال الرواية، هـذه المفارقة الثنائية تبدأ من عنوان العمل؛ "بداية ونهاية" البداية كانت بالموت وكذلك النهاية، كما نلاحظ أن بداية الرواية تُعد بداية النهاية للأسرة.


ثنائية أخرى كانت مع شخصية هامة ومحــورية في العمل وهي "نفسية" فيرى القارئ معانتها النفسية ويتعاطف معها ثم يتتبع قصة انحرافها بعدما خدعها حبيبها وسلـبها أعزّ ما تملك، فتجد نفسك تحمل مشاعر ثنائية متضاده تجاه هذه الشخصية ما بين تعاطف وحب وبين إحتـقار وكره.


نرشح لك: رودينا موسى تكتب: الثقافة في زمن المتحرشين الجدد


ثنائية أخرى جديرة بالذكر؛ هي تعامل أفراد الأسرة مع حسن الأخ الأكبر والذي استقل بنفسه فإن كان لا يستطيع الإنفاق على أسرته التي أصبح مسئولًا عنها، فلا أقل من أن يريحهم من هَمِ نفسه.


 ولكن نظرة الأسرة له، وخصوصًا حسنين، كانت تحمل هذه الثنائية المتضـادة تجاهه؛ فإذا تعثر أحد أخوته اتجه إلى حسن ليدبر له بعضًا من مال حتى لو كان من عيشقته أو حتى كان مصدره تجارة المخـدرات، أما وإن لم يحتاجوا منه مالًا ساءت أخلاقه وتصرفاته في عيونهم، وقد عبر أديبنا الكبير ببراعة عن هذا المعنى، وأذكر منها ما جاء على لسان حسن حينما دعاه أخاه الأصغر حسنين بعد ما أصبح ضابـطًا إلى أن يحيا حياة شريفة فنقرأ: 


"حياة شريفة، حياة شريفة؟! لا تُعِدْ هذة العبارة على مسمعي فقد أسقمـتني. ميكانيكي بقروش معدودات في اليوم، أهذه هي الحياة الشريفة؟! السجـن أحب إلي منها! ولو أنني استمسكت بها طوال حياتي لما حليت كتفك بهذة النجمة! أتحسب أن حياتي وحدها غير الشريفة؟ يالك من ضابط واهم!. حياتك أنت أيضا غير شريفة، فهذه من تلك، ولقد جعلت منك ضابـطًا بنقود محرمة مصدرها تجارة المخـدرات وأموال هذة المرأة، فأنت مدين ببدلتك لهذه المومس والمخـدرات، ومن العدل إذا كنت ترغب حقًا في أن أقلع عن حياتي الملوثة أن تهجر أنت أيضا حياتك الملوثة، فأخـلع هذه البدلة ولنبدأ حياة شريفة معا"


تجلت الثنائيات المتضادة في الشخصية الأكثر درامية في الرواية؛ حسنين الأخ الأصغر، فتجده مثلًا يقبل أن تضحي أخته وتعمل خياطة، لكنه يرفض أن يكون أخ للخياطة.


هذة نماذج من ثنائيات متضادة عبقرية أوجدها قلم النجيب ليبرز المعاني ويوضحها ويضفي جمالًا على جمال الرواية.


في الرواية حسن يمثل الشخصيات الفاسدة من البداية للنهاية رغم طيبة قد تحملها في قلوبها، وحسين يمثل القاعدة العريضة من البشر الذين يحاولون مقاومة الشـر فيـقع ويقـوم، ثم يقـوم ويـقع وهكذا، أما حسنين فهو كل انتهـازي حقـير قابلته في حياتك وما أكثرهم؟!


ولكن هل لاحظت أن أصل الثلاثة أسماء؛ حسن وحسين وحسنين من الحُسن أي الحلاوة والجمال؟! هكذا وبمنتهى، الذكاء يُحيلنا الكاتب إلى أن الأصل في الإنسان واحد؛ هو الجمال، أما مصـير كل إنسان ففي يده وعن أفعاله سيحاسب، لكن مهما ساء حال أخي الإنسان لابد أن أعرف أنه مثلي في الإنسانية وإن جعلته ظروفه يحيا بطريقة مختلفة عني، وحتى أختهم سماها نفيسة؛ أي غالية وثمينة، ومهما أخـطأت فهي إنسان، ومَن مِنا لا يُخـطئ؟! أما الأم فتركها دون اسم حتى يرى فيها القارئ كل أم ضحت وتعبت من أجل أبنائها وهي قـوية، ثـابتة، شامـخة. هكذا أمور ونقاط قد تبدو عادية، لكنها تحمل منتهى العبقرية. 


وفي الرواية أيضًا اختار الأديب الكبير الأسلوب الأشهر في الكتابة وهو الراوي العليم ولكنه فأجأ القارئ وطور الهجـوم، فتجده بدأ بصوت الراوي العليم خارجي غير متداخل في الأحداث، فقط يرويها، ولكن مع مواصلة القراءة تجد الصوت الخارجي تحول لصوت داخلي لشخصية من شخصيات العمل، ثم يتحول السرد إلى حوار فتجد الحوار مُطعم بالسرد في خلـطة عبقرية جمع فيها أديب نوبل بين الفخامة والسلاسة كما جاءت كل هذة التنقـلات بين الأصوات بشكل مريح دون مطـبات أو كـسر لإيقاع العمل، لغة حملت من الإبداع الكثير، فنقرأ مثلًا:


 "لله ما ألطفه وما أعذبه، لم يكن مثله أحد في الرجال. مـات. مـات. لن أنسى ما حييت إيماءته إلى صدره وهو ملقى على الكنبة.. أبي يستغـيث ولا مغيث. لتنــدك الجـبال على الأرض. حياة بغـيضة مفجـعة لا خير فيها".

 


الرواية حين تحولت إلى فيلم سينمائي أصبح عمل فني مميز، لا يمكن أن ننسى دور سناء جميل التي قدمت أداء متقنا وعظيما. جعل سيدة الشاشة العربية؛ فاتن حمامة تعترف بهذه الحقيقة لمخرج الفيلم الأستاذ الكبير صلاح أبو سيف، الرواية العظيمة تحولت إلى فيلم عام ١٩٦٠ وكان أبو سيف قد رشح النجمة الكبيرة فاتن حمامة لتلعب دور نفيسة لكنها خشـيت من الدور حيث ستظهر في الفيلم بدون أي مكياج، وأقرب إلى القبـح من الجمال، فى الوقت الذي سيلعب زوجها ـفى هذا الوقت عمر الشريف دور حسنين الشاب الطموح الذي يدفعه طموحه إلى التبـرئه من أهله، وما شجعها على الرفض أن جزء كبير من الفيلم سيمثله عمر الشريف بالزي العسـكري المُحبب إلى الفتيات، فأعتذرت لمخرج الفيلم بإنشغالها بأفلام أخرى، لكن فى نهاية العرض الخاص للفيلم والذي حضرته سيدة الشاشة أبدت أسـفها وندمها. 




والجدير بالذكر أن "بداية ونهاية" أول روايات نجيب محفوظ التى تحولت لفيلم سينمائى، وتم ترشيح الفيلم لنيل جائزة مهرجان موسكو السينمائى الدولى ١٩٦١م. كما ترجم الرواية إلى الإنجليزية الأستاذ رمسيس عوض عام ١٩٨٥م عن طريق قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. وتُرجمت إلى الإسبانية عام ١٩٩٤م وإلى الألمانية عام ٢٠٠٢م. كما ترجمت إلى الفرنسية عام ١٩٩٦م بعنوان "يأتي الليل (Vienne la nuit)كما تحوّلت عام ١٩٩٣م إلى فيلم مكسيكي.

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات