أكرم محمد
كثيرة هي الروايات والأعمال الفنية بشكل عام، التي استطاعت التعبير وتلخيص مدى التغيرات التي طرأت على المجتمع المصري في العصر الحديث تحديدًا ما جرى للمجتمع بعد نكسة يونيو ٦٧، وحتى الآن من تغيرات كثيرة ومتلاحقة على كافة الأصعدة.
والآن سنتحدث عن واحدة من هذه الأعمال التي رصدت هذه التغيرات، وعبرت عنها أديبًا وفنيًا وحللتها بأسلوب ساحر وممتع، يجعل القارئ يتأمل من جديد ما حدث في الماضي، وينظر إلى الحاضر والمستقبل نظرة مغايرة. وهذا العمل هو ثلاثية "جزيرة الورد" للكاتب إبراهيم فرغلي، الصادرة عن منتشورات المتوسط.
- ابتسامات القديسين
يشيد إبراهيم فرغلي في الجزء الأول من ثلاثيته، عالم من التشدد بشكل عام، منطلقًا من التشدد الديني، الذي يحاربه الفن، والحب، والتمرد، ويبدأ من هذه النقطة الضئيلة ليخرج إلى فلسفة الإنسان، ومخاوفه، ويشملها بكتابته، عن طريق زيارة أحد شخصيات الرواية حنين للقاهرة، وتعرفها على حياة أبيها، ومحطاته، ونزواته، التي تسرد على أنغام أغنية منير "شبابيك"، تأليف مجدي نجيب، فنرى حكاية هذا الذي "سرق عمره من أحزانه".
فما بين حبه الأول "كريستين"، ودخوله جماعة الإخوان المسلمين، بعد فراق الصوت السردي الأهم في العمل "عماد"، وتمرده على أميرها، وكيانها، وانضمامه للتمرد مع "ماري"، وعودته لحبه الأول.
تبني الرواية شخصيات، لتبني الشخصيات أصوات سردية، لتبني الأصوات إسقاطات إجتماعية، وسياسية، وفلسفية، ورمزيات، ومع اختلاط الأصوات تبنى جغرافيًا المكان، بمشاعره، وحنينه، وكل ما يعبر عن علاقة الإنسان بالماضي، خاصةً المكان المحوري "المنصورة"، التي يبدأ منها كل شيء وينتهي عنده، فما بين ثنائية المحطات، والنزوات، يأتي دور المنصورة في حياة رامي، التي تمثل، برفقة باقي الشخصيات، الإنسان، وبالأخص المصري، عن طريق تاريخ واقعي للشعب، الذي انتشر فيه التشدد الديني، مستلهمًا تاريخ تحولات الشعب، ليخرج منها بلوحة للمصري، والإنسان، تزينها أغنية منير: "غيرت ياما كثير أحوالي وأنا كنت عاشق.. عاشق وكان يحلى لي".
الأغنية بكلماتها تمثل تأثير التفاصيل في المشهد وبناء رمزية، سواء فلسفية أو فنية، في العديد من المشاهد، مثل: الكتب، والأغاني.
ليصنع الكاتب في الجزء الأول من الثلاثية، ومن مزيج مختلف من التقنيات الأدبية والروائية، تمهيد لأحداث لا تؤثر فقط في مجرى أحداث الرواية التي هي عمل فني يصنف كخيال، بل أيضًا أحداث أدت إلى تحولات في الواقع الحقيقي المادي.
- جنية في قارورة
يكمل "فرغلي" خطوط ثلاثيته، عن طريق إكمال الأحداث، ويكمل، أيضا، النظرة الفلسفية، التي تم وضع أساساتها في الجزء الأول، وهي: التشدد، لكن يزيد، عن طريق الجزء الذي يعتبر إضافة، واكتمال، سواء سرديا أو فلسفيا؛ فتشمل الفلسفة الموت، والتحرر، والتمرد، والجنس، منطلقا من نقطة التشدد، بكل معانيه، وسماته، ويتعمق، من هذه النقطة، أكثر في تحولات المجتمع المصري، عن طريق إكمال الخط الغير مكتمل في الجزء الأول.
حنين، هذه التي تعيش قصص حب، ومغامرات جنسية غير مكتملة، خاصة بعد وفاة أبيها، حتى تصل لمرحلة العشق، غير المكتمل، وفي مصر عندما تأتي لإنجاز بحثها، الذي يعكس الكثير من المجتمع المصري.
وعن طريق ثنائية الواقع والخيال، روائيًا، وكذلك الجمع بين الأصوات السردية، التي تقدر أن تجمع بين خطين تسير فيهم أحداث العمل، بسرد متوازي، منحاز لخط حنين الروائي، فيسير الخط الأول بصوت عماد السردي، الذي يحكي عن رحلته بعد الموت، التي تعكس جانبا فلسفيا يخرج، أيضا، من نقطة التشدد، ويكون هذا الصوت بطلا سرديا، في بعض الأحيان، في فصول عن حنين، التي تحتل حكايتها، وتفاصيلها الخط الثاني، الذي يحمل تفاصيل تملأ فراغ تفاصيل حكايتها في الجزء الأول "إبتسامات القديسين"، وتذهب من نقطة وفاة الأب رامي إلى الماضي، وتفاصيله، والحاضر، في العمل الروائي، عن طريق اللغة، التي تتأثر بالزمن، ولغاته.
- مفتاح الحياة
يضع الجزء الثالث، الجزء الناقص، والأخير من النص، وهو الجزء المتعلق بشخصية كريستين، الذي مهد له في الجزء الأول، ويكمل علاقة المكان بهذا النص؛ حيث المنصورة، التي لا تمثل فقط الجغرافيا، وحدود المدينة بقدر ما تمثل حدود الشخصيات، التي تلعب المدينة جزء أساسي في تكوينها، فلا تكون المدينة هنا مجرد مكان، يحده الحدود الجغرافية، بل تكون مدينة منطلقة من موقعها إلى كل البلاد التي زارتها شخصيات العمل؛ لأنها تبقى بروحها، ودورها في بناء الشخصيات، وحتى في تقديم نظرة فلسفية تخرج من إطار علاقة الانسان بالمدينة، وتأثير الماضي عليه للنقطة التي سيطرت على الثلاثية، وهي التشدد.
المكان لا يمثل، حتى، النظرة التاريخية لمدينة بقدر ما يمثل النظرة الشخصية لمدينة، عن طريق عين الشخصيات، وأهمهم كريستين، وهي الصوت السردي الأهم في هذا الجزء.
عن طريق المكان، الذي يتم التركيز عليه، وعلى تفاصيله، ومشاعره في هذا الجزء دون غيره يبنى عالم من الحنين، الذي يخرج من حكاية كريستين، التي تتلى، في جزء كبير، بصوتها السردي، ويتم التركيز على تفاصيل حياتها، بداية من علاقتها بأصدقاء الطفولة، التي تكونت من رامي وعماد وبسنت وجاكي وغيرهم، وهي شخصيات تحمل كل منهم حكاية، منهم من سرد، ومنهم من يسرد من نظرة كريستين، ومشاعرها، ذهابا لقرار الرهبنة، الذي تزامن مع إنضمام رامي لجماعة الإخوان المسلمين، ليدلل النص على شموله لمفهوم التشدد، منطلقا هنا من التشدد الديني، ومنطلقا في الجزء الأول من التشدد في العرق، والجنسية، قبل الغرق في الإسقاط على التشدد الديني، مرورا بسفر صديقتها المقربة، وموت عماد، وأخيرا السر الأعظم، الذي ظل نقطة التشويق من الجزء الأول "إبتسامات القديسين"؛ فالتشويق يلعب دور أساسي في السرد، وفي ربط أجزاء الثلاثية ببعضها.
وكذلك، فإن لمشاعر الحنين دور كبير، سواء فلسفيا أو فنيا، في الجزء الأخير من الثلاثية، فيكون الحنين سبب في سرد تاريخي مكثف للمدينة، وآخر مستفيض لشخصية كريستين.
كذلك اللغة الشاعرية في الجزء الأخير "مفتاح الحياة" تمثل عنصر يبني المشاعر، التي تبني بدورها الشخصيات، والعالم الروائي.
ويجمع الجزء الثالث بين صوت كريستين ورامي، المتمثل في أدب الرسائل، الذي يحول تاريخ الأحداث إلى واقع محددة، بعد أن كان تاريخ الأحداث مجرد ملامح للفترة.
وجود أدب الرسائل في الجزء الثالث يمثل ما تسعى الثلاثية لعمله، وهو أن يرى الأدب من كل الزوايا، فنرى نصوص أدبية، وأعمال فنية، وأجناس أدبية مختلفة، وأصوات سردية متعددة، كلها تسعى لهدف واحد، وهو أن يكتب الأدب من عدة زوايا، وكل هذا الاختلاف المنسق يثري النص الأدبي والروائي الذي يهدف إلى التعبير عن الإنسان والوطن.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب