و كإبن بار
سأجمع البحار والأشواق والأفكار الطارئة
وأرسلها بالبريد المضمون
إلى أمِّي
أمِّي التي ما زالت تتنفَّس أوكسجين العبوديَّة
وتلتهم فطائر الإرهاب
منذ أن امتدَّت يد الإنسان إلى الإنسان
وجعلت منه مزرعة لإنتاج الحاسبات الإلكترونيَّة
من ديوان "أساطير يومية" وعبر نافذة قصيدته "هيروشيما" يطل علينا الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين، يرسل إلينا أوجاعه المحملة بالدموع والتنهيدات، يبرز الفرق بين ذاته الشاعرة الحالمة الوديعة والعالم الوحشي الذي نتنفس فيه العبودية، ونلتهم فيه الإرهاب كفطائر، وتسيطر الآلة على الإنسان وليس العكس، كأن الإنسان أصبح عبدًا لها، تتحكم فيه، تحرك مطامعه كدمى كيفما تشاء، فيصنع قنابل ذرية ليفجر بها هيروشيما وناجازاكي في القصف المعروف الذي قصفته الولايات المتحدة على اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية، ويبقى رياض على البر الآخر، لماذا؟ ليرسل لأمه عبر البريد المضمون البحار والأشواق والأفكار. يا لرقتك يا رياض!!
سأجمع الصحف و المقابر والحانات
الاعلانات والشوارع وأماكن العبادة
وأعبِّئها بمحفظتي
كما تعبِّىء الفلاَّحات جرار الماء
من الينابيع البعيدة
أدخِّن بهدوء
ناظرًا إلى الفظائع المنتشرة
كانتشار الذباب فوق قطعة حلوى
هنا الماء وهنا الصحراء
هنا العطش حتَّى الارتواء
يفتح رياض قلبه أكثر فأكثر ليفيض منه الجوع للإنسانية، الذي يجعله يفكر في لف الأرض؛ لجمع الصحف، المقابر، الحانات، الإعلانات، الشوارع، أماكن العبادة، لاحظ معي كل ما سبق بعيد، متفرق، وجمعهم محال، هل تقدر أنت يا عزيزي على جمعهم من جميع أنحاء العالم؟ يستحيل كحلمه في طي العالم بأكمله بمحفظته، كتعبئة الماء من ينابيع بعيدة في جرار سيدة بسيطة.
نرشح لك: الشاعر والبحث عن المعنى
وعندما أبحرت أكثر في المعنى شعرت بعمقه، هل يرى رياض هنا أن الصحف التي تحوي الكلمات دون الأفعال، المقابر التي تحوي الأموات دون الأحياء، الشوارع التي تحوي الذكريات دون الناس، أماكن العبادة التي تحوي الفروض دون الروحانيات أكثر جدوى من الإنسان الذي تحول إلى آلة، فيأس منه رياض. ربما. لمَ لا؟
تحرق الدموع عينيِّ رياض وهو جالس يدخن لفائف السجائر، أتصور الدخان يصعد من رأسه لا من أنفه، يتصنع الهدوء الظاهري، وبقلبه يشتعل ألف حريق، يبتسم بخيبة أمل؛ لانتشار الفظائع في العالم كذباب حائم على حلوى. ويردد: هنا الماء، هنا الصحراء، العطش حتى الاتواء، الجوع حتى التخمة.
ثانية واحدة، دعونا نتأمل هذه النفس المتألمة، فمن الطبيعي أن يرتوي الإنسان العادي بعد عطشه، ويأكل فيشبع حتى التخمة، لكن في عالم يغتال الإنسانية كل يوم، نرتوي من العطش، ونجوع حتى التخمة، ويا لجوعك وجوعنا معك يا رياض..
من الحوانيت
لتعلِّقها في غرفتك
بجانب لوحات فاتح المدرِّس
هنا الماء و هنا الصحراء
هنا القيود الممتلئة
و هنا القلوب النحيلة
و من المطاعم كما في الحقول
من المدافن كما من علب الكبريت
تخرج حجافل الاستعمار
لتكتسح الأناشيد و الأفئدة و أقلام الحبر الجاف
تعالوا... تعالوا
أيُّها الهولنديُّون و الدانمركيُّون و الأمريكيُّون
تعالوا لنشرب القهوة و نتبادل الأنخاب
اكتسح الاستعمار الأناشيد والأفئدة وأقلام الحبر، وحشيًا يجعلك تشتري أصابع الأطفال الميتة في الحوانيت لتعلقها كلوحات سيريالة في غرفتك، فقد غرق العالم في مزيد من العبودية، تهاوت انسانيته لأسفل سافلين، وسقطتُ أيضًا معه لعجزك التام عن الفعل والإرادة، هنا وقف رياض في صحة سقوط القنبلة الثانية بين عينيِّ هرومشيا سكرانًا من الوجع.
سأجمع أسماء الطغاة كما يجمعون الطوابع التذكاريَّة
في "ألبوم" ضخم من ورق الأيَّام
أضع فرانكو بجانب سالازار
موسوليني تحت هتلر
السادات أمام سوموزا
سميث بين ساقي سالومي
بآخر دمعة يائسة، وكطفل يركل الأرض، يجمع رياض الطغاة كلهم؛ ليرميهم تحت سنابك التاريخ كخيل جامح يدهسهم جميعا.
الشاعر السوري رياض الصالح حسين (١٩٥٤: ١٩٨٢)، الذي لم يستوعب العالم رهافته الشعرية، رحل عن عمر ثمانية وعشرين عامًا، بعد معاناة كبيرة من الألم البدني والنفسي، فقد عانى من الصم والبكم والفشل الكلوي، وتخلى أهله وأصدقائه وحبيبته عنه في أزمات مرضه، فرحل مبكرًا تاركًا لنا أربعة دواوين هم خراب الدورة الدموية، أساطير يومية، بسيط كالماء واضح كطقلة مسدس، وعل في الغابة والذي نُشر بعد وفاته، وكانت آخر كلمة فيه (الثورة).
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب