القائمة الرئيسية

الصفحات

بعد الإعلان عن ترميم "يوميات نائب بالأرياف" بـ "القاهرة السينمائي".. كيف كان توفيق الحكيم شاهدًا على العصر



دينا الحمامي


بعد أيام تنطلق فعاليات الدورة الرابعة والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ومن ضمن الأفلام التي تم ترميمها والتي ينتظر الجمهور عرضها بشغف كبير، فيلم "يوميات نائب في الأرياف" للمخرج توفيق صالح والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب الكبير توفيق الحكيم. واليوم نتحدث عن تلك الرواية المؤثرة الباقية رغم مرور عشرات السنوات على صدورها. 


تعد "يوميات نائب في الأرياف" لكاتبها العظيم توفيق الحكيم الصادرة عن دار الشروق، من الروايات التي تنتمي إلى الأدب الواقعي فنحن بإزاء عمل يسرد أحداثًا واقعية عايشها الأديب الراحل أثناء عمله كوكيل للنائب العام في إحدى القرى الريفية.



 تعج الرواية بالوقائع التي نجح الكاتب في تضفيرها في بناء حبكة بوليسية محكمة بعدما أدرجها تحت عين الأديب الناقد وبث فيها من روحه المبدعة، فخرجت لنا بصورة ترجمة روائية تراجيدية ليوميات مفتش قضائي تمتلئ بالأحداث الواقعية الطازجة، التي تنقل القارئ إلى عالم سحري للغاية ولكنه واقعي للغاية وقاسي للغاية، للدرجة التي تجعل الرواية شهادة لتلك الحقبة والفترة التاريخية.





بداية من العنوان ولأن الحكيم كاتب بارع يدرك أن العنوان مدخل لروح النص، ولأنه يدرك أهمية الحفاظ على عنصر التشويق بعتبات النص، فاكتفى بالإشارة ليوميات نائب في الأرياف دون الكشف عن ماهية هذه اليوميات أو تفاصيلها. 


ليبدأ بعد ذلك في التأسيس ومن ثم تقديم الشخصيات، فبجانب الشخصية الرئيسية النائب شريف نجد شخصيات أخرى ليست فقط فاعلة ولكن دلالاتها رمزية من بينها الشيخ عصفور ذلك الدرويش ذو الشخصية المحيرة المربكة تقف أمام تفاعلاته مع الأحداث فتجده تارة شخصًا حكيمًا يجيد الربط بين الأحداث وتارة أخرى تجده مريبًا حد التشكيك بنواياه أو حتى بقواه العقلية.  


وفي المقابل هناك شخصية ريم شقيقة زوجة الفلاح قمر الدولة علوان، والتي ترمز لعصر كامل من الظلم والعوز والبؤس والفقر، رغم جمالها الناصع القاصم البارع، إلا أنها لم تحظ بحياة مريحة أو حتى عادية، حتى بظروف مقتلها المروعة حينما وجدوها صريعة في الترعة، وكأنها كما علق النائب على موتها تسدل الستار على قضية مقتل "قمر الدولة " بأكملها بموت "قمرها".


كل هذه الشخصيات تدور في فلك الشخصية المركزية وهي شخصية المأمور، البطل الضد أو المعارض الذي يستغل مهام وظيفته للإجهاز على كل شيء وأي شيء قابل للاستغلال، حتى إنه لم يتورع أن يظهر مطامعه في ريم حينما عرض بأن تقضي ليلة التحقيقات بمنزله، فهو نموذج لا يعبأ سوى بإرضاء ولاة أمره خاصة في لعبة الانتخابات، حتى لو مات الناس بؤسًا وجوعًا وقهرًا.



تدور أحداث الرواية في إحدى قرى الريف المصري وقد ذكر الكاتب معظم المظاهر المميزة له من ترعة ومزارع القصب ودوار العمدة، والجدير بالذكر أن جميع تلك الأماكن ساهمت مع الأبطال في البناء الروائي كأنها شخوص من لحم ودم.


نأتي إلى نقطة الحبكة الرئيسية، حيث تدور الأحداث الرئيسية في الرواية عن حادث إطلاق النار على أحد الفلاحين "قمر الدولة علوان" لينتقل النائب بصحبة مساعده الشاب وكاتب التحقيق والمأمور الذي أصر على اصطحاب الشيخ عصفور رغم اعتراض النائب، ثم ينقل المصاب للمستشفى لتستكمل التحقيقات بعدما دلهم الشيخ عصفور على ريم ليتم استدعاءها هي الأخرى لاستكمال التحقيقات. 


ومن ثم يخلق الصراع، لتتأزم الأمور عندما ينطق المصاب باسم ريم بعدما أفاق من غيبوبته، ليتجه النائب إلى منزلها للتحقيق معها ليجدها قد هربت بصحبة الشيخ عصفور الذي سيتم العثور عليه دونها، كما سيتم فتح التحقيقات مرة أخرى في ملابسات وفاة شقيقة ريم، ليتم اكتشاف أنها ماتت خنقا بعد معاينة جثتها في المقابر.


جاءت الخاتمة على خلاف المعتاد في الروايات بالحقبة التي صدرت بها الرواية، نجدها لم تقدم حلا أو حتى نهاية شبه مرضية، فلا قمر الدولة عرف من هو قاتله الحقيقي ولا زوجته التي هي شقيقة ريم وتمت معاينة جثتها قد استدل على من قتلها، وقطعا لم يعلم أحد من قتل ريم لتطفو جثتها على صفحة الترعة شاهدة على عجز الإنسان وتجرده من أقل حقوقه في هذه البقعة المهمشة من أرض الوطن.  


أما الحوار داخل الرواية فنستطيع أن نقول إنه مثالي، بل وكاشفًا لسمات الشخصيات وحتى لجوانب ضعفهم وغموضهم دون تأثير كبير من ثقافة الكاتب الموسوعية على شخصياته، فنجد لكل شخصية حوار يلائم وضعها الاجتماعي وخلفيتها التعليمية والثقافية. 


يلتحم بالحوار سرد جاء بتقنية الراوي العليم ولكنه راوي يشركك معه في حيرته وحزنه وارتباكه وقلة حيلته وعدم قدرته على تقديم حلول، وبذلك قد بعد عن شراك وفخ الراوي الذي يسرد ويشترك بالأحداث ويعلم بواطن الأمور وظواهرها ويقدم حلولا جاهزة.


مما لا شك فيه أن الأديب الكبير توفيق الحكيم قد برع في السرد وفي صنعة الحوار، ولكن من يلاحظ وصف المشاهد لديه يجدها سينمائية لدرجة متقنة حد الإبهار وسأستعرض مشهدين يوضحان هذه الرؤية:


1- وصف المأمور البارع لدرجة السخرية لمشاهد الانتخابات والتصويت حتى عملية فرز الأصوات فنجده متباهيا فخورا معتزا بمكانته لدى رؤسائه بسبب أنه يمرر لعبة الانتخابات بسيولة وسلام عن طريق ترك الحرية التامة للمواطنين كي يدلوا بأصواتهم بمنتهى الأريحية، بعدها يقوم بجمع كل الصناديق التي تحتوي على الأصوات الحقيقية ويلقيها بالترعة، ويعتمد الصناديق التي يتم إعدادها سلفًا وتكون على هوى قادته، وهكذا يمر الأمر بهدوء شامل وبدون نقطة دماء واحدة.


2- مشهد معاينة جثة زوجة قمر الدولة علوان ووصف الحكيم لرائحة المكان التي تعج بروائح تفسخ الجثث المتحللة، ولكن الذي يستحق استوقاف القارئ هو تباين تعامل النائب والطبيب مع الجثة بالمقارنة مع السائق الذي أخذ يصرخ ملتاعًا مرعوبًا سواء من مأساة جسم الإنسان الفاني مهما طال عمره أو من حقيقة الموت الذي نخطو كل يوم خطوة تجاهه، بينما نجد الطبيب والنائب يتعاملان بكل روتينية مع الأمر لدرجة أن قلوبهما لم تعد تأبه لمنظر فحص الجثث مهما كثرت ومهما تنوعت أسباب فنائها.

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات