يوسف الشريف – إسلام عبده
كلنا نرى ونشاهد المعارك التي تدور مؤخرًا بين نقابة الموسيقيين وبين المغنيين الشعبيين أو ما يطلق عليهم مطربي المهرجانات، الذين أصبحوا وبمرور الوقت أكثر تأثيرًا ووصولًا لفئة واسعة من الجمهور، بل إن أقل أغنية لهؤلاء تتخطى حاجز المليون مشاهدة، كل هذا يدفعنا إلى تحليل تلك الظاهرة شديدة الخطورة، وشديدة الأهمية، لنسأل ماذا جرى في مصر؟ وما علاقة ما جرى في مصر بالغناء الشعبي؟ وهل ساهم هؤلاء المغنيون في تردي الأوضاع الاجتماعية؟ والعديد من علامات الاستفهام التي يمكن ألا تنتهي.
ولكن في البداية إذا عدنا لمشاهدة أبرز المغنيين الشعبيين في آخر سبعين عاما، والذين استطاعوا الاستمرار حتى يومنا هذا، بالتأكيد سنتوقف أمام ثلاثة أسماء لا رابع لهم.. الاسم الأول والثاني الشيخ إمام ورفيقه أحمد فؤاد نجم، أما الثالث فهو أحمد عدوية.
إذا نظرنا إلى تاريخ هذه الأسماء وعلى سبيل المثال إذا نظرنا إلى تاريخ عدوية لوجدنا أنه منذ صعوده حاول دائمًا التجديد والتطوير من نفسه، بالرغم من أن الواقع والتحولات الاجتماعية التي كانت تحدث في السبعينيات كانت لا تساعد سوى على مزيد من العشوائية، ولكننا نجده يتعاون مع واحد من أهم الموسيقيين في تاريخ مصر وهو هاني شنودة. ولكن ما يهمنا هنا هو كيف لعبت الأغنية الشعبية سابقًا في محاولات التغيير والتقدم وماذا تفعل الأغنية الشعبية الآن.
ولذلك سنتوقف أمام ظاهرة نجم وإمام لنتأمل تلك الظاهرة، التي كانت بدافع الخوف والحب للوطن، والأمل في إصلاح الأخطاء والتغيير والتقدم. وهذا وبكل أسف لا يحدث الآن في الأغنية الشعبية التي أصبحت أكثر تأثيرًا في الجمهور ولكن بلا هدف.. سوى إثارة الضجيج ونشر العشوائية والإسهام في مزيد من التخلف.
ربما تتبع تلك الظاهر يعيدنا إلى منتصف القرن العشرين تحديدًا بعدما انتهت ثورة 1919، بحلُوها ومرها ومرت مصر بسنوات شد وجذب وتحولات مهولة على المستوى السياسي والاجتماعي، وكان لهذا التغيير الكبير تأثير على الفن أيضًا، كانت تجربة سيد درويش وبديع خيري أول تجربة لما يمكن أن نطلق عليه الأغنية السياسية التي تعبر عن نبض الشارع، وكذلك مشاعر الشعب، لكن الرحيل المبكر للمجدد العظيم سيد درويش ومع تراجع هذه التجربة، استمر بديع خيري في الإبداع ولكنه لم يعثر على صوت ونغم يشبه رفيقه.
مرت سنوات أخرى حتى جاءت ثورة يوليو 1952، لتدخل مصر مرحلة جديدة على كافة المستويات. حتى في الفن، رغم وجود بعض النجوم، وظهور وجوه جديدة تعبر عن الثورة وطموحاتها وأحلامها. بل أن بعضهم اعتبر صوت للثورة بنجاحتها وإخفاقاتها مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ.
ظلت مصر لسنوات تقدم الأغنية بالشكل الرسمي، كان الكبار مستمرون بالتجارب الجديدة لشباب الملحنين والشعراء، حتى يحافظوا على نجاحهم بالتجديد، فكان العندليب صاحب مشروع خاص مع چاهين والموجي والطويل، ثم ظهر رشدي مع شاعر من صعيد مصر، وملحن شاب، ليحدثُوا انقلاب بالأغنية الشعبية بطعم ولون لم تعرف مصر له مثيل من قبل. ولكن حليم، وبذكائه المعهود، جذب الأبنودي وبليغ، ليقدموا تجارب بنجاح غير مسبوق.
قبل ذلك بسنوات قليلة، وبالتحديد عام 1962، ظهر شاعر غريب الأطوار، كان زميلًا لعبد الحليم حافظ في ملجأ الأيتام، وكان هذا الشاعر يبحث عن صوت له، يعب من خلاله عما يكتبه من كلمات، جذبه من يده أحد أصدقائه لينطلق به إلى حوش قدم في منطقة الدرب الأحمر لكي يتعرف على رجل صعلوك أيضًا مهتم بالموسيقى والغناء.
كان نجم في هذا اللقاء يبحث عن فرصة، ولكن حرارة اللقاء بهذا الرجل الذي ينادونه بالشيخ إمام، واندهاش نجم من الذائقة والثقافة الموسيقية لهذا الشيخ، أنسوا نجم أنه يبحث عن فرصة، فقرر من فرط إعجابه أن يلقي مفتاح غرفته في منطقة بولاق ليقيم مع هذا الرجل إقامة كاملة.
"مفيش كلام"
كان هذا رد الشيخ إمام عندما سأله نجم لماذا لا تقوم بتلحين الحان خاصة بك؟! يَعرض نجم كلمات، لم تُعجب إمام، يمذقها نجم ويلقيها كما ألقى مفتاح غرفته.
"أنا أتوب عن حبك أنا
أنا ليه في بُعدك هنا"
كَتب نجم، وصدح إمام بهذه الكلمات، لتكون هذه الأغنية هي التعاون الأول لظاهرة انتظرتها مصر منذ رحيل سيد درويش. كان من الممكن لهذه الظاهرة أن تأخذ شكل الغناء الرسمي المعهود في مصر في هذا الوقت، ولكن بعد وقوع نكسة يونيو 1967، يقرر هذا الثنائي معًا ودون ترتيب مُسبق أن يعيدوا للأذهان أغنية الشارع السياسية.
بدأت ببكائية حاحا، والعديد من الأغاني التي ذهبت بالثنائي إلى المعتقلات، ومرت سنوات حرب الاستنزاف، ومع ذلك يستمر الثنائي في العمل على الهاب حماس الشارع المصري، يرحل عبد الناصر، ويبدأ عهد جديد للسادات، ويصير انتقادهما أكثر قوة، يتوسع نشاطهم في المظاهرات وفي الجامعات، وبعد انتصار أكتوبر يعبرا عن الأبطال الحقيقيين لهذا الانتصار بأغنية دولا مين.
تهدأ الظاهرة قليلاً، ولكن مع التحولات الخطيرة التي جرت في السبعينيات جعلتهم يصطدموا مرة أخرى بالسلطة، ليوجهوا انتقاد حاد وبشراسة لكل الأوضاع الاجتماعية والسياسية حتى اغتيال الرئيس السادات.
بالطبع لا شيء يدوم، كان اغتيال الرئيس السادات بداية النهاية لهذه الظاهرة، شهدت مصر سنوات هدوء ولم يُعد هناك أحداث جلل تلهب مشاعر نجم ليكتب، وتثير حماس إمام ليغني.
ولكن الدرس المستفيد من هذه الظاهرة هو أن الفنون في كافة أشكالها يكون هدف من أهدافها، بل هدفها الأسمى هو محاولة التغيير وطرح الأسئلة ومواجهة الأخطاء، ولكننا إذا نظرنا إلى ظاهرة الغناء الشعبي اليوم لوجدناها تجهل كل هذه المفاهيم، بل تساعد في زيادة الجهل وانتشار التلوث السمعي والبصري، وتدهور الأخلاق والثقافة، مما يحتاج إلى ثورة ثقافية واجتماعية تغير هذا الفكر الذي لا يتلاءم مع متطلبات العصر الجديد، الذي يجب أن يعتني بعقل الإنسان وينميه لا ليشوهه.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب