لاحظ النادل زبونا جديدا لم يره من قبل في المقهى، رجل في منتصف الأربعينات، يرتدي بدلة رمادية متواضعة دون رابطة عنق، يجلس وحده على منضدة متطرفة ناظرا أمامه بلا التفات، واضعا يده اليسرى في جيب السترة طوال الوقت، انتظر أن يناديه كي يطلب شيئا، ولكن طالت المدة دون طلب، اقترب منه مُرحّبا سائلا إياه عن طلبه، فرد عليه بالإجابة السهلة التي تستخدم عادة لحجز المقعد لا أكثر:
- شاي
ذهب النادل لإحضار الطلب، في طريقه ناداه صاحب المقهى:
- الدكتور (حازم) وصل، أعد له قهوته معك ووصلها لعيادته.
- حاضر
عاد النادل وهو يحمل الشاي والقهوة فلم يجد الرجل الأربعيني، وضع الشاي على المنضدة متوقعا أن يكون قد ذهب إلى الحمام، عبر الطريق وصعد إلى عيادة الدكتور (حازم).
(أحمد محمد أحمد معروف)، إذا أراد أحد أن يضع تعريفا للشاب "العادي" أو "المتوسط" في كل شيء لن يجد مثالا عمليا يشرح ذلك التعريف مثل شخصية وحياة (أحمد معروف)، ليس ذكيا وليس غبيا، ليس وسيما وليس دميما، ليس غنيا وليس فقيرا، إلا أن هذا لم يكن أبدا رأيه في نفسه، كان (أحمد) يرى دوما أنه مختلف، وأنه غير مقدّر ممن حوله وخاصة والديه، نشأ في أسرة متوسطة الحال، تؤمن أن التعليم هو غاية الصغير، والوظيفة هي غاية الكبير، وما دون ذلك نثريات، عمل والده كفني ميكانيكي في أحد مصانع القطاع العام، أما والدته فكانت موظفة في هيئة البريد، ورغم كونه ابنهما الوحيد لم يكن اهتمامهما به استثنائيا، بل كان أحيانا أقل من العادي.
كان (أحمد) طموحا منذ الصغر لكنه لا يدري ماذا يريد أن يكون، كان يؤمن أنه موهوب متعدد المواهب، لكن لا يدري ما هي تلك المواهب، كان يرى أنه موهوب في الكتابة رغم أنه لا يكتب شيئا ذا بال، وأنه موهوب في اللياقة البدنية والرياضة رغم أنه لا يمارس أي لعبة رياضية بانتظام ولم يدخل أي منافسة، وأنه موهوب في الكلام والفصاحة رغم أنه لم يكن يلقي أي شيء في أي محفل ولو في طابور المدرسة، ولم يبدو على أي أحد الشغف بالاستماع إليه، وعندما دخل كلية الهندسة بصعوبة تضاعفت تلك القناعات لديه، فهو عالم عبقري وإن لم يتجاوز تقديره (مقبول) في أغلب المواد.
عشق (أحمد) نفسه منذ الصغر إلى الحد الذي جعله يحتفظ بكل متعلقاته المستهلكة مثل الأقلام والأوراق المستعملة والملابس القديمة، آمن أن يوما ما سيكون له متحف كمتحف أمير الشعراء أحمد شوقي أو متحف الفنان محمود خليل، ولابد أن يساعد الأجيال القادمة في توفير المتعلقات التي سيضعونها في هذا المتحف، لم يفكر كثيرا في اللقب الذي سيوضع قبل اسمه، الشاعر، أم العالم، أم البطل، لابد أن صفة ما من الصفات التي يؤمن أنها مجتمعة فيه ستكتشف يوما ما ويعرف الآخرون قدرها، لم ينشغل باللقب قدر انشغاله باسمه نفسه، فقد كان مستاء من اسمه، لأنه منتشر إلى درجة لا تسمح لأحد أن يناديه به، فكما يحدث مع كل (أحمد) و(محمد) الكل يناديه بأقرب اسم مميز، وفي حالته كان أقرب اسم مميز هو (معروف)، كيف حالك يا (معروف)؟ أين ذهب (معروف)؟ أعطني الكشكول يا (معروف)، ليس هذا وحسب بل كان عليه تحمل مزاح ثقيلي الظل حول اسم جده الذي أصبح اسما له رغم أنفه، ولم يزدهم ضيقه الواضح إلا تصميما على ترديد عباراتهم السخيفة المصحوبة بضحكات مصطنعة:
- انت معروف ولا مجهول.
- انت معروف ولا منكر.
- يا معروف، اعمل معروف.
وصفه زملاؤه في بعض المراحل الدراسية بـ (أبو لمعة المصري)، الشخصية الكوميدية المشهورة بكثرة الكذب والادعاء، لكنه لم يكن يعبأ بهذا، توالت رسائل التحذير من المدرسين والمدرسات لوالديه لا سيما في المرحلة الثانوية تلفت نظرهم لتعرض ابنهم لاغتيال معنوي من زملائه من جهة، ولغرابة سلوكه من جهة أخرى، تكلم الأب مع ابنه عن الأولى فوجده غير مكترث، فأعجب بما اعتبره صلابة وقوة شخصية، أما بخصوص السلوك فقد رأى الوالدان أنه لا يوجد ما يدعو للقلق، فمستواه الدراسي معقول، كما نبرته المتعالية قد تقلصت بالفعل منذ دخوله المدرسة الثانوية، أي أنه يتحسن وينضج مع الوقت فلا داع للقلق، فالزمن كفيل بالعلاج وإن كانا لا يعرفان بالضبط ما هو الداء.
كانت الحقيقة التي غابت عن ذهن والديه أن ما اكتسبه (أحمد) مع الوقت هو قدرته على إدارة نرجسيته، وليس التخلص منها، فقد كان يظهر نرجسيته تلك في كل مكان عدا بيته، كان يبرر هذا لنفسه بأن (زامر الحي لا يطرب)، وأنهم لن يقتنعوا بعبقريته واختلافه مهما قال، ولا يريد أن يسمع منهم ما يثبطه، فكان يتعامل بهدوء، لا يتكلم عن نفسه كثيرا، أقلع عن الشكوى من اختيار والده لاسمه، ومن عدم اهتمام والدته بقدراته الخاصة، توقف عن الاحتفاظ بمتعلقاته وحلم المتحف تجنبا لتعليقات والديه، لم يلحظا أنه رغم كل هذا لا يزال بلا صديق، ولا تربطه بأقرانه من الأقارب والجيران أي صلة، بقي وحيدا حتى أنهى دراسته الجامعية.
بلغ (أحمد) منتصف العقد الرابع من عمره دون أن يحدث في حياته أيا مما كان يؤمن أنه سيحدث، مهندس ميكانيكا عادي يعمل كموظف في نفس المصنع الذي كان يعمل به والده، التحق به بعد تخرجه كأحد أبناء العاملين، ولم يجرؤ حتى على معارضة والده في هذا، لا سيما بعد حصوله على تقدير (مقبول)، وبعد رفضه في عدد من المقابلات الشخصية بسبب لهجته المتعالية، فلم يكن هناك بد من قبول تلك الوظيفة، مصنع متهالك معداته أقدم بأجيال من مناهج الدراسة القديمة أصلا، لا يقوم فيه المهندسون سوى بتوقيع الأوراق الروتينية، فالأوراق لهم وشئون المعدات المتهالكة للفنيين القدامى مثل والده الذي تقاعد بعد شهور قليلة من تعيين ابنه في المصنع.
انضم المصنع والروتين إلى قائمة الاتهام واللعن اليومية، وحمله (أحمد) - مع الوالدين والمدرسة والمجتمع والناس - المسئولية عن فشله وحرمانه من الفرصة التي يستحقها، لم يخرج (أحمد) بأصدقاء من مرحلة الدراسة، وفي نفس الوقت لم يساعده سلوكه على اكتساب أصدقاء من محيط العمل، مما ضيق عليه فرص إيجاد وظيفة أفضل لا سيما مع تقديره المنخفض في الجامعة وعدم ازدياد خبرته في المصنع، كما عزز ذلك انطوائيته، فقضى سنوات عديدة بين الجلوس صامتا في مكتبه في المصنع، وبين الجلوس صامتا في غرفته في البيت مشاهدا للوثائقيات والقنوات العلمية وأفلام الخيال العلمي دون أي فائدة أو عائد يذكر.
تزوج (أحمد) في سن الخامسة والثلاثين زواجا تقليديا تحت إلحاح والديه، فقد تأخر زواجه كثيرا رغم توفر الإمكانيات المادية للابن الوحيد، ولكنه لم يكن مهتما بالزواج لإيمانه بأن أكثر الفتيات تافهات ولن يستوعبنه، ومن جهة أخرى كانت أكثر الفتيات يرفضنه بمجرد الحديث معه لنصف ساعة بسببه نبرته المستعلية المجنونة، وخلطه بين أوهامه وبين الواقع.
استمرت مساعي الوالدين الحثيثة حتى تزوج أخيرا بـ (سلمى)، فتاة جامعية مهذبة تصغره بنحو عشر سنوات، والتي رشحها لوالديه وسيط عن وسيط، نجحت الزيجة بعدما انصاع (أحمد) أخيرا لنصائح والده بأن يتخلى عن تلك الطريقة المستفزة في الكلام مع الفتاة، وما إن وقع القبول بعد أول لقاء حتى بذل الوالدان كل جهدهما للإسراع بإتمام الزواج قبل أن تدرك الفتاة وأسرتها طبيعة ابنهما مما قد يؤدي لفسخ الخطوبة والعودة إلى نقطة الصفر.
قبل العقد بيومين سأل الأب زوجته:
- أنا أخشى أن ما نفعله ليس صحيحا يا (أم أحمد)، لن تمض أيام بعد زواجه حتى تكتشف الفتاة هوسه وتبدأ المشاكل.
ردت الزوجة في هدوء مصطنع:
- لا تخف يا (أبو أحمد)، الزواج سيعقّله، الزواج علاجه الوحيد.
مرت الأيام، وحصل ما خشي منه الأب، ولم يحدث ما تتمناه الأم، إلا أن (سلمى) أبدت مرونة في تقبل الوضع من البداية، غلب شعور الشفقة شعور القلق لديها، كما أنها لم يكن لديها شيء ملموس يستدعي اصطناع مشكلة كبيرة أو التفكير في الطلاق المبكر جدا، ففي النهاية الرجل طيب وخلوق ويعاملها إجمالا بصورة طيبة، ليس بخيلا في الإنفاق، ومتوسط الكرم في المشاعر، غير أنه يتحول إلى رجل آخر عندما يتكلم عن نفسه، فيعظم نفسه بصورة قد يصحبها شيء من التحقير لزوجته رغم كونها جامعية أيضا، ويكثر من لعن الواقع والناس والمجتمع الذي لم يقدر له قدره، ويحمل الجميع بما في ذلك والديه وزوجته التي لم يمض على زواجه بها سوى شهور مسئولية ما يصفه بأنه (فشل)، حاولت (سلمى) كثيرا أن تخرج أصل تلك الفكرة من عقله دون جدوى:
- أنت لست فاشلا أصلا كي تبحث عن مسئول تحمله ذنب ذاك الفشل، تعلمت وتخرجت من كلية الهندسة والتحقت بوظيفة في نفس مجالك وتزوجت، لماذا تظن نفسك فاشلا! أنت بالنسبة لي إنسان ناجح ومحترم وعظيم! أليس هذا كافيا! أعطني تعريفا واضحا للنجاح الذي تريده!
لم يكن لديه رد، ولم يكن يقتنع بكلامها، لكنه كان يترك في قلبه أثرا نفسيا وعاطفيا جيدا تجاهها، فيزيد إحسانه إليها، ويحاول السيطرة على نفسه معها كما كان يفعل مع والديه في الثانوي، مما أورث ودا متبادلا أبقى زواجهما قابلا للاستمرار رغم تأخر الإنجاب دون سبب طبي عدة سنوات، كان زواجا تقليديا في البداية، إلا وأنه رغم المعوقات وجدتْ مرآةُ الحب العمياء مكانا لها في بيتهما البسيط، فوفرت حدا أدنى من الاستقرار.
سألها ذات يوم في لحظة صدق عن سر استمرارها معه رغم صعوبة طبعه، وعدم وجود ما يربطها به مثل حب سابق أو أولاد، هو لا يرى أنه (معيوب)، ولكن يسلم بأنه (صعب)، فالحياة مع العباقرة ليست سهلة لا سيما إن كانوا مظلومين، طلب منها أن تجيبه بصدق ووعدها إن طلبت الطلاق أن يطلقها باحترام مانحا إياها كل حقوقها، فأجابته بأن كلامه وسلوكه هذا هو نفسه سر تمسكها به، صارحته بأنها ليست في أسعد حالاتها، ولم تجد في زواجها منه كل ما كانت ترجو، أقرت أنها فكرت في الطلاق مرارا لا سيما في البدايات عندما كان يتعرض لها بشيء من التحقير في نوبات غضبه النرجسي، إلا أن تحسن معاملته معها وسيطرته على نفسه وتجنبه تلك العبارات لاحقا قلل ضيقها تجاهه، وأخبرته بقناعتها بأن من يقبل أن يطلق زوجته طلاقا محترما، يستحق المغامرة بالاستمرار معه، فالطلاق المحترم كمنظومة الطوارئ والحريق التي توضع في الشركات والمصانع والبيوت، مجرد وجودها يعطي طمأنينة وقدرة على الاستمرار داخل المكان، ولا يدفع المرء للهروب العشوائي عند أي شك أو قلق.
كانت (سلمى) تفاجئ زوجها كل مرة بحكمتها رغم صغر سنها بالنسبة له، كان ينبهر في داخله بتعبيراتها وفصاحتها، ولكن لم يكن يصرح أبدا بهذا الإعجاب وإن بدا واضحا على وجهه وفي عينيه، كان عاجزا عن أن يسلم بكونها - هي أو غيرها- أذكى أو أفصح منه، كان خائفا من أن تعجب هي الأخرى بنفسها وتستكثر نفسها عليه، كان يتجنب استخدام كلمة (معك حق) في أي شيء مهما كان صغيرا خشية أن تقول له (إذن ربما يكون معي حق أيضا في فكرة زيارتك لطبيب نفسي)، وهي الفكرة التي عرضتها أكثر من مرة في توقيتات منتقاة بعناية، كانت علاقة (أحمد) و(سلمى) علاقة ظاهرها النجاح الكامل وباطنها الإجهاد الشديد لكليهما.
ومن المفارقات أن استمرار زواجهما قد أدى فعليا لمشكلات كبيرة في حياة العديد من المحيطين بهما والذين ربما أحسن حالا من (أحمد)، فقد استخدم الأهل والمحيطون النجاح الظاهر لزواج (أحمد) و(سلمى) كبرهان عملي على نظرية (الزواج سيعقّله أو سيعقّلها)، كلما اعترض شاب على فتاة لمشكلة ما في تفكيرها أو سلوكها أو اعترضت فتاة على شاب أيضا لمشكلة في تفكيره أو سلوكه، قال الكبار المتشوقون للأفراح والزغاريد: انظر (أحمد) و(سلمى)، فيتم الزواج ليكتشف الجميع أن النظرية لا تعمل وأن (أحمد) و(سلمى) حالة خاصة وليسا الأصل.
خلال عامين، وضعت (سلمى) لنفسها قانونا كتبتْ بنودَه أقلامُ الخبرة والأيام، هي لن تجاري زوجها في هوسه لترضيه لأن هذا في رأيها خيانة له، ولكن لا مانع أن تظهر الاهتمام (بذاته) بالقدر المعقول، فكانت تناديه باسمه دون تدليل، ولا تناديه حتى بكلمة (حبيبي) أو (روحي) إلا نادرا، لاحظت بوضوح أن اسمه - (أحمد) - يشعره بذاته، فهو لا يسمعه بإذنه عندما تناديه، بل يراه بعين وجدانه مكتوبا على جدران المتاحف وصفحات الصحف، أما (حمادة) و(حبيبي) و(روحي) فهم أشخاص غيره ولا يستحقون الارتباط بذاته المتميزة، تماما كما لم يستحق الجد (معروف) هذا الشرف، علمت أنه يبحث عن اسمه في الخارج ولا يجده، فأغرقته به في البيت، في النداء وفي لوحات الحائط وعلى أكواب الشاي وعلى مكتبه الذي يجلس عليه ليتفصح مواقع التواصل الاجتماعي لا أكثر، أما أمام الناس فكثيرا ما كانت تنعته بالـ (باش مهندس أحمد) ولا تذكر اسمه مباشرة إلا قليلا، وكان هذا يسعده بالفعل.
لم تكن (سلمى) تهتم كثيرا بأعياد الميلاد حتى أنها كانت تغفل عن يوم ميلادها هي شخصيا، ولكن اشتملت خطتها على إظهار اهتمامها بالتواريخ والأحداث المتعلقة بزوجها، ومن ذلك بالتأكيد عيد ميلاده وإن لم يحتفلا به بالصورة التقليدية، فاعتادت أن تهنئه بيوم ميلاده في الثانية الأولى بعد منتصف الليل، كمن يعدون الثواني عدا تنازليا ليلة رأس السنة، وإن صادف وكان نائما في ذلك اليوم، أرسلت له رسالة على الهاتف ليراها في الصباح فور استيقاظه، وكان هذا يرضي غروره كثيرا رغم تفاهة الأمر، ويرد عليها بابتسامة عريضة وربما يقبل يدها، بل وكان رد فعله يرضي غرورها هي أيضا، إذ تشعر بأنها تملك في يدها زمام هذا الوحش المجنون الذي أخاف عشرات الفتيات قبلها، لقد تحول ترويض زوجها في بعض الأحيان من ضرورة معيشية إلى شهوة ذاتية، إلى تحدي مثل تحديات تسلق الجبال والقفز من الطائرات، كانت (سلمى) تشعر بسعادة خفية عندما تسمع أخبار فشل الزيجات الأخرى التي اعتمدت على نفس نظرية زواجها من (أحمد) إذ أن هذا يعني أنها ناجحة فيما يفشل فيه الآخرون، وأنها هي السر وليس الزواج نفسه، كانت تشعر بسعادة سرعان ما تتحول إلى وخذ ضمير لأن ضرر الآخرين أسعدها، وأحيانا كانت تقلق على سلامتها النفسية، وتشعر أنها تتغير أيضا وليس (أحمد) فقط، ولكن للأسوأ، وما أن تمر ساعات حتى تنشغل مرة أخرى بتحدياتها اليومية مع العبقري المظلوم.
من تلك التحديات والمغامرات، عيد ميلاده الأربعين، والذي كانت تنتظره (سلمى) بشغف لتحقق فيه انتصارا جديدا يشعرها بذكائها وسيطرتها على زمام الأمور، كان (أحمد) مستيقظا عند منتصف الليل مستلقيا أمام التلفاز يشاهد بشرود قناة فضائية علمية من تلك القنوات التي يتكلم عنها مشاهدوها أكثر من مشاهدتهم لها، خرجت إليه وفي يدها هدية غير مغلفة، تعمدت ألا تغلفها أو تضعها في حقيبة هدايا كي يرى من بعيد أنها موسوعة الأعمال الكاملة لأحد الأدباء الأجانب المشهورين مؤملة أن يضاعف هذا نجاحها في إرضاء غروره، فهي تذكر عيد ميلاده وفي نفس الوقت تهاديه بشيء متعلق بادعاءاته، وبمجرد حدوث هذا ستلقي بالكارت الثالث لتحقق (هاتريك) يجعل تلك المناسبة لا تنسى أبدا، تحركت تجاهه ببطء مهنئة، واضعة عنوان الكتاب في مواجهته، إلا أنه رد على تهنئة زوجته برتابة دون أن يحول حتى وجهه عن الشاشة، وقفت مكانها مصدومة، ابتلعت ريقها وكررت التهنئة بصيغة أخرى لعله يلتفت إليها، ويرى الهدية على الأقل، فرد بشيء من العصبية:
- يكفيني تذكير واحد بالفشل، لا أحتاج إلى مرة أخرى لأدرك أنني أضعت من عمري أربعين سنة بسبب مجتمع لا يعطي الفرصة لنابغة مثلي كي يستخدم مواهبه في خدمة البشرية! انظري إلى هؤلاء المتشدقين في تلك القناة المنافقة مثلا، هل هم أفضل مني في شيء! هم فقط أخذوا فرصة لم آخذها، أنتِ نفسك على ضعف إمكانياتك وثقافتك لو أعطوكِ فرصة كتلك ستنجحين فما بالك بي أنا!
سكتت (سلمى) للحظات وشعرت بإحباط شديد، وأدركت أن أحد أهم أوراقها في ترويض زوجها قد احترقت، وأن رقم (الأربعين) قد أحدث - فيما يبدو - تغييرا سلبيا جديدا لم تحسب حسابه، تغييرا أعاد لهجة التحقير مرة أخرى بعد غياب طويل، وذكرها بأيام كانت تظن أنها تجاوزتها إلى غير رجعة، إلا أنها كانت لا تزال تختزن الكارت الثالث، فكرت في تأجيله لوقت أفضل، إلا أن فورة الغضب داخلها جعلها تقرر استخدامه الآن لوأد نوبة غضبه وغضبها في المهد كي لا تتحول ذكرى ميلاده إلى ذكرى طلاقهما، إنها حامل أخيرا بعد كل هذه السنوات، أرادت لهذا الخبر أن يكون حبة الكرز التي توضع على قمة كعكة البهجة والسرور، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، وعليها أن تستخدمه الآن كمطفأة حريق، ابتلعت ريقها واستجمعت فصاحتها قدر الإمكان لتقول له:
- إذا سلمنا بأنه قد ضاع من عمرك أربعين سنة بلا طائل كما تظن، فقد أعطاك الله الفرصة لتولد من جديد، فكما يقولون ابنك هو فرصتك الثانية، وأنا حامل، فدعك من عيد ميلادك الأربعين، واحتفل معي بنفخة الروح فيك مرة أخرى.
تجمد (أحمد) في مكانه من وقع عبارتها، وتحولت ملامحه تدريجيا من الغضب إلى الذهول ثم إلى ابتسامة مترددة غير مصدقة، هنا بدأت (سلمى) هي الأخرى تهدأ وتبتسم، وقبل أن يهنئها زوجها بالحمل، هنأت هي نفسها على العبارة التي ارتجلتها والتي بدا أنها أثرت في (أحمد) أكثر من الخبر نفسه، وعادت الرياح تجري بما تشتهي السفن.
لم تؤمن (سلمى) بأن (اللي يصبر ينول) مثلما آمنت بها في فترة الحمل، اختفت كل المشاكل تقريبا، اختفى (أحمد) العصبي النرجسي المتكبر، ليحل محله رجل هادئ ودود متعاون، لم تعد تحتاج كثيرا لمرآة الحب العمياء كي تتحمله، حرصت (سلمى) خلال السنوات الماضية على كتم أسرار بيتها بالكامل عن والديها، لم تنقل إليهم أي سلبيات أو إيجابيات عن علاقتها بزوجها، لم تنقل السلبيات تجنبا لأي انفعال أو تدخل غير محسوب منهم يفسد التوازن الدقيق الذي حققته في علاقتها به، ولم تنقل الإيجابيات حتى لا يستخدمها والداها للضغط عليها إذا قررت الانفصال عنه ليثنوها عن القرار من باب أنك مقرة بإيجابياته المتعددة، كانت تدير علاقتها معه ومعهم كما تدار الدول، وتنظر للمدى البعيد والقريب معا طوال الوقت.
وبعد أن تجاوزت نصف مدة الحمل تقريبا، تخلت (سلمى) عن سياستها، فقد رأت أن المشوار اكتمل والنجاح تحقق، وآن لها أن تضع عن كاهلها الأحمال التي تحملته لسنوات، بل وأن تفخر بما حققته، وفي مجلس دافئ في بيت والديها قصت لهم كل شيء بطريقة تشبه خطاب (السادات) في السادس عشر من أكتوبر 1973، وبيقين متهور ختمت كلامها بأن الخطأ لم يكن أبدا في قبول الزواج من (أحمد) ولكن في توقيت الزواج منه، والذي وافق مرحلة إحباطه وشعوره بالفشل، قالت إن علاقتهم كانت ستصبح مثالية إذا قابلته في مرحلة مبكرة، أو حتى إذا حدث الحمل مبكرا، ولكن لا يهم ما كان، المهم أننا وصلنا لما نريد ولو بعد معاناة.
استمتعت (سلمى) بشهور حملها خاصة الأخيرة أيما استمتاع، فالحمل لم يصاحبه أي متاعب استثنائية، كما كانت صحة الجنين مبشرة باستمرار، ورفض الزوجان معرفة نوع الجنين حتى يوم الولادة، ولم ينطق أي منهما بما يتمناه، رفضت (سلمى) معرفة نوع الجنين ووافقها (أحمد) في الرأي دون مناقشة وقررا الانتظار حتى الولادة، لم ينقطع حديث الزوجين عن آمالهما في المولود القادم، أما (أحمد) فظل يتكلم عنه بنفس السطحية التي يتكلم بها عن نفسه، في المقابل بدأت (سلمى) تكشف عن وجه جديد لم يعرفه (أحمد) من قبل، أحب لمعة عينيها وهي تتكلم عن المولود وعن عظم طموحها فيه، أحب لغتها الحالمة البليغة وهي تتخيله في المراحل العمرية المختلفة وترسم صورة متكاملة التفاصيل، أحب خيالها الخصب وهي ترسم السيناريو كاملا لمولود ذكر، ثم تعيد رسمه من جديد لمولودة أنثى دون كلل أو ملل.
عندما كانت (سلمى) تتكلم عن جنينها في فترة الحمل، وتستخدم خيالها الواسع وفصاحتها في رسم صورة كاملة حالمة لمستقبله، كان (أحمد) يبتسم ويضحك ويعلق على كلامها كناقد فني يحلل فيلما سينمائيا، فإذا قامت أو نامت، تساءل إذا كان هذا حدث بين والديه، وهل كانت أمه تتخيل مستقبله كما تفعل (سلمى)! هل كانت تخطط له كما تخطط (سلمى)! هل آمنت به يوما كما آمنت (سلمى) بطفل لم تره ولم تعرف حتى جنسه إلى الآن! هل كانت حياته ستتغير إن كانت أمه كـ (سلمى) التي ملأت بيتها منذ معرفة خبر الحمل بكتب تتناول كل شيء عن تربية الأطفال الأصحاء الناجحين وعن كيفية اكتشاف مواهب الأطفال، ومعرفة ما الذي يناسبهم وتوجيههم له والأهم من ذلك أنها كانت تقرأها بالفعل وتلخصها بالورقة والقلم، وتحكي له أحيانا ملخص ما قرأته، وكثيرا ما كان يشتبك كلامها مع ذكرياته وأفكاره فتنهزم أمامه بسهولة فلا يبدي ذلك لها، ولا يدري هل تتعمد طرح هذه النقاط لتوصل رسائل له أم أن الأمر محض صدفة، لكن الأكيد أنه أصبح يتقبل تلك الرسائل ويفهمها.
لم تتوقف (سلمى) عن استثمارها في ذات ونرجسية زوجها رغم تغير طباعه بعد خبر الحمل، لكنها رأت أن من الحكمة عدم سحب المهدئات النفسية التي كانت تستخدمها معه مرة واحدة، فحرصت على زيادة الربط بين زوجها والمولود القادم، وعلى تأكيد أن كل نجاح سيحققه المولود في المستقبل هو نجاح مؤجل لزوجها لا أكثر، وكان هذا يزيد (أحمد) لينا ولطفا.
ورغم مثالية الحمل من الناحية الطبية والصحية، لم تكن الولادة بتلك السهولة، فاستدعى الأمر ولادة قيصرية معقدة بعض الشيء شاهدها زوجها بتألم من خلال زجاج غرفة العمليات، أفاقت (سلمى) من آثار التخدير والمسكنات لتجد (أحمد) بجوارها وهو يجثو على ركبتيه أمام مهد المولود ويلاعبه بابتهاج وبراءة تجعله يبدو كطفل صغير يداعب دميته، لا كأب أربعيني يداعب ابنه الرضيع، حتى أنه لم يلحظ استيقاظها، بينما جلس والداه ووالداها منهكين نائمين بأعين نصف مفتوحة على أريكة قرب الفراش، ابتسمت (سلمى) من مشهد زوجها وقالت:
- أحمد!
- حبيبتي، حمدا لله على سلامتك.
- الله يسلمك، مبارك علينا ابننا.
ابتسم (أحمد) وهو ينهض من على الأرض واكتفى بالمسح على رأسها ردا على تهنئتها.
- هل فكرت ماذا سنسميه؟
- أحمد.
ضحكت (سلمى) في وهن وقالت:
- أنا متعبة لا تضحكني أرجوك.
ارتفع صوته قائلا بحسم:
- أنا لا أمزح، سأسميه أحمد.
أيقظ صوته الكبار من غفوتهم، فكان أولهم نهوضا والده والذي اقترب منه مترنحا وهو يقول:
- من سيسمي من أحمد!
- أنا سأسمي ابني أحمد!
نظر الجميع إلى بعضهم البعض في دهشة عدا (سلمى) التي كانت تفهم ما وراء القرار، أسعدها القرار لأنه بدا كعلامة على شفاء زوجها شفاء لم يغادر هوسا، ولكنها بدأت تشعر بشيء من القلق في نفس الوقت، فبهجة الربيع عادة ما تتبعها حرارة الصيف وقيظه.
عادت (سلمى) مع زوجها وطفلها إلى البيت بعد أسبوعين وهي تعتبر نفسها عروسا جديدة، وأن آلام السنوات الخمس قد ذهبت ولم يبق سوى مكاسبها، انشغلت (ٍسلمى) بدوامة الأمومة المستجدة، وكثرت زيارات والدتها لها ومبيتها عندها مما جعل انزواء (أحمد) يبدو طبيعيا في تلك الفترة، يكتفي بالمشاهدة من بعيد لجهود زوجته في خدمة طفلهما الذي يحمل اسمه مرتين، دون أن تنقطع بالكلية عن جهودها التثقيفية التي بدأتها في فترة الحمل، بقي (أحمد) ودودا بارا وإن بدا شغفه بالطفل أقل مما توقعت، ورغم استقرار الأمور بعد أسابيع لم يعد (أحمد) إلى حالته الطبيعية، سواء حالته المثالية أثناء فترة الحمل، أو حتى حالته المجنونة قبله، أصبح هدوءه مبالغا فيه، وأصبحت ردوده الديبلوماسية على تساؤلات زوجته حول سبب تغيره تثير أعصابها.
مرت شهور بعد الولادة لم يعامل فيها (أحمد) (سلمى) كزوجة، ثمة حاجز ما قد بني بينهما، لم يعد قادرا على الاقتراب منها اقتراب المحب، ولم تسمح لها كرامتها بالمبادرة بالاقتراب من جهتها، لم تفهم (سلمى) سبب ما يحدث، كان التعامل بينها وبين زوجها خلال الشهور الأولى أشبه بالتعامل بين زميلين في شركة متعددة الجنسيات، كلام بأسلوب مهذب، تعاون سلس فيما يخص مصلحة البيت والطفل، تجنب النقاش في أي موضوعات خلافية وعلى رأسها فتور العلاقة بينهما تجنبا للتوتر.
لم تفهم (سلمى) رغم حدة ذكائها ما طرأ على نفسية زوجها، لم تفهم أن زوجها لم يتخل عن (عقدة الفشل) في عيد ميلاده الأربعين وهي تخبره بفرصته الثانية، بقي (أحمد) أياما بعدها يتظاهر بالسعادة نهارا وبالنوم بجوارها ليلا بينما هو مستيقظ يفكر متحسرا في كون "فرصته الثانية" تعيش خارج جسمه وروحه، وفي رحم غير رحم أمه، وفي أنه لو عاش لسن الستين أو السبعين سنة فلن يدرك سوى مقدار يسير من نجاح ابنه إن نجح، لم تعطه (سلمى) فرصة ثانية، بل أكدت له فشل فرصته الأولى وجعلته يقينيا، لقد كانت سعادته ستزداد لو قالت له (سلمى) أنه هو نفسه لا يزال قادرا على النجاح وتقديم شيء أفضل ولم تربط ذلك بابنه، لكنها ظلت تقول هذا بالفعل على مدار خمس سنوات دون فائدة تذكر، كان هو من يكرر القول بأنه قد فشل وخسر كل شيء، ولما عجزت عن تغيير وجهته حاولت أن تفتح له بابا جديدا من الصفر، فهل يلومها أم يلوم نفسه!
لم تفهم (سلمى) أنها احتاجت إلى سنوات كي تجد لنفسها مكانا ضيقا في حياته كزوجة، ولم تحتج سوى أيام كي تبهره كـأم حتى قبل أن تضع حملها، أجابت أسئلته ولامست مشكلاته وهذبت جنونه وهي تتكلم عن طفل لم يولد بعد، أرادت أن تقدم الأمومة لجنينها، فإذا بوالده أشد احتياجا لها منه.
رغم حدة ذكائها وظنها أنها قد استوعبت مراده، لم تفهم (سلمى) أن تسمية الطفل بـ (أحمد) لم يكن إعلانا عن تخلص زوجها من مشاكله النفسية المتعلقة بحب الظهور والتميز، بل كان إعلانا واعترافا بأمومتها له هو.
فاض تفكير (أحمد) على لسانه يوما وهو يزور والدته فسألها إن كانت راضية عما حققه في حياته إلى الآن، وإذا كان قد حقق آمالها فيه، هذا إن كان لها فيه آمال أصلا، فأجابت بعفوية المسنين:
- وماذا سأتمنى من الدنيا يا بني سوى أن أراك سعيدا مع زوجتك وابنك وأولادك الذين في علم الغيب! نحن سعداء لأن الله هداك أخيرا على يد (سلمى)، إنها طيبة وأصيلة لا تفرط فيها يا بني.
فرد بجفاء:
- ولماذا لم يهدني الله على يديك يا أمي؟!
صدمت الأم من سؤاله ونظرت إليه في اندهاش، فأكمل:
- أنا لم "أعقل" لأن (سلمى) قدمت لي ما كنت أحتاجه كزوج من زوجته، بل لأنها قدمت لي ما كنت أحتاجه كابن من والدته وأسرته، لو أتعبتم أنفسكم ربع التعب الذي تعبته (ٍسلمى) لأجل ابنها لما حدث معي ما يحدث الآن.
- وماذا يحدث معك الآن يا بني! تعيش في سعادة مع زوجتك وابنك.
- إن المرء لا يتزوج أمه يا (أم أحمد).
ثم خرج قبل أن تفيق الأم من صدمتها.
مرت شهور أخرى والحال كما هو، الحاجز الزجاجي يقف بين الزوجين، فيزيد هذا من تشاغل (سلمى) بولدها وحرصها عليه واهتمامها به وبصحته ونظافته، وتثقيفها لنفسها طبيا وتربويا لأجله، كانت تلك الرعاية كلها تصل زوجها مباشرة قبل أن تصل إلى الطفل، يعتبرها رعاية له لا لولده، والأهم من ذلك إيمانها بولدها ومستقبله وطموحاتها الكبيرة فيه والتي بدت مرضية أيضا، حتى أنها بدأت تبحث عن المدارس المناسبة وفي نظم التعليم المختلفة قبل أن ينطق الطفل كلمة (ماما)، تشاهد فيديوهات لا نهائية عن أكثر الألعاب الرياضية مناسبة للأطفال، وفي أي سن يمكن للطفل أن يشارك في كل لعبة، تتصل بمراكز تحفيظ القرآن وبالحضانات ومراكز تطوير المهارات لتسألهم عن كل شيء وأي شيء، حتى يمل المتحدث ويقطع الاتصال خاصة بعدما يعرف أن ابنها لا يزال رضيعا، تشترك في دورات متخصصة مدفوعة حول كيفية اكتشاف وتحديد مواهب الأبناء مبكرا واستثمارها، لم يشترك (أحمد) معها في استعداداتها ولم يخطر ببالها أن تشركه، كانت تنتظر اليوم الذي تعود فيه المياه إلى مجاريها بينهما كزوجين، ولا تستطيع أن تفكر فيه كأب قبل أن يحدث هذا.
كان (أحمد) يشاهد مساعي "أم أحمد" لأجل إنجاح فرصته الثانية التي بشرته بها في اليوم الموعود، فتعظم صورتها كأم في ذهنه وتتضاءل بقايا صورة الزوجة في المقابل، وضع (أحمد) والدته البسيطة المسنة في مقارنة مع أم ابنه طوال الوقت دون مراعاة لاختلاف الأزمان والأدوات، فخسرت والدته أكثر الجولات، وبعدما كان يحمل الدنيا كلها المسئولية عن فشله، أصبحت والدته المتهم الأول، وأصبح والده المتهم الثاني، لأنه تزوج تلك المرأة ولم يتزوج (سلمى)، كل درجة كانت تصعدها (سلمى) كأم، كانت تنزلها درجة كزوجة، وكانت في نفس الوقت تبعد زوجها خطوات عن والدته.
أصبح (أحمد) أقل برا وتواصلا مع والديه، لم يعرف حتى أن أمه قد قصت ما حدث بينهما لوالده والذي خشي من مناقشته فيه، فقرر مؤخرا وبعد تردد نقل ما حدث إلى (سلمى) لأنه يراها أقدر منه على التعامل مع ولده، ولكنها لم تحدث أي رد فعل، تأثرت صحة والدة (أحمد) كثيرا بسبب موقف ابنها، تكلم والده مع (سلمى) مرارا راجيا إياها أن تقنعه بزيارة والدته وتحسين علاقته بها، فالمرأة على وشك الموت من شدة الحزن، كان لا يزال مؤمنا رغم ما حدث أن (سلمى) لا تزال قادرة على التأثير في ذلك المجنون، ذات يوم اتصل بها والد زوجها طالبا اللقاء، أخبرته أنها لم تنجح حتى الآن في إقناع زوجها بأي شيء، فقال إنه ووالدة (أحمد) يريدان لقاءها هي فقط، رغم ذلك حاولت اقناع زوجها بالذهاب معها، لا تدري لماذا، ربما اشتاقت لنظرات إعجاب الآخرين بها وبقدراتها على التعامل معه، ربما تمنت حتى أن ينفجر فيها كما كان يفعل في بداية زواجهما، ولكن على كل حال لم تفلح المحاولة.
دخلت (سلمى) مع حماها إلى الغرفة التي ترقد فيها حماتها غير قادرة على الحراك، سلمت عليها وقبلت يدها وجلست بجوارها وجلس حماها على الكرسي المقابل لها، لم تكن الأم المريضة قادرة على الكلام، فتولى الأب المهمة:
- ابنتي، أنا لا أدري بالضبط كيف تسير أمورك مع (أحمد) الآن، فأنتِ كتومة وأصيلة، ولكن ما نؤمن به أن الأمور الآن ليست على ما يرام كما كنا نظن في الفترة الماضية، فقط نريدك أن تسامحينا، لم نقصد أن نظلمك عندما فعلنا كل شيء لإتمام هذه الزيجة قبل أن تكتشفي أنتِ وأهلك مشاكله، ولكن النية الصالحة لا تصلح العمل الفاسد.
- ومن قال لحضرتك أنني وأهلي لم نكن نعلم!
- !!
- نعم كنا نعلم ومنذ أول يوم، لم يكن صعبا أن يجمع أبي بعض المعلومات عن (أحمد) حتى في هذا الوقت اليسير، صعوبة الوصول إلى المعلومات هو في ذاته معلومة، لا أصدقاء، لا علاقات مع الجيران، لا محاولة من جهته ليعرف عني أكثر قبل أن يرتبط بي، تأخر في الزواج رغم توفر الإمكانيات، ألا يعلمنا كل هذا بوجود مشكلة حتى وإن لم نحدد ماهيتها بالضبط!
- إذن ولماذا قبلتم!
- لأنه كان لدينا ما نخفيه نحن أيضا!
نظر الأب بارتياب وتوتر وبدأ يتعرق، فابتسمت (سلمى) واستأنفت:
- لا تذهب بخيالك بعيدا يا عمي، أنا لم أفعل شيئا خاطئا سوى أني بلغت الخامسة والعشرين دون زواج ودون أن يتقدم لي أحد بينما تزوجت كل الفتيات الأصغر مني في محيطي، أو تتابع الخُطاب على أبوابهن على الأقل.
- لكن هذا لا يعيبك يا ابنتي، أنتِ زينة البنات.
- ربما، لكن حتى أنتم لم تختاروني لأنني "زينة البنات"، بالضبط كما لم نقبل نحن (أحمد) لاقتناعنا به.
- كان من حقك أن ترفضي وتعارضي رأي أهلك.
- أنت تعلم يا عمي أن هذا الكلام غير واقعي، كما أنني وجدت ما أقنع به نفسي أيضا، أنا لم أؤمن أن الزواج يغير الرجال، فالحفلة والعقد ومنديل المأذون لن يحدثوا تغييرا مفاجئا في رجل بالغ والمفترض أن يكون رشيدا، ولكني آمنت أو أردت أن أؤمن بأنني أنا تحديدا قادرة على أن أغير الرجل الذي سأتزوجه مهما كان مختلفا معي في الطباع، بل ومهما كان مختلا.
تنهد الأب قائلا:
- وقد ظننا جميعا أنك نجحتِ.
- وأنا فعلا نجحت، وتغير (أحمد)، تغير من "نصف زوج" إلى "ابن" حتى حرّمني على نفسه.
ثم ضحكت بألم وقالت:
- معذرة على الضحك، شر البلية ما يضحك، تذكرت مسرحية (قنديل أم هاشم)، زيت القنديل أحدث تغييرا بالفعل كعلاج، وأنهى متاعب النظر، ولكن إلى الأبد.
دخل النادل عيادة الدكتور (حازم) حاملا فنجان القهوة، فرأى زبونه ذا البدلة الرمادية جالسا في غرفة الانتظار، ويده اليسرى لا تزال في جيب السترة، وقبل أن يقترب منه ليكلمه وجده يخرج يده اليسرى من جيب السترة وفيها منديل مطرز كالذي يستخدم في عقد القران، نشر المنديل بين يديه وأخذ ينظر إليه وفي عينه دمعة تقاوم السقوط.
في عيد ميلاده الخامس والأربعين وبعد نحو عامين من وفاة والدته، عاد (أحمد) إلى بيته بعد العمل مرتديا بدلته الرمادية البسيطة فلم يجد أحدا في البيت، ولكنه وجد حقيبة هدايا موضوعة على منضدة الصالون، ابتسم ظنا منه أن (سلمى) قد عادت إلى الاحتفال بعيد ميلاده بعد أن توقفت عن ذلك منذ اليوم الموعود، فتح الحقيبة فلم يجد فيها سوى منديل عقد قرانهما والذي كانت تحتفظ به (سلمى) مع حليها الذهبية طوال السنوات الماضية، فتح المنديل فوجدها قد كتبت عليه بين اسميهما المطرزين بخيوط ذهبية:
"إن هذا المنديل لا يمنح الرجل أمّا، ولا يمنح المرأة ابنا أو آلة نقود، كما أنه لن يعوض الابن عن أبيه الحاضر الغائب.. إن هذا المنديل لا يجبّ بذاته الأخطاء التي قبله ولا يحول أيا من الطرفين إلى طبيب أو إلى ساحر"
تسارعت ضربات قلبه وهو يدير المنديل ليجد على ظهره عنوانا واسما، كتبت تحتهما:
"سنلتقي هناك دون أن نلتقي، سنلتقي على الأوراق ومسجلات الصوت، فليس منا من هو أحوج إلى ذلك العنوان من الآخر، ولن نعود إلى البيت جميعا قبل أن نكون جاهزين لهذا".
حينها، حل (أحمد) رابطة عنقه ليتمكن من التنفس وبلع ريقه، أطبق على المنديل بيده اليسرى كأنه يوصل ما فيه إلى قلبه، وضعه في جيب سترته ولم يقدر على إفلاته من يده، عجز عن استدعاء مقاومته وعناده فقد بلغ الإنهاك به حافة الانهيار، توجه إلى العنوان على الفور بدون أخذ موعد فلم يجد أحدا، حينها لم يكن لديه بد من الانتظار في المقهى الذي أمامه على منضدة متطرفة، ناظرا أمامه بلا التفات، قابضا على المنديل بيده اليسرى في جيب سترته طوال الوقت، منتظرا أن يسمع أن الدكتور (حازم) وصل.
القصة وصلت للقائمة الطويلة لمسابقة iread للقصة القصيرة 2022
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب