انتهيت الآن من قراءة رواية "سنوات الجري في المكان" لـ نورا ناجي، للمرة الثالثة (كنت محظوطة بقراءتها مرتين قبل النشر، ولا يزال تأثيرها عليً مثل المرة الأولى)، أعرف أني لن أستطيع الكتابة لفترة، فمن شدة جمالها وعذوبتها أشعر بالتشكك في كل شيء أكتبه بعدها، فحتمًا لن يضاهي جمالها وحرفيتها، يمكن أن تكون شهادتي مجروحة بحكم صداقتي بنورا وقربي منها، لكن قد يشفع لي اعترافي بغيرتي الأدبية من هذا العمل، وينفي عني شبهة المجاملة والمحاباة.
بين كمامتين تختصر نورا ناجي - في روايتها الأحدث الصادرة عن دار الشروق - عقدًا من عمرنا وذكرياتنا وشبابنا، كمامة ارتداها من ارتداها في الميدان ذات يوم لتمنع عنه رائحة الغاز، وكمامة اضطررنا لارتدائها لمواجهة فيروس صغير لا يُرى بالعين، وما بين الكمامتين صدمات كهربائية تمررها نورا عبر كلماتها بين الصفحات لتنعش ذاكرتنا، وكأنها تود أن تصرخ عبر روايتها وتقول إن ذلك الميدان الذي يركض فيه المراهقون اليوم وهم يمارسون لعبة "السكيتينج" وتتعالى أصوات ضحكاتهم وصياحهم ونداءاتهم لبعضهم البعض، كان يمتلأ منذ سنوات ليست بالبعيدة بأصوات الرصاص ورائحة الغاز وصراخ الأحياء لحظة سقوط الموتى بجوارهم، فيتلقى كل من عايش ما حدث اللكمات في ذاكرته صفحة إثر أخرى، ويقف مشدوهًا أمام كم هائل من الانفعالات والذكريات.. والوجع.
"الأزرق شفاف على الرغم من عتمته، يشف الجلد فوق عروق اليد البارزة، الأزرق تائه، دائخ، مثل دوخة ولي، مثل دوخة مجذوب".
تبدأ نورا روايتها بوصف اللون الأزرق الذي يشبهها دون أن تدري، فهي مثله حين تكتب، تشف روحها شخصيات من تكتبهم، تشف روحها حياة سعد وياسمين ويحيى ومصطفى ونانا، وتختار الحاسة التي تعبر عن كل شخصية لترسم مسار حياتها من خلالها بذكاء، فمع "سعد" كان البصر، وربما بمعنى آخر البصيرة، البصيرة التي تنبع من حساسية الفنان، فلا يعود يرى لونًا مثل الأزرق مجرد لون للسماء أو البحر، بل لون فستان أمه وهي ذاهبة لتنحني - مثلما أنحنى أبيه من قبل- وتطلب من موظف في بنك قرضًا حتى تتمكن من سداد مصاريف ابنها الذي يرغب في دخول كلية فنون جميلة، لكنها تعود خائبة الأمل، تائهة مثل لون فستانها.
ومع "ياسمين" تختار نورا الذائقة، ياسمين التي فقدت مذاق الطعام ومذاق الحياة نفسها بعد موت "سعد"، بعدما كتبت تقريرًا عن الرصاصة التي قتلته وبُدل سبب الوفاة بكسر في الجمجمة، بعد أن فُض الميدان وانفض المولد والفرحة وتبدل الحب، وتبدل الجميع، وتبدلت هي نفسها وصارت تشعر أنها ميتة، أو بمعنى أصح كانت ترغب في الموت فحاولت استدعائه عبر قتل القطط، ياسمين التي خرجت من المصحة إلى منزلها ومن منزلها تسللت إلى الخارج، ففوجئت بتبدل شكل الميدان، وكانت تظن بسذاجة أن القلوب والناس سيظلون كما تركتهم قبل أن تفقد روحها، فتأملت صورة طليقها على غلاف كتاب، كل الجوائز التي حصل عليها، ولم تجد معها ذكرًا لها، هي التي صححت له ما كان يكتبه، وكانت معه في الضحك والبكاء، كانت ميتة في نظره منذ سنوات، ولم تكن ميتة في نظر نفسها فحسب، ربما أرادت إنكار الموت فذهبت لمطعم "القزاز" الذي كانت الشلة كلها تأكل به قديمًا، لكنها بمجرد أن قضمت قطعة من الساندوتش الذي طلبته حتى تقيأته، فإنكار الموت لا يفيد في حالتها، وما ستحاول أن تبتلعه من الحياة سيخرج منها حتى وإن كانت قضمة صغيرة.
نرشح لك: خريطة أماكن دور النشر في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023
إما "مصطفى" فقد اختارت له الأصوات، السمع، وكأن الكاتبة كانت تُخزن طوال عمرها كل ما تسمعه داخلها، صوت "تكات" الساعة، عربات المترو، صوت الرسائل، حتى تجمعه في فصل بديع عن الأصوات يكون بطله مصطفى صديق سعد، الذي يرى الحياة عبر الصوت، وكان مهووسًا بتسجيل الأصوات، وزاد هوسه بعد موت سعد، لأنه شعر أنه نسى صوت صديقه، وخشى أن ينسى أصوات من يحبهم، فأراد أن يخلد صوتهم عبر جهاز تسجيل، حتى قاده هوسه إلى تسجيل صوت نانا حبيبته وهي بين أحضانه، حتى اكتشفت أنه كان يٌسجل صوتها وهي نائمة معه، فغادرت منزله ولم تعبر عن غضبها سوى بنظرة شفقة احتار مصطفى في تفسيرها، أليس هو من جرحها فلِمَ تُشفق هي عليه؟ لم يفهم أنها تحولت بعد كل ما رأته وعايشته إلى تمثال لا يشعر بشيء، لأنها لو توقفت لحظة وشعرت بمدى سوء ما تعرضت له لأذاب الغضب التمثال الذي تحتمي بداخله.
إما يحيى ففقد حاسة الشم تمامًا بعد إصابته بكورونا، بعد أن فقدها تدريجيًا خلال السنوات الماضية، ومع كل سيجارة حشيش يستعيد ذكرى، ذكرى لسعد، ذكرى لنانا، ذكرى لياسمين طليقته، ذكرى لشعوره بالجبن، ذكرى للدماء التي ملأت الميدان ذات يوم وجفت مثل ذكرى يمحوها فيروس صغير، أو ميدان غير ملامحه وذكراه كباش لا تٌذبح لأنها ليست من لحم ودم.
نرشح لك: صدور رواية "نجمة الحي القبطي" لـ أحمد أبو درويش
الألوان، الأصوات، الطعام الذي بلا مذاق، والروائح التي يستطيع فيروس صغير أن يمحيها، والإحساس الذي يموت تدريجيًا عبر الزمن، كل هذا قد يترك بك مرارة كبيرة بعد أن تقرأ "سنوات الجري في المكان"، لكنك رغم ذلك ستشعر بالجمال، ربما تغيرت الأحلام عبر الزمن، ربما تلاشت أحلام البعض، وربما صغرت بعضها مع السنوات وتحولت من حلم لتغيير كل شيء إلى كابوس بمجرد الخروج من المنزل دون كمامة، لكن رغم ذلك يبقى الجمال في الفن، في الكتابة، ربما يأس البعض، ربما لا يزال آخرون يجرون في أماكنهم، لكن البعض يرفض أن يجري في مكانه، يريد أن يقاوم الاستسلام بالفن والكتابة، مثلما قالت "نانا" في أخر سطر في الرواية "يبدو أنني سأكتب رواية"، ومثلما فعلت نورا أيضًا وقاومت الجري في المكان بهذه الرواية التي تفوقت فيها على نفسها وتجاوزت بها كل ما كتبت..
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب