يوسف الشريف
منذ الحلقة الأولى أثار مسلسل "الحشاشين" الذي يعرض الآن، حالة من الجدل، استمرت مع إذاعة كل حلقة جديدة. وأثر هذا الجدل المنتشر رشحت مختلف الصحف، والمجلات، وحتى مواقع وجروبات القراءة عددًا من الكتب والروايات التي تناولت تلك الحقبة المهمة والمؤثرة في تاريخ الفكر العربي والإسلامي.
ربما تلك الحالة التي جعلت الناس يعودون مرة أخرى لقراءة الكتب والمراجع التي تحدثت عن تلك الفترة، من النقاط شديدة التميز، التي تحسب للعمل الدرامي أنه دفع الناس للقراءة مرة أخرى.
وبالتأكيد من تلك الكتب المهمة التي تناولت تلك الحقبة بالدراسة والتحليل هو كتاب "المعرفة والسلطة في التراث الإسلامي" الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث. الذي يتناول فيه الباحث سعيد على النجدي بالبحث العلمي تلك الفترة، ليس فقط من منظور تأريخي، ولكن من منظر فكري، دارسًا الآثار الفكرية لتلك الحركة، ونشأتها، ومفاهيمها.
الكتاب مقسم إلى عشرة فصول، في الفصل الأول يتناول الكاتب كل المعالم الفكرية والاجتماعية التي نشأت من خلالها الطائفة الإسماعيلية. تلك الطائفة التي استطاعت أن تمد نفوذها وأفكارها في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية، ليس فقط على نحو فكري بل أيضًا سياسي، فقد حكموا دولاً مثل المغرب ومصر وسوريا والعراق واليمن وإيران.
ثم إنَّ لهذه الدولة كثير من الثيمات الخاصة بها، والبنى الفكرية والمجتمعية التي تشكلت معها، والآثار التي خلفتها تلك الدولة التي – بالنسبة للكاتب - تميزت بالانفتاح على ثقافة الآخر وأفكاره، والانفتاح بوجهٍ عام على ثقافات العصر ومذاهبه، ليسرد الكاتب ضرورة هذا الانفتاح على الآخر، المؤدي بدوره إلى تقدم سياسي ناتج عن تقدم علمي.
مما يعني أن كل العناصر التي يتشكل منها المجتمع، ترتبط مع بعضها من الداخل، وهذه هي العناصر التي ربما تجعل بنية الأفكار أقوى، وتجعلها قادرة على الصمود لسنوات طويلة.
وفي الفصل الثاني من الكتاب نرى مراحل تشكل معالم هذه الطائفة وأفكارها، ويتبعه الفصل الثالث الذي نرى من خلاله وجهة نظر تلك الطائفة في مفاهيم مختلفة مثل المعرفة والسلطة ودورهما. وكيف يؤثران في بعضهما، فأغلب الناس يظنون أن تلك الملفات منفصلة، مع إنها بكل تأكيد متصلة، ويؤثر كلٍ منهما في الآخر، فكيف تصبح السلطة مسؤولة عن المعرفة المقدمة؟ وما هو شكل تلك المعرفة الذي ربما يخدم السلطة؟ ونرى أيضًا شكل المجتمع الذي واجه فيه المثقفون أو أصحاب المعارف السلطة، ونتيجة ذلك.
لنعرف في الفصل الرابع الفارق بين نظرة تلك الدولة للعالم على نحو تام، ورؤيتهم للموجودات، والفوارق بالنسبة إليهم بين "المعقول والمحسوس". وهو فصل يهتم بالمقام الأول بالأسئلة الفلسفية التي تبلورت داخل أذهان كل المعتقدين في هذا المعتقد أو المنتمين لتلك الجماعة، ومن ثم الدولة، وهو سؤال عن تعميمه يلقي بظلاله على الإنسان بوجه عام، والطريقة التي تنشأ لها المجتمعات، وأفكارها، وكيف تتبلور هذه الأفكار.
لنتعرف بعد ذلك في باقي الفصول على باقي المفاهيم التي ولدت منها تلك الجماعة، ومن أهمها بالتأكيد مفهوم الإمامة، وأهم الدعائم التي شكلت وبلورت هذا المفهوم. والإلهيات في الأدبيات الإسماعيلية.
لننتقل في فصول أخرى لنشأة الدولة الفاطمية، وكيف استطاعت هذه الدولة مد نفوذها ليشمل الكثير من الدول أهمها مصر بالتأكيد، فمصر عدت أهم محطة في تاريخ الفاطميين، ثم إنَّها ظلت الحلم الأول لكل مؤسسي الدولة، ثم البنى الفكرية التي تأسست عليها تلك الدولة. لنعرف كل ما مر من مراحل تحول خطيرة وجوهرية في تلك الدولة. والطوائف التي خرجت من رحمها.
كما أن الكتاب يندرج تحت الكتب التي تتخصص في تناول اتجاه معين بالتراث، يحاول شرح وتفكيك البنى السياسية الخاصة بهذا المجتمع محل البحث، ومحاولة فهم وتقدير القوى والعلاقات السياسية في هذا المجتمع رغم تشابكها، وتعقيدها، يحاول النجدي في كتابه فض هذا النزاع، أو الالتباس والتيه الذي ربما يغرق فيه القارئ الذي يلتقي بتلك القصة لأول مرة.
ثم إنَّ الكتاب يحاول أن يقف على عتبة الخلفية الفكرية التي تشكل الأفكار لهذا الاتجاه، ويكشف العلاقة بين حقل السلطة بوصفه حقل توزيع، وكيف يعمل هذا الحقل على إعادة تشكيل المعرفة بوصفه مجالًا مليئًا بالدلالات الرمزية.
يقتحم النجدي هذه الحقبة كما أشرنا ليس فقط على وجه تأريخي، ولكن أيضًا على نحو فكري، فهذه الحقبة حساسة للغاية، نظرًا لكثرة الأحاديث المختلفة التي قيلت عن هذه الجماعة، وأن الجماعة تعرضت بالفعل للكثير من التأويلات. ومن خلال كشف الحقائق يستطيع الكاتب أن يسائل بعض الأفكار، ويتتبع نشأتها وتبلورها الكامل.
في المقابل لا ينتصر الكتاب لطرف على حساب الآخر، أو لفكرة على حساب الأخرى، ولكنه يقوم بعرض الأفكار المختلفة، محاولًا الوصول إلى الدروس المستفادة من خلف هذه الحكاية الخاصة بتلك الجماعة ونشأتها من البداية، وعلى طول الخط.
ويعد الكتاب بمثابة محاولة من كاتبه للاقتراب من الأسئلة الشائكة في التراث، وليس انتصارًا للماضوية، ليطرح من خلال تلك العودة أسئلة تلقي بظلالها على الحاضر العربي الراهن، من خلال الاقتراب من العقليات الحاكمة آنذاك، لزعزعة الثابت، وخلخلة الجمود المتجذر في مناهجنا.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب