نقلا عن "أخبار الأدب"
في زمنٍ تكثر فيه الحكايات، وتتضاءل فيه الأسئلة الكبرى، تأتي رواية "معزوفة اليوم السابع" للروائي الأردني جلال برجس كعملٍ روائيٍّ مغاير، يوقظ في القارئ ذلك القلق الوجودي العميق الذي لا تسكّنه الإجابات الجاهزة، بل تشعل ناره الأسئلة المؤجلة، والمرايا المحطمة، وصور الذات المفقودة.
تدور أحداث الرواية الصادرة عن دار الشروق في مدينة متخيلة يصيبها وباء غامض، من بين أعراضه عدم قدرة أهل هذه المدينة على رؤية ذواتهم مرة أخرى في المرايا أو في أي وسيلة أخرى، بل وتزين لهم أنفسهم قرار الانتحار، مما يجعل المدينة على حافة الانهيار.
الرواية ليست مجرد سرد لحكاية خيالية تدور في مدينة ضربها وباء غامض، بل هي عمل أدبيّ يخترق بنية الواقع ويعرّي هشاشته. من اللحظة الأولى، تُفجّر الرواية سؤال الهوية في أكثر أشكاله قسوة: ماذا لو لم تعد قادرًا على رؤية نفسك؟ ليس مجازيًا فقط، بل حرفيًا. ماذا لو فُقدت انعكاساتك، وغابت عنك كل صورة تؤكد أنك كنت هنا؟
هنا لا نتحدث عن قصة ديستوبية مألوفة بقدر ما نتعامل مع نصّ أدبيّ عميق يستثمر البنية الفانتازية ليحفر لُبّ الوعي البشري، ويعيد مساءلة العلاقة بين الإنسان وذاته، بين الرؤية والكينونة، بين الانعكاس والوجود. فالمرآة، بوصفها أداة لرؤية الخارج، تتحوّل في هذا النصّ إلى مرآة للداخل، ومع غياب الانعكاس، ينهار التماسك النفسي ويبدأ الانحدار.
- الهوية.. قيد أم خلاص؟
ما تطرحه "معزوفة اليوم السابع" ليس مجرد فانتازيا عن الوباء، بل هو تشريح ميتافيزيقي لفكرة "الهوية"؛ تلك التي نظن أننا نمتلكها، بينما هي في الواقع امتلاك هشّ لظلّ نرتديه. فالرواية تطرح ضمنيًا مقولة مفزعة: "لقد كذبنا على أنفسنا كثيرًا، حتى سئمت أرواحنا من الانعكاس، فامتنعت عن الظهور".
الوباء في الرواية ليس فيروسًا بيولوجيًا، بل لعنة أخلاقية، عقاب وجودي على قمع الذات، ونبذ الآخر، وتجاهل الحقيقة. وكلما اشتد الغياب، اشتدت الحاجة إلى الوعي. هنا تقف الرواية كصرخة في وجه كل من استبدل الحقيقة بالتمثيل، والمعنى بالمظهر، والوجود بالانعكاس.
- المدينة.. مرآة العالم المتشظي
المدينة التي يصيبها الوباء في الرواية ليست مكانًا جغرافيًا بقدر ما هي استعارة كبيرة للعالم بأسره، لعصرنا الذي فقد البوصلة. وهي مدينة مشروخة من الداخل.. إنها مرآة لعالمنا الذي يبدو فيه الإنسان محاطًا بصوره، لكنه في العمق غائب عنها تمامًا.
المدينة هنا ليست مجرد خلفية للأحداث، بل كائنا هشًّا يشبه عالمنا. يعيش أهله في عزلة روحية، وظمأ وجداني، وسط ضجيج تكنولوجي وزيف تمثيلي. ويستخدم "برجس" ثنائية المدينة والغجر، ليكشف عن عطب التكوين الإنساني حين يتورط في الإقصاء. فالغجر، في الرواية، ليسوا هامشًا اجتماعيًا، بل ضميرًا جمعيًا منفيًا، تمارس عليه المدينة قمعها، لتخسر آخر ما تبقّى من انعكاسها الأخلاقي.
- عنف العالم وموسيقى الذات
تأتي الموسيقى في الرواية كفعل مقاومة في وجه عالم آخذ في التوحّش. فالموسيقى ليست صوتًا جميلاً، بل نقيض العنف، وبديل الانتحار، وصوتًا داخليًا يسعى لترميم الذات التي تبعثرت بفعل فقدان الصورة.
وقد جاءت اللغة الروائية منسوجة بإحكام شديد، تتراوح بين الشعرية والتكثيف، وبين النثر الفلسفي والتأمل الوجودي، مما جعل من النصّ رحلة فكرية لا مجرد مغامرة سردية. برجس لا يكتب ليُمتع فقط، بل ليوقظ، ويقلق، ويعيد ترتيب الفوضى داخل القارئ.
- المرايا.. أداة انعكاس أم مرادف للذاكرة؟
المرايا في رواية جلال برجس هي بمثابة رمز فلسفي عميق لفهم الذات والتصالح معها. فحين فقد سكان المدينة قدرتهم على رؤية أنفسهم، اكتشفوا، متأخرين، أنهم لم يكونوا يومًا في حالة حقيقية من التلاقي مع ذواتهم. لقد أمضوا أعمارهم في الكذب على أنفسهم، وقمعها، وإنكارها. فجاء العقاب قاسيًا: الفقد الأبدي للصورة.
ويظهر هذا التوظيف الرمزي للمرايا أيضًا في العلاقة بين المدينة وخيام الغجر، حيث يشكل الغجر مدينة موازية تعكس ظلماً مارسه سكان المدينة الأصليون، ونبذًا مارسوه تجاه الآخر، لتأتي لحدود الفاصلة بين مدينة الجد الأول وخيام الغجر بمثابة مرآة تعكس تناقضات العالم الحديث وازدواجيته الصارخة وظلمه للآخر.
نرشح لك: بعد فوزه بالبوكر العربية.. 6 معلومات عن محمد سمير ندا
تمتاز الرواية أيضا ببنية ثنائية تعكس صراع الوجود: (الخير/الشر)، (العنف/الموسيقى)، (الغجر/جماعة الطائر الأسود)، (الذاكرة/النسيان)، وتطرح تساؤلات جذرية حول جوهر الإنسان في مواجهة القبح، والظلم، والعزلة. كما تتناول الرواية، برؤية نقدية نافذة، تأثير التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي على علاقتنا بأنفسنا وبالعالم، في سياق متشابك مع الواقع ومآلاته.
- الرقم سبعة.. خريطة روحية للمجهول
لعلّ أحد أبرز الجوانب الفنية التي تميز الرواية هو التوظيف الرمزي العميق للرقم سبعة، الذي يتكرر في عنوان الرواية، وفي عدد أحياء المدينة، وفي مسار الجد الأول نحو أرض جديدة. يحيل الرقم إلى رموز كونية ودينية وما لها من دلالات مثل عدد أيام الأسبوع، وعدد السماوات، وعدد القارات. وهنا، يتحوّل الرقم من مجرد عدد إلى دلالة على دورة مكتملة للخلق والتكوين، بل إلى مفتاح لفهم بنية الرواية المضمرة.
يحضر الرقم "سبعة" في الرواية ليس فقط كعنصر شكلي، بل كرمز كوني، يتكرر في مفاصل النص ليشير إلى اكتمال الدائرة، فالرقم يتحول إلى بنية خفية تُعيد تشكيل علاقة الإنسان بالمقدّس، وبالزمن، وبالتحول من العتمة إلى النور.
- أسطورة المهدي المنتظر
تتكئ العديد من المعتقدات الدينية والأسطورية على فكرة "المخلّص" أو "المهدي المنتظر" الذي سيأتي في آخر الزمان ليقيم العدل ويخلّص البشرية من معاناتها، غير أن رواية "معزوفة اليوم السابع" تتعامل مع هذه الفكرة من زاوية مغايرة تمامًا. فعلى الرغم من استحضار شخصية "باختو" بوصفه رمزًا للمخلّص، إلا أن الرواية تتبنى موقفًا نقديًا حيال هذه الأسطورة، وتسعى إلى تفكيكها بذكاء سردي ووعي فكري. إذ تُظهر أن انتظار الخلاص من الخارج هو وهم وحل مؤقت، فسواء كان الخلاص المنتظر في شخص أو حتى في العثور على الناي الذي خبأه الجد الأول لليوم الموعود، فكلها مسكنات مؤقتة لتؤكد أن التغيير الحقيقي ينبع من داخل الإنسان نفسه، ومن قراراته وموقفه تجاه العالم وتجاه نفسه ايضا، لا من معجزة خارقة أو منقذ قادم.
بهذا تضع الرواية القارئ أمام مسؤوليته الأخلاقية والوجودية، وتحرره من سطوة الحتميات الغيبية، لتُعيد تعريف الخلاص كفعل إنساني أصيل لا كقدر موروث.
- صرخة في وجه جنون العالم
"معزوفة اليوم السابع" ليست رواية بالمفهوم التقليدي، بل هي مرآة مقلوبة للعالم؛ تعكس ما لا نجرؤ على رؤيته. رواية تستعيد وظيفة الأدب الأولى: زعزعة السكون، وتحريك الرواكد، وإعادة طرح السؤال الإنساني الجوهري: من نحن؟ وما الذي نراه حقًا حين ننظر في المرآة؟
رواية لا تنافق القارئ ولا تُقدّم له العزاء، بل تدفعه للسقوط في هاوية التأمل الذاتي، لتخرجه منها أكثر وعيًا، أو أكثر هشاشة. وهي بمثابة صرخة في وجه جنون العالم.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب