الأدب الحلو هو كتابة العادي بطريقة غير عادية، هو انتشال ما يجول فى خاطرنا، تحرير الأفكار الحبيسة في عقولنا إلى الورق، هذا ما فعله جورج أورويل فى روايته "شيء من الهواء المنعش"، وهذا ما يتقنه حقا".
"شىء من الهواء المنعش" أو "الصعود إلى الهاوية" في بعض الترجمات، رواية أورويل اللذيذة، التى كتبها في فترة نقاهته من إصابة تعرض لها أثناء الحرب، كتبت الرواية بمزاج رغم أهميتها وعمقها الشديد وبراعتها التنبؤية تضمنت جوا من السخرية والهزل. تعتبر الرواية النواة الأولى لرواية أورويل الأشهر على الإطلاق "1984"، فقد أرسل أورويل أثناء كتاباتها رسالة إلى أحد اصدقائه قائلا: "لقد خطرت لي فكرة رواية أخرى، رواية ستلفت إليها الأنظار".. وقد كان بالفعل.
الرواية لوحة عن جدلية الحياة، الحنين إلى الماضى، عن الضياع المرسوم بدقة متناهية ليعكس ببراعة ضياعنا.. ومن غيره يستطيع كشفنا من الداخل! من غيره يستطيع تحويل مشاعر الإنسان العادية إلى لوحة أسطورية زاخرة بالمشاعر الإنسانية وما يمر بعقل الإنسان من أفكار وحنين وضياع وحب وكره وملل وعدم ثقة فى النفس ونكران الذات ثم التصافي وقبول الواقع كما هو.. من غيره يستطيع جمع كل تلك المتناقضات فى عمل واحد! هو وحده "إريك آرثر بلير" الشهير بـ جورج أورويل.
تدور قصة الرواية حول جورج بولينج، الرجل الأربعيني، الذي يستيقظ في الصباح الباكر، في يومٍ غير عادى، وهو يوم استلام طاقم أسنانه الجديد، يهرع إلى الحمام قبل استيقاظ أولاده ليحظى بشيء من الهدوء. وفجأة وفي هذا اليوم يجد نفسه أمام حياته الطويلة.. نادما على كل شىء، ساخطا على عمله الروتيني، على فكرة العمل وعبادة المدير وتقديسه، ساخطا على زوجته التي لا تعبأ بأي شيء سوى زيادة أسعار المنتجات الغذائية، حانقا على أولاده وصخبهم المستمر. يأخذ هذا اليوم إجازة من العمل، فيتيح أكثر لعقله الفرصة على تقييم حياته، والتفكير فى مستقبل مظلم تحدق منه حربا شرسة على وشك الوقوع.
أين الإنسان وما يريده وسط كل هذا! يجد جورج بولينج نفسه فى حياة لا تشبهه في شيء؛ فلا يجد متنفسا غير العودة بقوة إلى الماضي كما نفعل حينما تضيق بنا الحياة، وتفقدنا الدافع إلى الاستمرار. الماضى حيث يبدو دائما جميلا وهادئا كنومة مطمئنة!
يأخذنا جورج بولينج في رحلة طويلة للوراء، تحديدا رحلة إلى طفولته، رغم صعوبة الحياة وشظف العيش آنذاك، إلا أن الحياة كانت هادئة، (قبل الحرب) حيث لا وجود للخوف وعدم الأمان المصاحب للإنسان بعد الحرب كما جاء في الرواية، أو لإنسان العالم الحديث كما أراد لنا أورويل أن نفهم. وأثناء رحلة البطل إلى الماضي يكتشف أنه فقد شيئا ما، فقد الشغف بالشيء الوحيد الذي أحبه من أعماق قلبه، وهو الصيد، ليحكى كيف كان يستمتع بالصيد وجمع معداته، والوقوف ساعات طويلة فى الماء دون صيد سمكة واحدة، متعته الخالصة التي انتزعتها منه الحياة شيئا فشيئا..
نرشح لك: حصريا.. قصة "موت حلو المذاق" بصوت أحمد القرملاوي
يعود من الماضي إلى حاضره محملا بالأفكار والهواجس، يقرر البحث عن نفسه، عن شغفه، فيهرب دون أن يعلم أحدا إلى قريته القديمة، بحثا عن السكينة، والتطلع إلى استنشاق شىء من الهواء المنعش، والهرب من هاجس الحرب، من شكوى زوجته المستمرة وصياح اولاده، الهرب من العمل.. ومن كل شيء.
"نحن نجد الوقت لكل شىء، إلا للأشياء التي تستحق.. فكر في أي شيء يهمك حقا، واحسب عدد الساعات التي حظى بها منك والمدة التي خصصتها له من حياتك، ثم احسب الوقت الذي قضيته في الحلاقة والتنقل بالباص والانتظار في محطات القطار وسرد الحكايات الخليعة وقراءة الصحف"
وهنا نتسائل.. هل ينجح الإنسان في وقف دوران الزمن واستنشاق شيء من الهواء المنعش؟ وهل الانتعاش والسعادة في الهروب من الواقع والتخلي عن المسؤوليات، أم أنها سترافقنا لا محالة ولا فكاك منها على الإطلاق إلا إليها، فى الغوص فيها، وتحملها كاملة كما هي؟ ماذا يفعل من يستيقظ في الصباح ليجد نفسه في منتصف العمر فاقدًا لشغفه ولثقته فى جميع قدراته؟!
لقد عرض أورويل عبر شخصية "بولينج" جدل الإنسان الحديث، وتخبطه بين المشاعر، ذلك الإنسان المسكين الذي اجتاز مخاطر مهولة، خاض حروبا ليس طرفا فيها، رأى الموت بعينيه مرارا.. وكالعادة تجد صوتا في منتصف الرواية يصرخ ضد الحرب وما تفعله، يصيح فينا كي نفهم وليتنا فهمنا.
"أوقفوا إطلاق الرصاص! كفوا عن مطاردة هذا أو ذاك! اهدؤوا، وتنفسوا بعمق حتى تمتلئ رئاتكم سلاما. لكننا لا نفعل ذلك، بل نصرّ على الاستمرار فى غباواتنا".
ببراعة غير عادية يظهر أورويل في بطله متناقضات العقل البشري؛ فهو يكره زوجته طيلة الوقت يبغض شكواها يحنق على عدم اهتمامها به والاهتمام بزيادة سعر الزبد وغلاء الأسعار فقط، لكن في نفس الوقت لا يحتمل فكرة أن يصيبها أي أذى أو مكروه. يكره أولاده ويضيق بصراخهم طيلة الوقت، لكن حينما يتأملهم أثناء نومهم، تعصف فى دواخله مشاعر الحب والحنان نحوهم.
هل حقا يكره زوجته وأولاده هكذا! أم أن أسلوب الحياة في العالم الحديث يفرض علينا قسوته! يخرجنا من ذواتنا ويطفىء شغفنا، يحولنا إلى كائنات لاهثة متعبة، سريعة الانفعال! تتقن إخفاء مشاعرها، بل والسخرية منها، وإنكار وجودها! وهذا هو الحال دوما مع أورويل، يدفعك نحو التساؤل والتساؤل، والتعمق في التأمل. علنا نفهم ما توصل إليه أورويل قبلنا...
نرشح لك: عبد الرحمن السيد يكتب: أعمال جورج أورويل المخفية (1).. دع الزنبقة تطير
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب