يوسف الشريف
لا شك أن يوسف شاهين واحد من أهم المخرجين وصناع السينما ليس فقط في تاريخ مصر و الوطن العربي بل في العالم بأسره. ولا شك أن تأثير "شاهين" علي الحياة الثقافية في الوطن العربي كان تأثيرا واضحا. وأن ما قدمه لتاريخ السينما العربية يجب التوقف أمامه طويلا لنتأملها. فهو صاحب مدرسة كاملة، كما أنه معلم وأستاذ لأجيال أصبحوا من أهم صناع السينما في وطننا العربي.
ولا بد أن نسأل أنفسنا سؤالا غاية في الأهمية. بأي شيء تأثر هذا المبدع؟ وبأي قضية كان مهموما؟! فمن المعروف أن كل مبدع وفنان لا بد وأن يكون مهموما بقضية معينة هي التي يفكر فيها ليل نهار ويحاول جاهدا البحث عن إجابات لهذه الاسئلة التي تؤرقه.
وفي هذا المقال سأحاول توضيح واحدة من النقاط الهامة التي كان يوسف شاهين مهموما بها وحاول مرارا التعبير عنها في أفلامه. وهو انشغاله بقضايا ومشاكل الوطن العربي.
فحينما نسترجع تاريخ يوسف شاهين السينمائي، تجد أن من أوائل أفلامه، هو فيلم "جميلة" والذي تم إنتاجه عام 1958 وتناول واحدة من أهم قضايا الوطن العربي، وهي قضية الاستعمار الأجنبي، من خلال قصة المناضلة الجزائرية جميلة بو حيرد. وبعيدا عن قصة الفيلم التي يعرفها الكثير إلا أن "شاهين" سلط الضوء على الأهمية الكبرى لدور المرأة في مواجهة الاستعمار والاحتلال. فكما شاركت المرأة في الثورة المصرية عام 1919. وما فعلته السيدة هدي شعراوي في مواجهة الاحتلال البريطاني لبلدها مصر. كانت جميلة بو حيرد من بين مئات الآلاف الذين ساندوا جبهة التحرير الجزائرية حتي أصبح الاستقلال والمطالبة بالتحرير مطلبا رئيسيا له صوت وقوة ضد المحتل.
بدأ الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830 وقد كان هذا المحتل يحاول تغيير وتحويل هوية هذا البلد ليجعلها أرض فرنسية علي كافة الاصعدة والمستويات. واستمر الاحتلال حتي يوليو 1962 بعد نضال شرس دموي راح ضحيته الملايين. ونحن هنا أمام نقطة هامة وهي تعامل يوسف شاهين في هذا الفيلم مع قضية بمثل هذا الحجم الذي كان يحتاج إلي دقة بالغة لتأريخ مثل هذه الفترة الشائكة التي لا يمكن أن تمحي من ذاكرة الوطن العربي. كما أن شاهين يقول لنا من خلال الفيلم أن أول خطوة يجب اتخاذها للتقدم والتخلص من أي مشكلة تواجه هو خطوة تحرير المرأة من القيود والأفكار الرجعية التي تنظر إلى المرأة كعورة. وأنه لا بد من تثقيفها وتعليمها حتي يكون لها دور رئيسي وفعال تجاه مجتمعها و وطنها.
وفي كتاب "المشروع القومي العربي في سينما يوسف شاهين" يؤكد الكاتب مالك خوري هذه الحقيقة وهي تأثر شاهين إلي حد كبير بمختلف المشاكل التي تعاني منها أوطاننا العربية، وقد حاول مالك تتبع هذه الحقيقة بدراسة أفلام شاهين ومشروعه السينمائي منذ أول فيلم له "بابا أمين" 1950 وحتي فيلمه الأخير "هي فوضي" 2007 ولكن مالك خوري حدد فيلم "صراع في الوادي" 1954 وهو الفيلم السادس في مسيرة يوسف شاهين كبداية للأفلام التي تناول فيها شاهين بعض من قضايا هذا الوطن الكبير الذي يمتد من المحيط للخليج. ولكن اعتبر خوري فيلم جميلة هو الخطوة التي لفتت نظر المشاهد إلى اهتمام شاهين بالقضايا العربية.
ولا شك أن فيلم "الوداع يا بونابرت" 1985 وصف شاهين بدقة بالغة كيف تكاتف المصريون لمواجهة الفرنسيين محاولا أيضاً إظهار بعض المشاعر الإنسانية التي تعلوا فوق معاني الوطن والجنس والدين وما إلى ذلك. فنري قصة الصداقة التي جمعت بين بطل الفيلم والرجل الفرنسي. أو بطل الفيلم والفتاة الجميلة. بما يوحي بأن الإنسانية معذبة بهذه الحروب التي يدخلها القادة منساقين خلف اهوائهم ومطامعهم.
وفي فيلم الناصر صلاح الدين وهو من إنتاج عام 1963. وحين بدأ شاهين العمل في هذا الفيلم كان مناخ مصر والوطن العربي لا يزال يعاني من الآثار السلبية لفشل خلق جمهورية عربية متحدة. وهو ما سعى من أجله الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وقد وضع شاهين في الفيلم الهوية العربية قبل الاندماج الديني. ففي الفيلم تجد أن العرب لا يحاربون الصليبيين لكونهم مسيحيون ولكن لكونهم غزاة محتلون فقط لا غير. وليست هي حرب بين المسلمين متمثلين في العرب ومسيحيين متمثلين في الصليبيين. ولكن نري ايضا المسيحي العربي وهو يحارب من أجل الدفاع عن أرضه ووطنه بجوار المسلم ولذلك نري توظيف شخصية عيسى العوام في الفيلم كمستشار صلاح الدين في الفيلم مسيحي عربي. وبعيدا عن التقنيات السينمائية الجبارة وحركة الكاميرا الذين كانوا بمثابة طفرة وتحول في تاريخ السينما العربية وقتها إلا أن هذا الفيلم يحمل من الرسائل الإنسانية والنصائح إلي الوطن العربي ما نحتاج نحن أبناء هذه الأمة أن نتوقف عندها طويلا جدا ونعلم أن قوتنا ستكون فقط في اتحادنا دون أن نبالي بديانتنا أو عقائدنا فيكفي أن نكون مشتركين في أرض واحدة ولغة واحدة لنتحد معا.
وفي فيلم "الأرض" 1969 حاول شاهين التعبير عن النضال الطبقي الظاهر في مقاومة الفلاحين للإقطاعيين. وأن افتقاد الوحدة بين الفلاحين هو ما ساعد علي هزيمتهم. فنري الفلاحين وهم يتصارعون من اجل ري أراضيهم الصغيرة بدل من أن يتحدوا لمواجهة الظلم الواقع عليهم. والفكرة الرئيسية قد نراها بوضوح في فيلم شاهين التالي. وهو فيلم "الاختيار" 1970. وهو فيلم يبرز حالة الاستسلام والتراخي الذي أصاب شعور المصريين والوطن العربي بعد هزيمة 1967. والازدواجية التي كان عليها النظام وخيبة الأمل التي تلبست شعور الكثيرين آنذاك. وفي فيلم "العصفور" 1972 لا ننسي جميعا صرخة بهية التي كانت تجري في الشوارع وتقول: "لا ابداً هنحارب.. هنحارب"، حيث حاول شاهين في فيلم العصفور وضع يده علي أهم النقاط التي يعاني منها وطننا العربي والتي كانت سببا في النكسة حيث الفساد المنتشر في أجهزة الدولة وجسد وطننا وأن كل شخص لا ينظر سوى لمطامعه الشخصية. فنري أحد أبطال الفيلم وهو يقول بعد ما عرف أن بلاده خسرت الحرب إنهم لم ينتبهوا أن البلد كانت تسير نحو الهزيمة. ويحاول الفيلم بث شيء من الأمل حيث صرخات بهية التي تجعلنا نفكر كثيراً أي شيء يجب أن نحاربه. وبعد تفكير نعرف إننا نحتاج قبل أن نحارب العدو محاربة انفسنا لكي نطهرها.
ومن هذا المنظور يؤكد الكاتب إبراهيم العريس في كتابه "يوسف شاهين نظرة الطفل وقبضة المتمرد" أن شاهين لم يكن ابداً في يوم من الأيام منفصلا عن الواقع الذي يعيشه الوطن العربي أو غير متابع للأحداث التي تدور من حوله بل يتأثر بها تأثرا شديدا ومتفاعلا معها. ويوضح العريس في كتابه أن العلاقة بين شاهين والكاميرا كانت علاقة شبه حميمية للغاية فالكاميرا هي أسلوب شاهين وهي لسانه الذي يتحدث به إلى الناس ويقول لهم وجهة نظره ورأيه فيما يحدث ويقع من حوله.
وفي واحد من أهم أفلامه "عودة الابن الضال" 1976، . حاول شاهين تلخيص ما جري في وطننا العربي عن طريق ثلاث شخصيات. حيث الجد الذي لعب دوره القدير محمود المليجي وهو الشخص الذي ولد وعاش شبابه في زمن ما قبل استقلال مصر وقبل يوليو 1952 وهو إنسان كان فاقد للحرية وإلي حد كبير لا يعلم شيئا بسبب الجهل الذي فرضه الاحتلال وهو رجل عانى كثيرا من وجود الاحتلال الإقطاعي. وشخصية "علي" الذي يشير إلى الجيل الذي عاش شبابه يسمع تصريحات الرئيس عبد الناصر ويحلق في السماء بأحلامه وفجأة يهوي من فوق سابع سماء مصطدما بالواقع الأليم حيث الهزيمة. ثم الابن وهو رمز المستقبل الذي حاول شاهين أن يراه جميلا مشرقا إلي أبعد حد. كذلك حاول عن طريق عمال المصنع المواجهة والتعبير عن الخطوات التي أخذها نظام تلك الفترة حيث السبعينيات وما بعد وفاة عبد الناصر. حيث تحولت الدولة إلى الرأسمالية بدل الاشتراكية. وأيضا ظهر في الفيلم رفض شاهين لشكل العائلة البرجوازية التقليدية. ورفض السلطة المقيدة للحريات والمتمثلة في شخصية طلبة. وكلنا لا ننسي النهاية المأساوية والتي تعتبر من أجمل نهايات أفلام السينما العربية حيث يقتل أفراد العائلة الواحدة بعضهم البعض وهذه هي إشارة وتنبؤ من شاهين عن ما كان يحدث داخل بيوتنا كعرب من تفتت أسري مخيف ومن تباعد بين الدول العربية. مما حدث بعد ذلك في حرب العراق أو في لبنان. ولم ينجو من هذه النهاية الحزينة التي صنعها شاهين سوي الابن الضال وهو الشخص الوحيد الحالم بالحرية ومؤمن بالمحبة.
وفي الفيلم تأتي ناحية جمالية نراها كثيرا في أفلام شاهين ولكن تبرز في هذا الفيلم بوضوح شديد وأكدت أيضا الدكتورة رانيا يحي في كتابها "موسيقي أفلام يوسف شاهين" علي هذه الناحية الجمالية وهي استخدام شاهين للغة الموسيقي والغناء لتأكيد الرسالة التي يحتاج توصيلها للمشاهد. وكيف تساهم الأغاني والموسيقي في فهم ما يريد شاهين أن يقوله داخل الفيلم. وفي عودة الابن الضال وصل شاهين إلر ذروة أستخدام الأغاني في توصيل رسالة الفيلم.. عبر عدد من الأغاني التي كتبها الشاعر الكبير صلاح جاهين مثل (الشارع لنا) و(مفترق الطرق) و(الساعة).
وفي أفلامه المهاجر - 1994، والمصير - 1997، والآخر - 1999. حاول شاهين محاربة الأفكار الرجعية المتخلفة التي التصقت بالدين الإسلامي. وهي تلك الأفكار التي كانت سببا من الأسباب التي ساعدت على عدم النمو في أوطاننا العربية وتأخرها، واشعلت بعد ذلك فتيلا، لحروب كثيرة متعصبة هوجاء. ولعل كلمات المطرب المصري محمد منير في فيلم المصير (نتحدى يومنا بالغني) هو إجابة علي سؤال كثيرا ما شغل عقولنا.. كيف نواجه هذه الفئة التي تحاول تكفير وقتل غيرها لمجرد اختلاف في وجهات النظر وليس في العقيدة والدين فقط؟ هذا غير باقي أفلامه التي تحاول دائما أن توضح للعالم كله أن الإنسان ليس بدينه أو وظيفته أو بلده أو شكله ولكن بإنسانيته فقط. وهذا ما عبر عنه شاهين عن طريق الأغنية الشهيرة "حدوتة مصرية" والتي هي من كلمات عبد الرحيم منصور.
الحقيقة إن الحديث عن شاهين يحتاج إلي مجلدات وبالتأكيد سيكون للحديث بقية. ولكن ليس أمامنا الآن سوى الدعاء بالرحمة لهذا المبدع العظيم الذي رحل جسده ولكن بقت أفكاره المحبة للحياة باقية.
**للتواصل مع الكاتب من "هنا" أو اترك ردا بالتعليقات
بالطبع يوسف شاهين مخرج متفرد له فكر مختلف عن الآخرين فهو سابق بأفكاره الجريئه ولغته السينمائية السابقة لعصره مما يعرضه للنقد من النقاد والجمهور
ردحذفالتمرد على الواقع ورفضه ومحاولة تغييره هى قضيته الاولى
قضيته الثانيه هى المساواة
قضيته الثالتة هى الاتحاد
قضيته الرابعة هى استغلال الدين